كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الأخوان المسلمون.. والسباعي ومبارك

د. عبد الله حنا- فينكس

النشوء في مصر والحاضنة في ىسورية
بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 تراجعت أفكار "الجامعة الاسلامية"، وبخاصة بعد إلغاء منصب الخلافة في تركيا عام 1924. ومع احتدام الصراع بين حركات التحرر الوطني العربية والمستعمرين الفرنسيين والبريطانيين ضعُفت تيارات الاسلام السياسي في فترة ما بين الحربين العالميتين في الفترة التي كانت الليبرالية في المشرق العربي تشقّ طريقها في أرض مليئة بالأشواك، كما كانت الحركة القومية العربية وبخاصة في بلاد الشام والعراق تحقق مكاسب في ميادين متعددة.
في تلك الفترة 1918 – 1945 وُجدت في المشرق العربي تيارات اسلامية (سياسية عموما) ضعيفة تركزت بخاصة في مصر وهي: حزب مصر الفتاة، الإخوان المسلمون، تيار اسلامي يعربي عبّر عنه شكيب ارسلان (وهو لبناني كان له حضور ثقافي في مصر)، تيار ليبرالي تمثل بكتابات علي عبد الرازق.
وفي ذلك الحين وُجِدت في مصر ثلاث قلاع اسلامية هي:
- الطرق الصوفية، التي أخذ نفوذها يتقلّص بعد 1945.
- الأزهر الشريف، الذي تراجع عن دوره الوطني، الذي مارسه في ثورة 1919 في مصر.
- مدرسة المنار ورئيس تحريرها الشيخ محمد رشيد رضا الطرابلسي (اللبناني) المولد والشامي النشأة. والمنار كما ذكرنا هي امتداد لتيار السلفية النهضوية الممثلة في الأفغاني ومحمد عبده. ويلاحظ أن المنار مرّت في أدوار مختلفة بين التنوير والمحافظة. وفي أطوارها الأخيرة ابتعدت المنار عن سلفيتها التنويرية وارتدت أثواباٍ سلفية محافظة بعد إلغاء الخلافة عام 1924، مع احتفاظها ببقايا من النزعة العقلانية، إلى حين توقفها عام 1936 مع وفاة مؤسسها رشيد رضا.
وجاء حسن البنا واستقى من المنار اتجاهها السلفي المحافظ مبتعدا عن سلفيتها التنويرية، وقام بتأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928. ومن مصر انتقلت افكار الإخوان المسلمين إلى سورية ولم تلق رواجا مماثلا في العراق في أوساطه السنية.
ومع أن الشيخ رشيد رضا المقيم في مصر، استمر يدعو إلى الجامعة الإسلامية على صفحات جريدته المنار، إلا أن حركة الجامعة الإسلامية لم تَسْتَعِدْ نشاطها في بلاد الشام إلا بعد الحرب العالمية الثانية. أما في فترة ما بين الحربين العالميتين فكانت حركة الجامعة الاسلامية ضعيفة في وقت كانت تزدهر فيه أفكار الحداثة القومية والليبرالية والعلمانية والعقلانية في أوساط البرجوازية الصاعدة والمثقفين المتأثرين بالغرب البورجوازي ومن ثمّ الإشتراكي. وقد استطاعت البرجوازية في البلدان العربية (سورية، مصر والعراق) التي تزعّمت قيادة الحركة الوطنية، استخدام الشعور الديني الاسلامي لتأجيج النضال ضد المستعمرين الأوروبيين وتوجيه هذا الشعور وجهة وطنية. أي أن شكل الشعور كان دينياً وجوهره العام كان وطنياً معادياً للاستعمار. وقد عرقل ذلك نشاط أنصار الجامعة الإسلامية على النمط العثماني، وحدّ من نفوذهم بين الجماهير المؤمنة. ومع هذا فإن بذور حركة الجامعة الإسلامية أخذت في الظهور منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين في مصر، وأواسط ثلاثينيات القرن العشرين في سورية متمثلة في حركة الأخوان المسلمين.
ويمكن القول ان حركة الاخوان المسلمين قامت على تبني المبادئ السلفية الكبرى وإعادة التفكير فيها قصد بلورتها وتجذيرها، ولكنها سارت في اتجاه الإيغال في الماضي وبحث سائر القضايا من منظار فترة زمنية محدودة تختلف ظروفها عن الواقع الاسلامي المعاصر. فسلفية الإخوان المسلمين في مصر هي إلغاء لحركة التاريخ ونقلة إلى الخلف بالنسبة للسلفية التنويرية.
وتأتي حركة الإخوان المسلمين في سورية في منزلة بين منزلتي: السلفية المُغرِقة في محافظتها والسلفية التنويرية معبّرة في ذلك عن واقع الأجواء الشامية المتصفة بالتنوع الطائفي والمذهبي والإثني. كما أخذ إخوان سورية بعين الاعتبار نهوض حركة القومية العربية واكتسابها أفئدة شباب منتصف القرن العشرين. يضاف إلى ذلك طبيعة الحركة السلفية في بلاد الشام، التي اكتست ثوبا نهضويا اشرنا إليه في فصل سابق.
ولهذا تميزت الحركة الاسلامية في سورية ممثلة بالاخوان المسلمين بالإعتدال ومراعاة الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة وانجبت فكرا سنرى معالمه بعد قليل. أما تيار العنف الذي ظهر داخل الحركة الإسلامية للإخوان المسلمين في سورية وسيطر في ثمانينيات القرن العشرين فله ظروفه التي نما فيها وهذا ما سنتناوله في فصل لاحق. وسنرى في فصل لاحق أيضا أن التيار التجديدي الوسطي استعاد في مستهل القرن العشرين خطه الوسطي المسالم مطعّما بنزعات نهضوية تُعقد عليها الآمال.
******
الإخوان المسلمون في سورية
انتقلت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية بشكلها الحديث من مصر إلى سورية عن طريق عدد من الطلاب السوريين، الذين كانوا يدرسون في مصر ولا سيما في الأزهر. واتخذت هذه الحركة أسماء مختلفة باختلاف المدن. فأسس عمر بهاء الأميري وعبد القادر الحسيني أول مركز اسلامي باسم (دار الأرقم) في حلب سنة 1935. ثم توالى تأسيس المراكز في المدن السورية كل مركز باسم خاص ورخصة خاصة. فتأسست جمعية الشبان المسلمين في دمشق وعلى رأسها محمد المبارك وبشير العوف. وجمعية الرابطة في حمص وسكرتيرها مصطفى السباعي، وجمعية المكارم في القدس فجمعية الأخوان المسلمين في حماة ومؤسسها عام 1937 الشيخ محمد الحامد وغيرها. وكانت مع تعدد الأسماء تشكل جماعة واحدة وتعارفت فيما بينها على التسمي (بشباب محمد). وقد عقدت هذه الجمعيات أول مؤتمر لها في حمص عام 1937 وعقدت مؤتمرها الثاني في دمشق سنة 1938وتلاه المؤتمران الثالث والرابع. قررت هذه المؤتمرات إحداث منظمتي الفتوة والسرايا في كل مركز للعناية بالنواحي الرياضية والاقتصادية والثقافية.
المؤتمر الخامس المنعقد في دمشق 1945 أقرّ استبدال اسم شباب محمد بالإخوان المسلمين، وانتخب لجنة مركزية اختارت مصطفى السباعي مراقبا عاما، واكتمل في هذه المؤتمر الهيكل التنظيمي للإخوان المسلمين وقامت مؤسسات تدعم نشاط الجماعة مثل: المعهد العربي بدمشق شاملا مراحل التعليم الثلاث.. دارا للطباعة.. صحيفة المنار الدمشقية الناطقة باسم الإخوان المسلمين والصادرة في دمشق عام 1946.. إنشاء شركة نسيج في حلب.
خاض الإخوان المسلمون انتخابات المجلس النيابي لعام 1947 وفاز بعضهم ومنهم محمد مبارك عن دمشق. كما شاركوا في انتخابات 1949 باسم الجبهة الإشتراكية الإسلامية، التي اعلنت في بيانها الإنتخابي أنها تعمل لتحقيق الإشتراكية، التي دعا لها الإسلام. وقد فازت الجبهة بعشرة مقاعد، وكان لها حضور بارز في برلمان 1949 وبرز من خطبائها المراقب العام للإخوان المسلمين مصطفى السباعي. وتسنم محمد مبارك وزارة الأشغال في حكومة خالد العظم. ولم تتوان الجبهة الإشتراكية الإسلامية في الدفاع عن حقوق الفلاحين، ورفضت بحياء استغلال كبار ملاك الأرض للفلاحين.
يلاحظ تواتر عقد المؤترات سنويا مما يدلّ على حيوية الجماعة وعزمها على تكثيف نشاطها وبلورة أفكارها. وبدا ذلك واضحا في المؤتمر السادس المنعقد في يبرود عام 1946 الذي حدد أهداف الإخوان المسلمون في النقاط التالية:
تحرير الأمة وتوحيدها وحفظ عقيدتها على اساس الاسلام.. اصلاح المجتمع.. محاربة الاستعمار بالتعاون مع الهيئات المختلفة.. محاربة محاولات التفرقة بين الطوائف.. اصلاح جهاز الدولة بتنفيذ القوانين دون محاباة.
مع أواخر أربعينيات القرن العشرين وأوائل خمسينياته تبلورت شعارات ومبادئ الإخوان المسلمين في الأفكار والمنطلقات التالية:
- يعتقد الإخوان المسلمون ان في الاسلام كل عناصر النهضة وانه جاء بمنهج شامل للاصلاح.
- تستهدف دعوة الاخوان المسلمين الأمور الرئيسية التالية: إصلاح الفرد إصلاح الاسرة اصلاح المجتمع بإقامة نظم عادلة بين الافراد والجماعات كفاح الاستعمار توحيد العرب والمسلمين بتكتل العالم الاسلامي في اتحاد سياسي واقتصادي... وللوصول إلى هذه الأهداف الاعتماد على عنصر الأخلاق وعنصر الدين
- شعار الاخوان المسلمين "الاسلام دين ودولة، مصحف وقرآن، مسجد ومدرسة، قانون وآداب، عدالة وإخاء، مادة وروح، دنيا وآخرة
- ليس الاخوان المسلمون حزبا سياسيا بالمعنى المفهوم من كلمة الحزب وإنما هم دعاة الاسلام آمنوا به على انه رسالة الانقاذ والتحرر والقوة والحضارة.
- الاخوان يبشرون بالاشتراكية الاسلامية ويدعون إلى انصاف الطبقات المظلومة وإلى تنفيذ أحكام الاسلام في نظامه المالي، ويقفون في وجه الاقطاعية المجرمة.
- نحن لسنا جمعية خيرية ولسنا جمعية وعظية ولسنا حزبا سياسيا تنحصر مهمته في جمع الناس حوله انما نحن أداة انقلاب اصلاحي فكري وعملي شامل.. دعاة دين ولسنا دعاة طائفية والدين إخاء والطائفية عداء.. دعاة اصلاح اجتماعي.
*******
مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين
الشخصية البارزة في تاريخ الإخوان المسلمين السوريين كان مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية بين عامي 1945 و 1964 تاريخ وفاته.
ولد مصطفى السباعي في حمص عام 1915 وكان والده واجداده يتولون الخطابة في الجامع الكبير. تاثر في صباه بما كتبه محي الدين الخطيب عام 1928 في صحيفة الفتح، التي - كما قال السباعي - كانت همزة الوصل بيننا وبين اقطار الاسلام. تخرج السباعي من المدرسة الشرعية في حمص عام 1930 وكان على صلة بالرابطة الدينية التي اسسها بعض العلماء.. وقد بدأت موهبة الخطابة تظهر لدى الفتى السباعي في سنٍ مبكرة. يبدو ذلك جليا في الخطبة التي ألقاها الفتى السباعي عام 1929 في المسجد الجامع في حمص، حيث حمل فيها على خميس المشايخ وسماه خميس الشعوذة، فتألبت عليه العامة واتهموه بالكفر. فعلق والده على ردود الفعل على خطاب ابنه مخاطبا وناصحا إياه بالتروي: هذه البدعة عمرها أكثر من خمسة قرون.
عام 1933 يمم السباعي شطر مصر للدراسة في جامعة الأزهر، وهناك تعرّف على حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين وقائدها وتأثر به وبحركة الإخوان المسلمين الصاعدة.
أثناء العطلة الصيفية من عام 1936 ألقى مصطفى السباعي محاضرة في حمص تحت عنوان: (أثر الشباب في نهضات الأمم)، طلب فيها من الشباب التحلي بالصفات الآتية:
التدين.. الرجولة.. الإخلاص.. الثبات.. التضحية.. الإخاء والمحبة بين الشباب العامي منهم والمتعلم وابن المدرسة والغني والفقير وخاصة بين المسلم والمسيحي.
وبعد عودته من مصر انخرط السباعي في العمل الدعوي واستقبل عام 1942 سعيد رمضان أحد قادة الإخوان في مصر، الذي اسهم مع السباعي في شد أزر حركة الإخوان المسلمين في سورية وبلورة أهدافها. ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى أصبح مصطفى السباعي عام 1945 المراقب العام للإخوان المسلمين. وبعد ذلك بثلاث سنين زار حسن البنا دمشق في 23 آذار 1948 ليرى ثمرة جهوده في نشر الدعوة في سورية.
أسس السباعي جريدة المنار في دمشق عام 1946 وانتُخِب في عام 1949 نائبا في البرلمان السوري وكان عضوا بارزا في لجنة صياغة دستور 1950. وعُيّن استاذا بكلية الحقوق وقام عام 1955 بما يملكه من نفوذ فكري وسياسي بتأسيس كلية الشريعة في الجامعة السورية ولم يحل نشاطه السياسي دون نشاطه الفكري القيّم.
في منتصف أيلول 1947 ألقى مصطفى السباعي خطابا في حماة دعت إليه جماعة الإخوان المسلمين. ورغم طول الخطاب لم يتطرق السباعي إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تمور بها حماة وريفها، وأغفل الحديث عن استثمار إقطاعيي حماة الشنيع للفلاحين تجنبا لمقاومتهم لحركته. واقتصر حديثه على الأمور السياسية و "مشاكل العرب الحاضرة". وفي هذا الخطاب حمل السباعي على انكلترا عدوة العرب والاسلام. كما حمل على السياسة الأميركية الجديدة، التي تؤازر اليهود وأعلن معارضته لمشروع سورية الكبرى، وختم خطابه بالحديث عن تآمر الانكليز والأميركيين مع اليهود.
وكمثال عن ابتعاد معظم كتابات قادة الإخوان المسلمين عن الحديث عن المسألة الزراعية وما يتفرع عنها من الملكية الإقطاعية للأرض ما نشرته جريدة العلم الدمشقية في 29 حزيران 1950 عن النشاط السياسي في حماة تناول مختلف الأحزاب والتيارات. وقد جاء في المقال المذكور أن "الأنصار والإخوان المسلمين مقتصر نشاطهما على الصيام والزكاة والصلاة".
والواقع أن سياسة الإخوان المسلمين لم تقتصر على أمور العبادات بل دخلت معترك الحياة السياسية في كثير من الأحيان. فقد دفعت أجواء الحرية السياسية والمناخ الوطني والعروبي السائد في سورية آنذاك إلى دخول الإخوان المسلمين معترك الحياة البرلمانية واشتراكهم في النشاطات السياسية بعيدا عن العنف واستخدام السلاح أو الاغتيال كما كان حال بعض أجنحة الإخوان المسلمين في مصر، وكما تحوّل قسم من شباب الإخوان في سورية إلى الطليعة المقاتلة في أواخر سبعينيات القرن العشرين.
وفي انتخابات 1949 خاض الإخوان، كما رأينا، المعركة تحت لافتة "الجبهةالاشتراكية الاسلامية"، التي جاء في بيانها الانتخابي أنها سوف تعمل لتحقيق الاشتراكية التي دعا لها الاسلام. وقد تمكّن السباعي بيسر أن يفوز بأحد المقاعد النيابية في الجمعية التاسيسة لعام 1949 نائبا عن دمشق. وكان للسباعي صولات وجولات أثناء مناقشة مواد الدستور، الذي أُقرّ عام 1950. وسننقل ما تمكنا من جمعه حول آراء السباعي في فترة الجمعية التاسيسية في عامي 1950 و 1951.
بتاريخ 12 أيار 1950 نشرت جريدة المنار الدمشقية، وهي جريدة الإخوان المسلمين كلمة مصطفى السباعي عن الجبهة الاشتراكية الاسلامية في الحفلة التي أقامتها الجبهة يوم 6 أيار 1950. ومما قاله السباعي:
"إن من واجبنا أن نسير على أمرين الأول تقوية الروح والأخلاق في الأمة، والثاني رفع مستوى الفرد والمحافظة على كرامته.. ونحن نحترم الأديان والعقائد، كما أننا نفرق بين العقيدة والتعصب الطائفي. وهذا الأخير نحاربه حربا لا هوادة فيها. وأما من الناحية المادية، فنحن نؤمن بالاشتراكية المعتدلة وهي اشتراكية الاسلام".
بتاريخ 13 كانون الأول 1950 نشرت جريدة المنار مبادئ الجبهة الاشتراكية الاسلامية كما حددها السباعي لجريدة الأحد اللبنانية ومنها: "تحرير الوطن العربي من الاستعمار تحريرا تاما.. وحدة البلاد العربية في حدودها الطبيعية.. الأمة العربية ذات رسالة في الحياة حررت بها الدنيا يوم استلمت قيادة الحضارة.. التعاون مع الأقطار الإسلامية والاحتفاظ بنفوذها الثقافي والروحي والمادي في هذه الأقطار.. ندعو إلى نهضة شاملة تقوم على اربعة أسس: الإيمان والعلم والأخلاق والقوة.. نعمل لتحقيق العدالة الاجتماعيةعلى الأسس الاشتراكية المعتدلة التي جاء بها الاسلام".
اُثناء مناقشة بيان رئيس الوزراء خالد العظم في جلسة المجلس النيابي بتاريخ 29 نيسان 1950 قال النائب مصطفى السباعي:
"إذا كان رضوخ الجامعة العربية لإرادة المعسكر الأنجلو أميركي أدى بنا إلى هذه الكوارث... أليس من حقنا أن نفكر بالتحول إلى المعسكر الآخر؟ وما الذي يمنعنا من ذلك؟.. الم تساعد انكلترا وأمريكا اسرائيل لأن مصلحتهما تقضي بذلك؟ فلماذا يُنكر علينا الاتجاه وفق مصلحتنا إلى المعسكر الروسي.. فلتكن روسيا ما تكون، أي شيء يمنعنا من التعاون معها لندفع خطر اليهود.. نحن حين نعلن وجوب الاتفاق مع روسيا لمصلحتنا لا نريد بذلك أن نكون شيوعيين، وإنما نريد أن نستفيد من كل جهة تمد إلينا يدها.. نريد أن نتحرر من الخضوع لجهة واحدة ومعسكر واحد. ولعل من المناسب أن أقول الآن أنني وانا أدعو إلى التعاون مع االمعسكر الروسي تجاريا وعسكريا وسياسيا لست شيوعيا ولا من دعاة الشيوعية، بل إن أحدا لم يتعرض لخصومة الشيوعيين في بلادنا كما تعرضت أنا لذلك. ولكني كنت افرق بين معالجة أمر داخلي وبين الاستفادة من روسيا في الميدان السياسي".
وفي جلسة المجلس النيابي المنعقدة في 10 آب 1950، وردا على بيان الحكومة في الانحياز إلى أمريكا في حربها الكورية ضد كوريا الشمالية الشيوعية، أعلن السباعي: "أن لا مصلحة لسورية ولا للشعوب العربية في الصراع القائم بين المعسكرين ولا مصلحة لنا في اعلان انحيازنا إلى أحد المعسكرين، وأن سياسة الانحياز إلى المعسكر الغربي جرّت علينا المصائب".
لمع اسم السباعي أثناء مناقشة مواد دستور 1950 في المجلس النيابي كشخصية إسلامية وازنة مترعة بحب الوطن وحريصة على سلامة البلاد وهدوئها وتطورها السلمي، متفهمة للتوازنات الإجتماعية والسياسية، ومدركة لوضع سورية وما تحويه من أقليات دينية (مسيحية) ومذهبية (علويون، دروز واسماعيليون):
فأثناء مناقشة مواد الدستور ظهر الخلاف عميقا بين النواب في أمرين:
- الموقف من الملكية الإقطاعية للأرض. وهنا وقف السباعي موقفا وسطا من مسالة تحديد الملكية الزراعية.
- الموقف من دين الدولة وتحديده بالإسلام أو عدم الإشارة إلى دين الدولة. وكان من الطبيعي أن يقف السباعي إلى جانب النص المحدد لدين الدولة بالإسلام. ولكن الليبراليين واليساريين السنة ومعهم نواب الأقليات دعوا وبتشدد إلى عدم النص على دين الدولة. وانتقلت المعركة من الشارع إلى الصحف وفئات المجتمع المختلفة. وبعد صراع كاد يهدد البلاد بكارثة، جرى التوافق على صيغ وسطية لعب السباعي دورا في انجاحها. وتمّ الإتفاق على أمرين:
- إضافة الفقرة التالية إلى مقدمة الدستور: "لما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا".
- إدراج النصوص التالية على المادة الثالثة وهي:
"دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. حرية الاعتقاد مصونة. والدولة تحترم جميع الأديان السماوية. وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام. الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية".
لم يرض هذا التوافق، الذي جرى في لجنة الأحزاب المؤلفة من ثمانية نواب ووافق عليه المجلس النيابي في جلسة 4 – 7 – 1950، رابطة العلماء، التي أعلنت معارضتها لنص المادة الثالثة من الدستور. وهنا رفع مصطفى السباعي - المراقب العام للإخوان المسلمين رئيس الجبهة الإشتراكية الإسلامية وعضو لجنة الأحزاب، التي صاغت هذه النصوص التوافقية - راية الوحدة الوطنية ورد على رابطة العلماء بمقال جاء فيه: "إن هذه النصوص حققت وحدة الصف ودفعت عن الوطن كارثة إنقسام طائفي لا يرضى به كل متدين عاقل وكل وطني مخلص".
******
مصطفى السباعي واشتراكية الإسلام
يلاحظ أن حركة الأخوان المسلمين في سورية سعت، بعد الاستقلال، لعدم الاصطدام العنيف مع التيارات القومية. ومع صعود شعبية الأفكار الاشتراكية لم تتوان جماعة الإخوان المسلمين، كما رأينا، من دخول الانتخابات تحت علم الجبهة الاشتراكية الاسلامية وتشكيل كتلة نيابية بهذا الإسم.
وعلى هذا الخط السياسي استمر مصطفى السباعي مناديا بالإشتراكية الإسلامية أو اشتراكية الإسلام. ويتبدى ذلك "الخط الاشتراكي الاسلامي" في كتابه "اشتراكية الإسلام" الصادر عام 1959 عن مطبعة جامعة دمشق.
وهذا الكتاب هو إحدى خلاصات أفكار المراقب العام للإخوان المسلمين آنذاك. وتعكس مقدمة الكتاب الأجواء السائدة في الأوساط الاسلامية حول الموقف من الاشتراكية. وفيما يلي بعض فقرات المقدمة:
"لقد سميت القوانين والأحكام التي جاءت في الإسلام لتنظيم التملك وتحقيق التكافل الإجتماعي باشتراكية الإسلام وأنا أعلم أن بعض الغيورين على الإسلام يكرهون هذه التسمية، لأن الإشتراكية في رأيهم هي "موضة" هذا العصر فلا يصح أن نبادر إلى القول بالاشتراكية الإسلامية تمشيا مع هذه "الموضة"! ولأنه قد يأتي زمن تبطل به هذه "الموضة"، ويسود القول بمذهب اقتصادي آخر، فنضطر حينئذ إلى العدول عن القول باشتراكية الإسلام... أيضا فالإسلام نظام مستقل قائم بذاته وقد سماه الله "إسلاما" فلا يجوز لنا أن نسميه باسم جديد!
ومن الناس من ينكر أن تكون في الإسلام أية نزعة اشتراكية.. وبعضهم يظن أن الإسلام دين رأسمالي وهؤلاء هم الجاهلون بالإسلام مع حبهم له... ويقوله غيرهم خدمة للغربيين ومن يدور في فلكهم من الأغنياء من ذوي الثروات والملكيات الكبيرة وهؤلاء هم المتاجرون بالدين يضعون أنفسهم ي خدمة من يستأجرهم".
لقد اخترت القول باشتراكية الإسلام لأني لا اعتقد أن الاشتراكية موضة "ستزول بل هي نزعة انسانية تتجلى في تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أقدم العصور، وتسعى شعوب العالم الحاضر – وخاصة الشعوب المتخلفة – إلى تحقيقها لتخلص من فواجع الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي الفاحش المزري بكرامة الانسان"....
إن هدف الاشتراكية على اختلاف مذاهبها هي منع الفرد من استغلال رأس المال للإثراء على حساب الجماهير وبؤسهم وشقائهم، وإشراف الدولة على فعالية الفردالإقتصادية ومراقبتها له، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين المواطنين.
وما دام الناس في مختلف الشعوب يتوقون إلى تحقيق ذلك الهدف ويتهافتون على المذاهب الاشتراكية المعروفة اعتقادا منهم بأنها هي الطريق الوحيد لتحقيقه، أفلا يجب علينا أن ندلهم على طريق آخر لا يعرفونه لتحقيق ذلك الهدف العظيم... إن ما نعرضه في هذا البحث هو "التشريع الإسلامي" الذي جاء لتحقيق ذلك الهدف...
إن اشتراكية الإسلام لو طُبقت في مجتمعنا لاستفاد منها جميع المواطنين من مسلمين ومسيحيين... وليس الأخذ بها انتصارا لدين على دين، ولا افتئاتا من المسلمين على المسيحيين، انها ثروة تشريعية رائعة..."
رداً على مصطفى السباعي، الذي قال في كتابه إن "الكون كله لله" اعتماداً على قوله تعالى "ولله ملك السموات والأرض"، نشر صيف 1962 محمد حمدي الجويجاتي إمام جامع الروضة بدمشق كتابا في الردّ على الدكتور مصطفى السباعي في كتابه "اشتراكية الاسلام" وكان واضحا أن الجويجاتي يتكلم باسم الرأسمالية الكبيرة، التي تلقت بعد تأميمات تموز 1961 ضربات أليمة. وفي رأي جويجاتي أن "تطبيق الاشتراكية مناقض لحكم الله وحكمته". وهذا الرد كرره وصرّح به كثير من علماء الدين المسلمين في سورية في أعقاب انفصال سورية عن مصر خريف 1961.
والواقع أن السباعي لم يكن الشخصية الاسلامية الأولى التي حاولت الجمع بين الاسلام والاشتراكية. فمحمد مهدي الاستنبولي أصدر في دمشق عام 1946 كتاب "الاشتراكية الاسلامية" التي اعتبرها مذهبا وسطا جمع محاسن المذهبين.
والاشتراكية الاسلامية، التي تدعو لها تيارات الإخوان المسلمين تختلف مفاهيمها من كاتب لآخر. فهي عند السباعي "حقوق طبيعية لكل مواطن وقوانين لضمان هذه الحقوق وتنظيم طرقها وقوانين للتكامل الاجتماعي "مع تأكيد أن الكون كله لله. وهي عند البهي الخولي من مصر الاعتدال في كل شيئ وهي لا تقوم على أساس حرب رأس المال ونضال الطوائف والطبقات وهي اشتراكية مرنة معقولة متدينة "تقرّب" الشقة بين مختلف الطبقات تقريبا وتقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع.
وجميع المنادين بالاشتراكية الاسلامية يرون في الزكاة أحد مبادئ الاشتراكية الاسلامية. والزكاة – بالإضافة إلى تحريم الربا والغش وانصاف العمال ومنع الاحتكار وتسعير الانتاج ومنع المنافسة الجنونية هي من قيود الملكية في الاشتراكية الاسلامية.
وعلى الرغم من هذه الدعوة إلى الإشتراكية الإسلامية فإننا لم نعثر على رأي مكتوب للمنادين بالاشتراكية الاسلامية يدينون الملكية الاقطاعية الكبيرة ويدعون إلى الاصلاح الزراعي. وقد تجنب الإخوان المسلمون في وثائقهم – حسب علمنا – الخوض في مشكلات المسألة الزراعية والعلاقة بين الاقطاعيين المستثمِرين والفلاحين المستثمَرين.
عموما لم يتعدّ نشاط الإخوان المسلمين في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين المدن والقرى الكبيرة ذات الملكيات الفلاحية، ولم يكن لهم نشاط في القرى المملوكة من الإقطاعيين. وكان الوسط الاجتماعي الذي نشط الإخوان المسلمين في صفوفه آنذاك هو وسط الفئات المتوسطة المتدينة.
يظهر ذلك جليا من خلال كلمة مصطفى السباعي عام 1950، التي جاء فيها: "أنا لست بحاجة إلى دعاية انتخابية بين الفلاحين لأن الوسط الذي انتخبني لا يحتاج إلى تطبيق هذا المبدأ"، أي وضع سقف للملكية الزراعية. وفي الوقت نفسه طالب السباعي "بتوزيع أملاك الدولة الخاصة والعامة على الفلاحين باسعار رخيصة وإجبار المتصرف بالأراضي الأميرية على فلاحتها مع العدالة الاجتماعية التي قالت بها الديانات السماوية...".
 
********
محمد مبارك
والتيار الإسلامي الوطني العروبي
نشأ محمد مبارك في جو اسلامي دمشقي عام 1912. وكان جده من علماء اللغة العربية وله نثر وشعر. والده الشيخ عبد القادر مبارك من علماء اللغة والأدب وكان عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق.
بعد أن انهى مبارك دراسته الثانوية أوفدته الدولة عام 1935 إلى جامعة السوربون لدراسة الأدب الفرنسي وعلم الإجتماع وتعرّف عن كثب على الثقافة الفرنسية واتجاهاتها. وبعد عودته من باريز عام 1938 قام بتدريس الأدب العربي في حلب ومن ثمّ دمشق.
انتخب نائبا عن دمشق في ثلاث دورات انتخابية: 1947 و 1949 و 1954. وفي عام 1954 عُيّن استاذا في كلية الشريعة في الجامعة السورية واستمر في التدريس فيها حتى عام 1968، حيث عيّن استاذا لقسم الشريعة والدراسات الإسلامية في في كلية الشريعة بمكة المكرمة.
محمد مبارك من مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين، ثمّ انصرف للتدريس والتأليف، ومن مؤلفاته: المجتمع الإسلامي المعاصر، جذور الأزمة في المجتمع الإسلامي، نحو إنسانية سعيدة، بين الثقافتين: الغربية والإسلامية..
***
مثّل الإخوان المسلمون في سورية، كما ذكرنا، تياراٍ معتدلا بالمقارنة مع إخوان مصر. وعاش تيار الإخوان المسلمين في سورية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين في أجواء النضال الوطني والقومي العربي وتأقلم مع تلك الأجواء، وما سادها من ديموقراطية وحوار بين الأفكار. كما سعى الإخوان لكسب الجماهير المتطلعة إلى الاشتراكية عن طريق الدمج بين الاسلام والاشتراكية.
في احد أيام ربيع 1955 كنت في عداد وفد من طلاب الجامعة السورية قام بزيارة محمد مبارك النائب في المجلس النيابي. الزيارة إلى منزل مبارك في الجسر الأبيض تمّت بناء على مخابرة هاتفية بينه وبين أحد طلاب الوفد. كان الوفد مؤلفا من خمسة عشر طالبا جامعيا استقبلهم مبارك بوجه بشوش وتواضع يأسر القلوب. كنت البادئ بالحديث حول الغرض من زيارتنا وهي الاستفسار عن ما ورد في تصريح صحفي لمبارك بأنه يؤيد الحلف التركي العراقي المدعوم من الاستعمار. ابدى مبارك استغرابه وشن حملة شعواء على الحلف الاستعماري. في ختام الزيارة وقف مبارك أمام باب بيته وودعنا فردا فردا. وفي اليوم التالي قرأنا في الصحف تصريحا لمحمد مبارك جاء فيه: زارني وفد من طلاب الجامعة مستفهما حول تصريحي الصحفي بتأييد الأحلاف العسكرية. إنني أعلن رفضي لهذه الأحلاف وآسف لتحوير الصحفي لكلامي...
وظهرت في صفوف الإخوان المسلمين في سورية أو في صفوف الشخصيات المحيطة بهم أصوات لم تناد باشتراكية الاسلام فحسب بل دعت إلى التعاون مع الاتحاد السوفيتي إن كان ذلك في مصلحة العرب. ونضرب مثلا على ذلك ما قاله محمد مبارك ردّاً على الشيخ عبد الرؤف أبو طوق (ممثل أحد التيارات الاسلامية اليمينية المنغلقة على ذاتها) بما يلي:
"...إن الخوف من الشيوعية ليس علينا نحن ابناء الشعب بل على إقطاعياتهم وعروشهم وزعاماتهم وثرواتهم التي باعدت بيننا وبينهم... والاسلام يجيز مسالمة الدول الأخرى ولو كانت مخالفة له في المبدأ والعقيدة ويجيز مصادقتها...".
وقرأ مبارك فقرة من كلمة قالها في اجتماع شعبي في دمشق في عام 1949 كممثل للجبهة الاشتراكية الاسلامية، ما يلي:
"...إن علينا أن نعادي من ناصبنا العداء حتى اليوم وأن نبدأ على الأقل بصداقة من صادقنا ونفترض أن هناك أموراً ماضية بيننا وبينه ولكنه قد بدأ بصداقة فلنبدأ بصداقة جديدة. أما موضوع العقائد والمبادئ والأنظمة فذلك موضوع داخلي نعالجه بأنفسنا وفيما بيننا. ولنعتقد أن هذا موقف الاسلام في هذا الموضوع".
وأردف مبارك في الجلسة ذاتها بتاريخ 6 تشرين الأول 1955 قائلا: "... والشيوعية من الوجهة الدولية دولة ذات قوة نسالمها إن سالمتنا ونصادقها إن صادقتنا... للشيوعية عقيدتها ولنا عقيدتنا لهم دينهم ولنا ديننا. والاشتراكية مذهب إقتصادي يمكن أن نستفيد من بعض نواحيه".
أواخر عام 1959 نشر محمد مبارك كتابا تحت عنوان: "الأمة العربية في معركة تحقيق الذات" جاء فيه: "لئن كان كل مسلم يعتبر الاسلام دينه الذي يدين به في هذه الحياة فإن كل عربي، مهما كان دينه مسيحيا كان أم مسلما، ينظر إلى الاسلام على أنه تراثه القومي وتاريخه الضخم. وليس الوقت يتسع لأقرأ لكم ما قاله كبار كتاب العرب من المسيحيين في هذا الباب كأمين نخلة وجميل صليبا والشاعر القروي رشيد الخوري ونبيه فارس وجورج انطونيوس وفليكس فارس وغيرهم".
أولى الشيخ محمد مبارك اهتمامه فيما كتب إلى إلى محاور ثلاثة كانت نموذجا معتدلا عقلانيا للتنظير الفقهي السياسي وهي: مفهوم الأمة والقومية، تركيبة المجتمع السوري (الدينية والعرقية واللغوية)، ونظام الحكم والدولة في الإسلام.