كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

في نظرية العقد الاجتماعي.. 3من3

مروان حبش- فينكس

أدت نظرية العقد الاجتماعي دوراً كبيراً في تطور الفكر السياسي والمجتمعات السياسية حيث مهدت الطريق لضرورة تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين على أسس موضوعية، كما كان لهذه النظرية الفضل في إقرار كثير من مبادئ النظرية الديمقراطية مثل الإرادة الشعبية، وتقرير الحرية السياسية وسيادة القانون، ورقابة المحكومين على الحكومة، حيث يمكن القول بشكل عام إن الكثير من الدول التي أخذت بمبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق السياسية وبالأخص حق الانتخاب كانت متأثرة ببعضها.
ورغم مزايا نظرية العقد الاجتماعي، فإنها تتعرض للعديد من الانتقادات والنقد، وأنها لا تفسر بشكل مقنع نشوء الدولة، كما أنها لا توفر أسباباً شافية لبقاء واستمرار الاجتماع السياسي.
انتقادات نظرية العقد الاجتماعي
تتعرض نظرية العقد الاجتماعي لانتقادات شديدة من قبل بعض النقاد والمفكرين، لمجموعة من الأسباب. فمن بين هذه الانتقادات الحديثة عن خلافية تلك النظرية مع بعض الحقائق العلمية والتاريخية، إذ لم تعمل على إثبات صحة الافتراضات التي جاءت بها، ولم تقدم الأدلة المناسبة التي تؤكد نظريتها. كما ينتقد البعض مضمون النظرية نفسها، إذ يرون أنها تخلط بين الفرد والمجتمع، ما يجعلها غير قادرة على حل المشاكل الاجتماعية المعاصرة. كما يعتبر البعض هذه النظرية فلسفية وخيالية بطبيعتها، وليست علمية، ما يجعلها تعاني من صعوبة في التحليل العلمي والتفسير الحقيقي. وفي النهاية، يعتبر المنتقدون أن هذه النظرية لا تؤسس لمجتمع حر وديمقراطي، بل تؤدي إلى فرض سياسات دكتاتورية واستبدادية على المجتمعات على الرغم من تأثيرها الدائم، ويجادل البعض بأن النظرية لم تكن موجودة من قبل وأن مفهوم الموافقة يمثل مشكلة خاصة في الحالات التي يكون فيها للأفراد خيارات محدودة أو يجبرون على الدخول في العقد الاجتماعي. ويشكك آخرون في الافتراض القائل بأن الأفراد يتنازلون عن حقوقهم وحرياتهم طواعية، بحجة أن اختلال توازن القوى والتفاوتات الاجتماعية يقوض فكرة التوصل إلى اتفاق طوعي حقيقي. ويجمعون على:
1- أنها نظرية فلسفية تستند إلى الافتراض، وهي فكرة خيالية فالتاريخ لا يبرهن على صوابها إذ لم يبين لنا متى اجتمع الناس وتعاقدوا على إقامة الدولة، ثم إن فكرة العقد بعيدة عن خيال الإنسان البدائي.
2- من غير المتصور الحصول على رضا الناس جميعا، في حين أن رضاهم شيء أساسي خصوصا وانه سيصبح قانونهم الذي يحكم علاقاتهم وتصرفاتهم، لذا فان إجماعهم عليه مستحيل. إذن فلم يبق إلا إجماع واتفاق الأغلبية ورضاها ولاشك أن هذا تبرير لاستبداد الأغلبية بالأقلية.
3- افتراض قيام عقد والتسليم بوجوده فمن يضمن استمراره ودوامه، ذلك لان الجيل الذي ابرم العقد يمكن أن يلتزم به ولكنه لا يستطيع أن يحمل الأجيال المقبلة عبء هذا الالتزام فيقيد من حريتها وينال من استقلالها.
ومن قبل منظرو الغقد الاجتماعي، قال الفيلسوف الإنجليزي القس ريجارد هوكر في كتابه "السلطة الدينية" 1594، بأن الإنسان هو حيوان اجتماعي بطبيعته، لذا لا يمكن لنظرية العقد الاجتماعي تفسير كيفية نشوء المجتمع.
أما الفيلسوف الإيطالي جيامبا تيستا فيكو (1668-1744)، والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689-1757)، و الفيلسوف الاسكتلندي آدم فيرجسون (1723-1816) لم يولوا أهمية تُذكر لفكرة العقد الاجتماعي بحجة أن البشر لا يمكنهم أصلاً الوجود خارج مجتمع من نوع أو آخر، الذي تُعد الأسرة أحد أهم أشكاله الأولية.
وقد أورد المفكر الاسكتلندي دافيد هيوم (1711- 1776) انتقادات إضافية. أولاً، أنه حتى لو كان قد تم تحرير عقد اجتماعي ذات يوم بين المواطنين، فهذا لا يعني أنه ينبغي بأي حال على جيل اليوم أن يتقيد باتفاق من هذا النوع. لأنه "لا يمكن الافتراض الآن أن هكذا عقد بهذا القِدَم، وطرأت عليه تغييرات لا تحصى في الحكومات والأمراء، لا يزال يحتفظ بأي سلطة هذه الأيام". وكان يود هيوم شرعنة مؤسسات الحكم ليس من خلال تصور اتفاق محدد عليها في الماضي من جانب المواطنين، لكن من خلال حقيقة أنها قد صمدت أمام اختبار الزمن لتتحول إلى تقاليد مصونة.
واعتبر عالم الدين المصري بنيامين ثابت) 1767-1830(، في كتابه "مبادئ السياسة"، أن نظام العقد الاجتماعي كرس الكثير من الأخطاء كالعبودية. ويقول المفكر الانجايزي برتراند راسل (1872- 1970): لا وجود للعقد الاجتماعي لأنه لا يوجد للفرد الخيار بين الحالة الطبيعية والدولة. أما المؤرخ النمساوي موراي روثبارد (1926- 1995)، يقول: لم تنشأ الدولة من خلال العقد الاجتماعي بل من خلال الغزو والاستغلال. ورفْضُ هيجل 1926- 1995) نظرية العقد الاجتماعي التي من خلالها فسر اغلب فلاسفة الفترة الحديثة أصل نشأة الدولة. كان لعدة أسباب أهمها: أن العقد يحقق غاية مؤقته. وأنه من غير المعقول النظر إلى طبيعة الدولة، على أنها قد تأسست على التعاقد، سواء أكان هذا العقد قد تم ما بين الافراد، كما هو الحال عند هوبز، او بينهم وبين الحاكم كما ذهب الى ذلك لوك ورسو، وهو ما أكده بقوله: " فمما يُجانب الصواب تماماً القول بأن طبيعة الدولة تقام على علاقة تعاقدية، سواء أكان العقد في هذه الدولة المزعومة يقوم بين الكل والكل، أو لتحقيق مهام خاصة. لذا يؤكد على أن "الدولة بصفة عامة ليست تعاقدية بين الافراد، وماهيتها الجوهرية ليست قاصرة على حماية الافراد وضمان ممتلكاتهم، بل هي بالأحرى الحقيقة الواقعية العليا، ولذا فهي تقتضي في بعض الاحيان استرداد هذه الحياة، وتطالب الافراد كأفراد بالتضحية بها".
لقد شهد القرن التاسع عشر أفولاً في الاهتمام بفكرة العقد الاجتماعي، واتهمها الفيلسوف الانجليزي "جيريمي بنثام" (1748- 1832) أنها قد شتَّت الانتباه بعيداً عن طرق أخرى للنظر في قيمة القوانين (في حالته، كانت سعادة العدد الأكبر تمثل المعيار الرئيسي). بينما رأى كارل ماركس (1818-1883) وغيره من الفلاسفة، في حالة الطبيعة، وبالتالي العقد الاجتماعي، مفاهيم عديمة النفع لأنهم اعتبروا الطبيعة البشرية كإحدى نواتج المجتمع، وهي حقيقة أثبتها علم الأحياء الاجتماعي. وخَلُص الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) إلى أن جميع الحكام يستولون على السلطة ولا يتنازلون عنها أبداً طواعية.
رغم ذلك، استمر مفكرون آخرون، حول أفضل أنواع الحكم وأكثرها استقراراً. وقد نحا إيمانويل كانط ( 1742 - 1804) نفس هذا المنحى الافتراضي في تناوله لفكرة العقد الاجتماعي، قائلاً "إننا لسنا بحاجة إلى افتراض أن هذا العقد يوجد فعلاً كحقيقة، بل هو مجرد فكرة من بنات أفكار العقل، التي من دون شك لها قيمة عملية عظيمة، لأنها تمثل المعيار لاختبار صحة أي قانون. ويرى المفكر الأمريكي جون رولز (1921-2002)، في فرضية العقد الاجتماعي ما يسميه "الوضع الأصلي" أداة مفيدة لتخيل ما هي بالضبط الحقوق والأنظمة السياسية التي قد يختار المواطن النزيه والعقلاني من تلقاء نفسه تأييدها إذا ما أُعطي له الاختيار وإذا لم يكن يعرف كيف قد يتأثر هو شخصياً بتلك القوانين. علاوة على ذلك، تستمر فكرة العقد الاجتماعي في توفير أداة مفيدة لمعالجة الهواجس المستمرة حول سبل التوفيق بين المواطنين ذوي الأهداف المختلفة ضمن نفس المجتمع وكيف يمكن حماية مصالح مجموعات الأقلية حين لا تَنْشد الأغلبية سوى حماية أنفسهم فقط.
وبرأي المفكر الاسكتلندي آدم سميث (1723-1790) أن هذه الحجة الضعيفة لتعريف الموافقة باعتبارها عدم الاحتجاج على غياب رضا المرء، يعني أنك إذا ما أُوتيّ بك على متن سفينة وأنت نائم ثم أبحرت السفينة في عرض المحيط، فأنت بذلك تبرهن عن رضاك على وجودك هناك حتى رغم عدم وجود مكان آخر لكي تذهب إليه
على الجانب الآخر، قد يجادل بعض منظري العقد الاجتماعي بأنهم لا يَعْنون أن شيئاً من قبيل حالة الطبيعة قد وجد فعلاً قط لكنهم مجرد يستخدمون هذه الفكرة حول عقد اجتماعي، لعرض وجهة نظرهم. وفي انتقاد موجه لهيوم فيما يخص العقد الاجتماعي أنه لم يعتقد في أن الحكومة الفاشلة بررت للمواطنين التمرد عليها أو الإطاحة بها. من جهتهم، يرد لوك وآخرون بالتصريح باعتقادهم أنه إذا ما قرر المرء أن يمكث في الدولة التي ولد فيها، فإنه بذلك يبرهن عن رضاه على حكومتها.
كما أن الفلسفة الفردية التي ظهرت في القرن التاسع عشر وانعكست في كتابات ونظريات هربرت سبنسر فتعتمد على مبدأ إعطاء الحريات الكاملة للأفراد، هذه الحريات هي التي تساهم في تكوين علاقات اجتماعية تخدم مصالحهم المشتركة. ويؤكد عالم الاجتماع دوركهايم على أهمية العناصر غير التعاقدية في العقود، إذ يقول بأنه قبل وجود الترتيبات والاتفاقيات التعاقدية كان هناك مجموعة من قيم مشتركة تعتبر القاعدة الأساسية للنظام والاستقرار الاجتماعي.
وختاما، رغم أن الانتقادات الموجهة لنظرية العقد الاجتماعي صحيحة فلا يوجد ما يثبت تاريخياً وجود عقد اجتماعي على النمط الذي ساقته النظرية. ومن دون شك، فإن وجود الدولة كان مادةً أثارت فضول المفكرين، ودفعتهم للبحث عن أسبابها، وابتداع هوبز ولوك وروسو نظرية العقد الاجتماعي لم يكن سوى لتبرير ظهور الدولة. وهذه النظرية أدت إلى تكريس مفاهيم أساسية كالحقوق، والولاء للدولة، وفي ذات الوقت شكَّلت سبباً إضافياً للسعي نحو التغييرـ.