كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مناضلون علمانيون منسيون.. عقلة بك القطامي والثورة السورية الكبرى 1925

د. إليان مسعد- فينكس

ربما لم يسمع الكثيرون، وخصوصا الأجيال الشابة، بهذا الاسم من قبل، وربما لا يعرفون له صورة ولا شكلا، ولهذا أكتب هذه النبذة عن هذا الرجل العلماني المخلص الوفي، لا بل هذا الوطني المغوار والقائد المقدام، تعريفا لتاريخ الآباء والأجداد العظام أولا، وحفاظا عليه من النسيان والضياع في خضم هذه الحياة "الحديثة" ثانيا.
هو عقلة بن سحوم القطامي المكنى "أبو موسى"، من مواليد عام 1889، ومن رجالات الثورة السورية العربية الكبرى، وهو أصلا من سكان قرية "خربا" في جبل حوران (العرب) في سوريا، عاش ونشأ فيه وأصبح صورة حية لأخلاق أهله، وكان مثلا أعلى في الوطنية والدفاع عن الحرية والاستقلال، وكان يتقن الفرنسية والانكليزية، ولذلك أشرف على نقل الامدادات من أم الجمال بالاردن الى جبل العرب بقوافل من الجمال تسير ليلا بسبب القصف الفرنسي، وكان على علاقة وطيدة مع سلطان باشا الأطرش، من القريا عميد الجبل وزعيم قومه وزعيم جماعة الوحدويين بالجبل الذين رفضوا تقسيم سوريا وتربطه به صداقة حميمة منذ الصغر، كما أنه كان يعتبر يده اليمنى وحافظ مراسلاته وأحد أكبر مستشاريه. فلما نودي بالثورة عام 1925 قام هذا الزعيم المسيحي فلبى النداء دفعته إليه عصبيته القومية ووفاء وإخلاصا لصداقته مع سلطان باشا الأطرش، فخاض غمارها وشارك في معاركها معه جنبا إلى جنب ضد الاستعمار الفرنسي وجحافله وتحمل شدائدها وأصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة الذي تشكل من سلطان الاطرش- عقلة القطامي -حمد عامر- فضل الله الهنيدي- محمد عز الدين - سليمان نصار - حسين مرشد- يوسف العيسمي - علي عبيد - قاسم أبو الخير- علي الملحم- الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وبقي ملازما له حتى النهاية، إلى أن عقدت سوريا مع فرنسا معاهدة سنة 1936 وتوحدت سوريا، فعاد إلى الجبل مع من عاد من المجاهدين الصابرين الصامدين، ثم عيّن عضوا في المجلس النيابي السوري في الأعوام 43 ــ 47 وسكن دمشق وعاد إلى قريته قبيل وفاته وتوفى فيها فجأة عام 1953.أ سلطان الاطرش و عقلة القطامي 2
وكان من ضمن الوفد الذي ترأسه الأمير حمد الأطرش والذي ضم كلا من نسيب وعبد الغفار الأطرش وفضل الله باشا هنيدي وحمد عامر ونجم باشا الحلبي وقفطان عزام وعقلة القطامي وعجاج نصر وإبراهيم أبو فخر (الملقب براعي الحيثا لفروسيته) ووالد زوجة سلطان باشا الأطرش ووالد زوجة حمد البربور (بطل الجبل)، هذا الوفد الذي ذهب قبل اندلاع الثورة لمقابلة المفوض السامي الفرنسي الجنرال ساراي في بيروت، بقصد تبديل الحاكم كاربنتيه بحاكم وطني لأن هذا الحاكم الفرنسي كان يعرقل وحدة الجبل مع سوريا، وقد رفض الجنرال مقابلة هذا الوفد فعادوا حانقين غاضبين.
وأثناء الثورة وقف بحزم ضد التحركات الطائفية المشينة لكل من فوزي القاوقجي ورمضان شلاش بمنطقة القلمون من حصار لبلدات معلولا وصيدنايا ونهب قرى أخرى، والتي أكد لي لاحقا سلطان باشا الاطرش على غداء بداره بالقريا ذلك، وأنه اكتشف عمالتهما بذلك لاحقا وأدانهما.
رافق الزعيم الكبير سلطان باشا الأطرش عندما نزح إلى صحراء شرقي الأردن، وأقام في النبك ووادي السرحان والأزرق في وفد كبير من رجالاته المخلصين ومكث معه 12 عاما، ومعهم كل من الدكتور عبد الرحمن الشهبندر والشيخ محمد الأشمر وابراهيم هنانو والشيخ صالح العلي وسعيد العاص وأحمد مريود وسعيد آغا وذلك في أعقاب استشهاد يوسف العظمة وزير الدفاع السوري في معركة ميسلون ضد الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال غورو عام 1920 حيث أعلن هؤلاء الأبطال على إثرها انطلاق الثورة العربية السورية "ثورة انتصار الكف على المخرز" على عكس الذين جروا عربة غورو، وعلى ذكر "جر عربة غورو" يحضرني هنا قول المرحوم شكري الياس الشوفاني أحد وجهاء قرية معليا بفلسطين الذي قال: "نحن من الذين نركب الخيل ولسنا ممن يجرونها"،
وقد استمرت الثورة حتى عام 1937 رافعين شعار "الدين لله والوطن للجميع" حتى تحقق الجلاء ونالت سوريا استقلالها عام 1946...
ولم يترك هذا الرجل الكبير عقلة بك القطامي، المسيحي السوري، أخاه وصديقه ورفيق دربه سلطان باشا الأطرش، الزعيم العربي الدرزي السوري، طيلة مدة هذا النضال الطويل والمرير، وعاد معه إلى الجبل بعد أن وضعت الثورة أوزارها وألغي حكم الاعدام الصادر بحقهم وبقيا على العهد والوعد حتى فرقهما الموت..
لقد قامت فرنسا باعتقاله ونفيه عدة مرات، كما قامت بهدم داره في خربا، وصادرت أملاكه محاولة لإرهابه وكسر شوكته، ولكن كل ذلك لم يثنه عن عزمه. ومما يذكر أنه إبّان مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا وفي إحدى الثورات ألقى الفرنسيون القبض على المجاهد الكبير الشيخ عقلة القطامي وهو الزعيم المسيحي من جبل العرب، وفي المحكمة توجه إليه أحد الضباط الفرنسيين الكبار قائلا: "أنا أفهم أن يقاتلنا هؤلاء المسلمون، ولكن لماذا أنت ونحن مسيحيون مثلك"، فأجابه الشيخ القطامي: "نعم، ولكنني أحاربكم كسوري من بني غسان"، وقد خابت آمال الفرنسيين في هذا الثائر الوطني الكبير عندما صاح في وجه الجنرال غورو قائلا: "إن الدماء التي تجري في عروقنا ليست فرنسية ولا بريطانية إنها سورية المنبع".
ومما يروى عن حاشية سلطان باشا الأطرش والذين نزحوا معه إلى شرق الأردن، بمن فيهم عقلة بك القطامي، أنهم كانوا من الشعراء وكانوا يلتفون في خيامهم، وقد رفضوا السكنى في بيوت من حجر، حول مواقد النار في ليالي الشتاء الباردة يروون الأشعار التي تعبر عن مشاعرهم وأحاسيسهم في بلاد الغربة وحنينهم الشديد للعودة إلى الوطن، وقد تركوا وراءهم إرثا عظيما من أدبيات تلك الفترة أرجو أن يكونوا قد حفظوه لنا.
وفي هذه المناسبة لا يسعني إلا أن أقول، وبكل مسؤولية، لأولئك الذين يشككون في وطنية وسورية المسيحيين أو ينتقصون من هويتهم ويمنعون عنهم الحق الدستوري بالمواطنة المتساوية، وأخص منهم من كتبوا دستور 2012 التمييزي، أو أولئك الذين يدعون زورا وبهتانا ويطلقون تصريحات مشبوهة "أنهم أقل وطنية من غيرهم" أين كانوا وأيا كانوا، محاولين زرع بذور الفتنة والفرقة بين أبناء الشعب الواحد وخصوصا في هذه الأيام: "إن مشاركة الشيخ عقلة بك القطامي السوري المسيحي في تلك الثورة ضد فرنسا ومع غيره من إخوانه الأبطال الكثيرين الذين خاضوا عبر التاريخ معارك تحرير الوطن، تجسد موقف المسيحيين السوريين الذين قاوموا دوما في الماضي دفاعا عن الأرض المقدسة التي ينتمون إليها والذين ما زالوا يدافعون حتى اليوم عن بلاد الشام وسوريا وفلسطين وعن كل بلاد العرب أوطانهم التي لا يعرفون لهم وطنا وحيدا نهائيا غيرها.
ولعلي أسوق هنا للتذكير فقط وللتدليل على مواقف المسيحيين الكثيرة هذه القصة الطريفة عن دبلوماسية الشيخ فارس الخوري، مندوب سوريا في هيئة الأمم، عندما دخل مندوب فرنسا إلى القاعة قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سوريا من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها ووجده جالسا مكانه على مقعد فرنسا وعبثا حاول أن يفهمه أن هذا المقعد مخصص لفرنسا وليس لسوريا، ولكن فارس وكان صاحب نكتة وبديهة لم يحرك ساكنا وبقي جالسا في مكانه، ومرت خمس وعشرون دقيقة ضاق خلالها المندوب الفرنسي ذرعا فاستشاط غضبا وما كان من فارس بك إلا أن وقف وقال له وبكل هدوء وعلى مرأى ومسمع من جميع الأعضاء: "لقد جلست على مقعدك يا سعادة السفير لمدة خمس وعشرين دقيقة فلم تتحمل ذلك فثارت ثائرتك، بينما تحملت سوريا سفالة جنودكم خمس وعشرين سنة واني أعتقد أنه آن لها أن تستقل وفعلا تم التصويت. ومن الجدير بالذكر أن سوريا نالت استقلالها في تلك الجلسة من عام 1946.
لروح عقلة القطامي الرحمة والخلود ولرفاقه عبدالرحمن الشهبندر وسلطان الاطرش.