كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الغَرْبُ يَهوِي في غزّة حضاريّاً وأخلاقيّاً إلى حضيضٍ بلا قاع!

هادي دانيال- تونس- فينكس 

لأنّ الكيان الصهيونيّ مشروعٌ غربي واظبت المؤسساتُ الإعلامية والأكاديمية والثقافية الغربية على تزيينه وتلميعه وتسويقه كنموذج حضاري ديمقراطي من إنجازات الغرْب في منطقتنا، بل وأيضاً كواحة مزعومة للديمقراطية وللمنظومة القيمية الغربية الإنسانية حضاريا وأخلاقيا في محيط عربي ظلامي متخلف ومتوحش.

وعلى الرغم من أنّ الأمم المتحدة كانت قد صنفت الصهيونية كحركة عنصرية (أعادت المنظمة الأممية النظر بذلك التصنيف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفرّد الولايات المتحدة بالمشهد السياسي الدولي وتسيّدها عليه كقطب واحد أوحد)، ومع أنّ كتّاباً وإعلاميين إسرائيليين أقرّوا مراراً وتكراراً بأنّه لا يوجد في فلسطين صراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين بل يوجد احتلال إسرائيلي وحشي لفلسطين منذ ثلاثة أرباع القرن يشبه الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي دام أكثر من قرن، وبأنّ نظام الكيان الصهيوني في فلسطين التاريخية هو نظام فصل عنصري "بات اليوم من أكثر الأنظمة طغياناً ووحشية على وجه الأرض" حسب تعبير الإعلامي الإسرائيلي "جدعون ليفي". وللتدليل على رأيه القاطع قال موضحا: "على أرض واحدة (فلسطين التاريخية) يعيش شعبان، أحدهما (الإسرائيلي) له كل الحقوق الذي عرفتها البشرية وثانيهما (الفلسطيني) لا حقوق له على الإطلاق. واذهبوا إلى غور الأردن، انظروا إلى ازدهار المستوطنات (اليهودية) ثم اذهبوا لرؤية الفلسطينيين الذين يعيشون بلا ماء ولا كهرباء وبلا أي حقوق ثمّ أخبروني هل هذا  فصل عنصري أم قد تخترعون له اسماً آخر؟". و على غرار هذا الصحفي الإسرائيلي أكد "روجر ووترز" مؤسس فرقة بنك فلويد البريطانية أن النظام الإسرائيلي "استيطاني استعماري عنصري" وأنه رأى الفصلَ العنصري على أرض الواقع سنة 2006 خلال زيارته فلسطين المحتلة "حتى في الشوارع، يا لها من شوارع جميلة، لكنها لليهود وحدهم. نعم، لا يمكنك السير على هذه الشوارع إن لم تكن يهودياً! ثم تلك الحواجز التي يقف عليها الجنود وعليك اجتيازها، حتى أنا بجواز سفري البريطاني، ومَن معي في سياراتٍ للأمم المتحدة، عاملونا معاملة سيئة وكادوا يبصقون علينا. قلت في نفسي: إذا كانوا يعاملونني أنا هكذا فتخيّلوا كيف يعاملون الفلسطيني"، وإذا كان "روجر ووترز" أكد كمواطنته المخرجة السينمائية المناضلة "فانيسا ريدغريف" أنه سيواصل هجومه على "إسرائيل" وسياستها إلى أن يموت "إلا إذا عدّلوا موقفهم وأعطوا السكان الأصليين حقوقهم وأعادوا إليهم أرضهم التي بين النهر والبحر"، فإن عقيداً فرنسيا متقاعدا أوضح مؤخرا على غرار مواطنه الكاتب الكبير الراحل "جان جينيه" أنّ "المجازر الوحشية والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها ويرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية تؤكد أنّ إسرائيل منذ تأسيسها دولة خارجة على القانون وليس لها أي مستقبل". وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها يلفتنا قول "بيرني ساندرز" السيناتور الأمريكي من أصل يهودي: "كلّنا متواطئون في ما يحصل في غزة وجزء كبير من المأساة سببه استخدام الأسلحة الأمريكية"، ويذكرنا بقول "نورمن فنكلستين" المفكر الأمريكي من أصل يهودي أيضا مخاطبا ومطالبا طلبته في شيكاغو بأن يعترفوا: "بالإنسان داخل هؤلاء الناس، وأن نقرّ بمعاناتهم والمهانة التي يقاسونها، وأن ننظر نظرة فاحصة إلى أنفسنا وإلى مسؤوليتنا عن عذابهم".

وغير بعيد عن هذا السياق تأتي آراء المحلل السياسي السويسري "جاك بود" الذي عدّ العدوان الإسرائيلي على غزة واستخدام أشد وسائل القتل والدمار فتكا وإيذاءً، جرائمَ إبادة ضد الإنسانية، وتأييد الغرب لهذه الجرائم يفضح ازدواجيته  ولا إنسانيته. 

آثرتُ أن أورِدَ أعلاه غيضاً مِن فيض آراء أصحاب الضمائر الحية والعقول الموضوعية النظيفة من النخبَ الفكرية الثقافية والسياسية والعسكرية الغرْبية التي تعترض وتفنّد السردية الصهيونية التي تتبناها المنظومة والنظام في الغرب الرسمي الأوربي و الرسمي الأمريكي وملحقاتهما في كندا وأستراليا وغيرهما.

ومن الواضح أنّ هذه الأصوات المفعمة إحساسا مرهفا بالعدالة الإنسانية ورفض الظلم لم تتمكن من تأسيس وتكوين الوعي الجمعي للشعوب الغربية الأوربية والأمريكية بعيدا عن أضاليل السردية الصهيونية التي تسوقها الآلة الإعلامية  صاحبة الكلمة الفصل في توجيه الرأي العام الغربي. وكما هو معلوم فقد حرص مؤلفو السردية الصهيونية على اعتماد أموال طائلة لضخّ أكاذيب وفبركة مزاعم تجعل هذه السردية مقبولة من مجتمعات تربّت أجيالُها منذ أوائل القرن الماضي على قيم منظومة حضارية وأخلاقية إنسانية معيّنة ناهيك عن تعمّد الصهيونية العالمية وكيانها في فلسطين المحتلة ابتزاز هذه المجتمعات بتذكيرها دائما بمسؤوليتها عن ما تعرض له اليهود الأوربيون (والذين بالمناسبة لا ينتمون إلى العرْق السامي) على أيدي النازية والفاشية الغربيّتين، الأمر الذي جعل أمن الكيان الصهيوني وسلامة المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة هَمَّ الغرب الوحيد والذي يتصدر برنامج كل سياسي غربي يرشّح نفسه لتبوّؤ منصبٍ ما بدءاً من رئاسة بلدية إلى رئاسة دولة.

ولذلك (وفي ظل تقاعس العرب مسلمين ومسيحيين ويهودا، إلى درجة التواطؤ والخيانة، عن القيام بواجبهم الإنساني ناهيك عن واجباتهم القومية والدينية) مكّن الغرْبُ مشروعه الصهيوني (إسرائيل) في المنطقة من ضرب عرض حائط المبكى بجميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، فلم يُنفَّذ منها قرار واحد، كما مكنها من التنصل بالمراوغة والتحدي من جميع الاتفاقيات التي أبرمها الكيانُ الصهيوني في تسعينات القرن الماضي مع منظمة التحرير الفلسطينية والمعروفة باتفاقيات أوسلو، وكان الغرْبُ وراء ما يُسمى "الربيع العربي" الذي هدفه الأساس تمزيق المنطقة وإشغال شعوبها بحروب وصراعات داخلية تُسقِط الحق الفلسطيني من قائمة اهتماماته، وتُمكِّن الصهاينة من تنفيذ هدفهم الاستراتيجي وهو إقامة دولة إسرائيل اليهودية الكبرى. فقد كان الغرْبُ المنافقُ وراء جميع إنشاء وتنظيم وتدريب وتمويل وبرمجة أهداف المنظمات المسلحة الإرهابية التكفيرية في المنطقة لجعل الأخيرة مستباحة لتحقيق أطماعه بثرواتها ومقدراتها فوق الأرض وتحتها، وإذا كان هذا الغرب قد توسّل علناً ضرب الدولة الوطنية عبر العالم وليس في منطقتنا فقط، فلن نستغرب منه أن يَحُولَ دون قيام دولة وطنية فلسطينية على الرغم من جعجعته التي بلا طحن، غير طحن عظام الأطفال الفلسطينيين، جعجعته عن سعيه الكاذب إلى إقامة تسوية سلمية في المنطقة على أساس "حلّ الدولتين".     

إلّا أنّ انفلات الوحش الصهيوني المدجج بأحدث الأسلحة الغربية وأشدها تدميراً وهدْماً وحرقاً وقتْلاً في قطاع غزة بدءاً من اليوم الثامن من أكتوبر 2023حتى هذه اللحظة وإخضاع أهل القطاع العُزّل لعقاب جماعي ردا على عملية "طوفان الأقصى" صباح 7اكتوبر التي قادتها "حركة حماس"، وما نقلته وسائل الإعلام المرئية والمسموعة من اقتراف ضباط وجنود الاحتلال الإسرائيلي جرائم ضد الإنسانية تنحدر إلى مستوى الإبادة الجماعية المُتعمّدة، جَعَلَ السردية الصهيونية تنهار في وعي الأجيال الراهنة من الشعوب الغربية التي نزلت إلى الشوارع ملوّحة بالأعلام الفلسطينية، هاتفة بحرية فلسطين ومُطالِبة بإعادة الحقوق المسلوبة إلى شعبها المُضام، ومعبّرة في الوقت نفسه عن سخطها على الوحشية الإسرائيلية ورافضة استمرار استغفالها بتغذية هذا الوحش الكاسر من مال الشعوب الغربية  العام ليمارس عدوانيته السادية على الأطفال والنساء والشيوخ الذين سبق أن سطا على بيوت وحقول وبساتين ومصانع وأسواق ومدارس وأوابد أجدادهم وآبائهم بعد أن قَتَلَ مَن قتَلَ وشَرّدَ مَن شرَّدَ.

فالمواقف الغربية الرسمية منحت هذه الجرائم التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا "غطاءً سياسياً دولياً" عندما عدّتها "دفاعا عن النفس"، على الرغم من أنّ ألف باء القانون الدولي يبيّن أنّ "حقّ الدفاع عن النفس" هو حق لضحية الاحتلال وليس حقا لجيش الاحتلال المعتدي على أصحاب الأرض وسكانها الأصليين. ولكن هذا الغطاء سرعان ما تمزّقَ بهتافات ولافتات وقبضات الشارع الغربي الهادر غضباً واحتجاجا مطالبا حكومات بلدانه بوقف العدوان الإسرائيلي على أطفال غزة ونسائها وشيوخها العزّل. لكنّ قادة الغرب الديمقراطي رفضوا الإصغاء إلى مواطنيهم الذين انتخبوهم لدرجة أن الإدارة الأمريكية استخدمت حق النقض (الفيتو) مراراً ضد قرار يدعو إلى وقف النار في غزة مما جعل "نتنياهو" الذي أخذته العزة بالإثم يواصل جرائمه غير المسبوقة ضد الأطفال الفلسطينيين أمام عيون البشرية قاطبة للشهر الرابع على التوالي يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، وبدل أن يصغي ويستجيب أصحابُ القرار في الغرب الديمقراطي لضمير الشارع الغربي الذي استيقظ ليغادر الجانب الإسرائيلي المعتدي، جانب قابيل القاتل، ويقف بوضوح إلى الجانب الفلسطيني، جانب صاحب الحق المعتدى عليه غربيا وصهيونيا ورجعيا عربيا منذ خمس وسبعين سنة، أي بدل إصلاح الخطيئة، تختار الحكومات الغربية المزيد من التمرّغ حضاريا وأخلاقيا في وحل غزة، فتعلن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وألمانيا وإيطاليا واستراليا وفنلندة وفرنسا تعليق مساعداتها لوكالة إغاثة اللاجئين (الأونروا) نزولا عند مزاعم إسرائيلية بأنّ موظفين في الأونروا متواطئون مع "حماس" وساعدوها في عملية 7أكتوبر. يا لها من مفارقة مخزية. جرائم الإبادة الجماعية الموثقة والمتواصلة أمام كاميرات القنوات التلفزيونية عبر العالم لم تَحْدُ قادة الأنظمة الديمقراطية الغربية إلى وقف تصدير الأسلحة إلى حكومة قتلة الأطفال  في تل أبيب، بينما تتذرع تلك الحكومات الغربية بهذه المزاعم الصهيونية المتهافتة لتسارع إلى المشاركة في قتل مَن لا يزال حيا من أطفال غزة بتعريض أجسادهم الهشة للجوع والعطش والبرد والأمراض والأوبئة المختلفة، من خلال تعليق المساعدات على "الأونروا" آخر ملاذ مُحتمَل لإنقاذ ما تبقى! ولنفرض أنّ مزاعم تل أبيب صحيحة، فكيف يؤخذ أطفال ونساء وشيوخ عُزّل بجريرة أنفار من موظفين محليين في "الأونروا" تعاونوا مع منظمة زَعَمَ "جوزيب بوريل"، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، إن إسرائيل موّلت إنشاءها في محاولة لإضعاف السلطة الفلسطينية وعرقلة مساعي رئيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى إقامة دولة فلسطينية. ألم يقل "بوريل" بلسانه الأوربي الفصيح  في خطاب بجامعة بلد الوليد الإسبانية: "أجل، حكومة إسرائيل موّلت حماس في محاولة لإضعاف السلطة الفلسطينية التي تقودها فتح"؟ إذن إذا كانت "إسرائيل" قد أنشأت "حركة حماس" وموّلتها وتموّلها (حتى مساء 6اكتوبر2023) كما كانت مخابرات واشنطن قد أنشأت تنظيم "القاعدة" ومولته ودربته لتحارب به نظام "كابول" الشيوعي الموالي لموسكو آنذاك  إلى أن انقلب عليها أو استنفدت صلوحيته. لنفترض أنّ الأمر  كان كما قال الوزير الأوربي "بوريل" ألا تتحمل تل أبيب "جرائم" ربيبتها "حماس" في 7أكتوبر إلى جانب جرائم جيش الاحتلال الصهيوني ضد أطفال غزة، أيها الغرب الفاجر؟!

 كان المفكر الجزائري "مالك بن نبي" يقول "الغرب لا يحمل معه قِيَمَه خارج أرضه"، وهذا كان صحيحا ولا يزال ولكن أضيف إليه الآن أنّ هذا الغرْب الرسمي تخلّى عن قِيَمِه  داخلَ أرضه أيضا، عندما لم يستجيب لشوارع عواصمه ومدنه الداخلية التي لم يخفت صوتها المثابر في مطالبته، بأن  يتحرك بقوة وحزم لوقف إطلاق النار وقفا نهائيا في غزة وإدخال الماء والغذاء والكهرباء والكساء والأغطية إلى الأهالي المنكوبين بانعدام الإنسانية، وأن تتوقف هذه الحكومات عن دعم الصهيونية المجرمة  بالمال والسلاح وينتقل كل دعمها وبأعلى زخم إلى إقامة دولة فلسطينية الآن و فوراً.

أمّا الأعراب الذين سارعوا إلى سحب سفرائهم من بيروت فقط لأنّ وزير الإعلام اللبناني السابق "جورج قرداحي" وصف الحرب على اليمن بأنها "عبثية" ويجب أن تتوقف، هؤلاء الأعراب ومثلهم بقية العرب (باستثناءاتٍ لم تتجاوز الحدّ الأدنى و"أضعف الإيمان") لم يروا بَعْدُ أنّ كلّ هذه الجرائم الصهيونية التي اهتزت لها ضمائر البشرية الحيّة من القطب إلى القطب صارت كافية لتطلب مثلاً من سفراء تل أبيب في عواصمهم (العربية الإسلامية؟) أن يغلقوا سفاراتهم ويغادروا، ألم يشعروا بالارتباك كي لا نقول الخجل، وهم يراقبون الحكومات التي استجابت لهتافات مواطنيها في شوارع أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا فتقطع علاقاتها بالكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري، كما فعلت مبكرا حكومات بوليفيا، جنوب أفريقيا، مملكة بليز، تشيلي، وكولومبيا، أمّا أن يشطّ بنا الخيال العلمي فنطالب حكومات الأعراب بأن تنافس في مناصرة الحق الفلسطيني رفاق وأبناء نيلسون مانديلا، فنحن عندئذٍ  نطلب من النعامة أن تطير فقط لأنها تُحْسَبُ على جنس الطيور.

  لقد أحالت مبادرة دولة جنوب أفريقيا الشجاعة بإحالة الكيان الصهيوني وساقته  إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ونجاحها في استصدار قرار أولي يتهم ويدين ضمنيا "دولة إسرائيل" بارتكاب جيشها وقادتها السياسيين والعسكريين جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، على الرغم من أنّ هذه المبادرة تعرضت إلى محاصرة غربية رسمية شرسة جعلت المحكمة تتراخي نسبيا أمام الجرائم الإسرائيلية المستمرة، لدرجة أنها لم تطالب علنا بوقف إطلاق النار نهائيا في غزة، بل إن رئيسة المحكمة  "جوان دولوغو" التي طالبت روسيا الاتحادية  في 16مارس2022بأن تُعلّق فورا عملياتها العسكرية التي بدأتها على أراضي أوكرانيا، اكتفت في 26جانفي 2024بالطلب اللطيف من "إسرائيل" بأن "تتخذ التدابير في حدود سلطتها لمنع ومعاقبة التحريض العلني على ارتكاب الإبادة الجماعية" وكأن كل ما حصل ويحصل ليس جرائم إبادة جماعية ملموسة وموصوفة واقعة وتقع يوميا بل مجرّد تحريض عليها، وتذهب الرئيسة "جوان دولوغو" في سياق تورطها هي الأخرى بازدواجية المعايير إلى أن تعلن سنة 2022 أنّ "المحكمة تشعر بقلق عميق ازاء استخدام القوة الروسية الذي يثير مشاكل خطيرة جدا بالقانون الدولي"، لكن "جوان دولوغو" نفسها تكتفي في سنة 2024 بالقول إنّ "على إسرائيل أن ترفع تقريرا إلى المحكمة بخصوص التدابير المؤقتة المفروضة خلال شهر".

 إنّ الغرب باعتماد فج ووقح لهذه الازدواجية يدعم عسكريا وسياسيا وقانونيا وإعلاميا وماليا ولوجستيا حكومة "كييف" وميليشياتها النازية ضد عملية عسكرية وقائية خاصة استعادت بها "موسكو" بعضَ ترابها الوطني ومواطنيها الذين كانوا تحت سيطرة حكومة الصهيوني "زيلنسكي"، هذه العملية يسميها الغرب "احتلالا روسيا"، بينما جرائم الإبادة الجماعية التي تهدف إلى إعادة احتلال غزة وإنهاء الوجود الفلسطيني عليها بإبادة أهلها صغارهم قبل كبارهم قتلا بالرصاص والتجويع والبرد وتعريضهم للأوبئة وشتّى الأمراض، هذ القتل والتدمير الممنهجان لا يتطلبان وقفهما فوراً بل يُعطى فرصة أخرى للاستمرار شهرا آخر في الأقل يُعد القاتل فيه تقريره إلى المحكمة الموقرة بخصوص "التدابير المؤقتة"، أي باختصار تُعطى فرصة إضافية للقاتل كي يجهز تماماً على ضحيّته، تُعطى فرصة لجيش الاحتلال الإسرائيلي كي يقتل المزيد من أطفال أهل غزة فيجهز على اليتامى منهم بعد أن أجهز على آبائهم وأمهاتهم  ويجبر من أخطأته آلة القتل الجهنمية على ترك الأرض من خلال تدمير كل مقومات إمكانية الحياة فيها بيئيا وعلى مستوى البنية التحتية للسيطرة على غاز غزة ونفطها وعلى شمالها الذي سيمر منه مشروع قناة "بن غوريون" ولكسب نقاط في المعركة الديمغرافية على أرض فلسطين التاريخية التي يعجز الكيان الصهيوني عن كسبها في ظلّ عدم إمكانية تنظيم هجرات جديدة ليهود العالم إلى "إسرائيل"، علماً أنّ حكوماته المتعاقبة تشجّع المستوطنين اليهود على المزيد من الإنجاب دون جدوى، لذلك هو يتخذ الآن من عملية "طوفان الأقصى" ومن حركة حماس ذريعة لتنفيذ أهدافه الاستراتيجية المذكورة آنفاً.          

إذا كانت عالمة الأنثروبولوجيا مارغريت ميد ترى أنّ أوّل علامة للحضارة في الثقافة القديمة هي عظم الفخذ الذي تم كسْرُه ثم التأم. انطلاقا من أنه في مملكة الحيوانات، إذا كسرت ساقك، ستموت،  فأنت لا يمكنك الهرب من الخطر، ولا الوصول إلى النهر للشرب أو البحث عن الطعام. أنت إذن لحمٌ للوحوش المتجوّلة التي ستعثر عليك قبل أن تعيش الفترة الضرورية لأن يشفى عظمك المكسور. وإن تماثل كسر عظم الفخذ للشفاء فذلك دليل على أنّ شخصاً ما أمضى وقتاً مع الشخص الذي سقط، ضمّدّ الجرح، وحمل الجريح إلى بر الأمان ورعاه خلال مرحلة التعافي. إذن بمساعدة شخص آخر لتجاوز الصعوبات تبدأ الحضارة.

إن كان الأمر كذلك، فإنّ هذا الغرب الرسمي يحوّل العالم إلى غابة بدائية تتم فيها "حَيْوَنة الإنسان" على حدّ تعبير الراحل السوري الكبير "ممدوح عدوان"، عندما لا يكتفي بارتكاب جرائم القتل بل يمنع حماية المكسورين في غزة، إنها حيوانات قوية مفترسة ترفض إعطاء فرصة الشفاء للجرحى من أهل غزة كما تحرم أطفالهم الباقين من فرصة الحياة بعد كل هذا الموت.

إنّ هذا الغرب الرسمي المتخلّي عن قِيَم المنظومة الحضارية والأخلاقية التي كان يدّعيها و يحاول تصديرها عبر العالم على ظهور الدبابات وأجنحة المقاتلات وقاذفات أطنان القنابل المحشوة بالبارود واليورانيوم المنضّب والفسفور الحارق، هذا الغرب لم يكتفِ بالتجرد من أقنعته في أفغانستان والعراق واليمن وليبيا وسوريا والسودان، بل هو الآن يهوي إلى حضيض بلا قاع مُمَرّغا مِزَقَ إرثه الحضاري والأخلاقي في وحل غزة لتمتزج بأشلاء لحم الأطفال مراكما في رصيده الإجرامي النظرات الأخيرة لعيونهم قبل أن تنطفئ.