كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحزب التعاوني الاشتراكي وحزب الشعب وحركة التحرر العربي

د. عبد الله حنا- فينكس

الحزب التعاوني الاشتراكي
في مسار الحزب الوطني وعلى حوافيه ظهر الحزب التعاوني الاشتراكي (حزب فيصل العسلي). بدأ هذا الحزب نشاطه بتاريخ 12 تشرين الأول 1940 مستمدا اسمه من الآية الكريمة: "وتعاونوا على البر والتقوى". منشورات هذا الحزب القائم على شخصية زعيمه فيصل العسلي شحيحة. وليس بين أيدينا سوى بيان رئيس الحزب فيصل العسلي الصادربتاريخ 31 – 10 – 1949 وجاء فيه:
"باسم الله الرحمن الرحيم
ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.
لقد كان الهدف الأول للحزب التعاوني الاشتراكي أن يعمل على تحقيق اتحاد العرب والمسلمين في كيان مستقل وكان هدف الحزب الثاني أن يجعل ذلك الاتحاد تعاونيا اشتراكيا أما هدفه الثالث فهو تحقيق الديموقراطية".
ادبيات الحزب، التي تعد على الأصابع تقول. إن الحزب أخذ باشتراكية معتدلة اساسهاها تخفيف الفروق بين الطبقاة وتقريب وجهات النظر بين الملاكين والاغنياء و أرباب العمل من جهة وبين الفلاحين والفقراء من جهة ثانية بما لا يتعارض مع الدين الاسلامي. وأثناء الحملة الانتخابية لبرلمان 1947 كان فيصل العسلي يصيح بملء فيه جئت لأحارب الظلم والظالمين وانتصر للضعفاء والمساكين واعتمادي على الله وقد وعدني الله بالنصر. من جهة أخرى قامت مبادئ الحزب على اسس اتحاد بين العرب والمسلمين.
جاء في مذكرات خالد العظم وصفا حياً موجزا للحزب:
" اما الحزب التعاوني الاشتراكي فقد اسسه فيصل العسلي وجعل تنظيمه على نمط الأحزاب الفاشستية أو الهتلرية... وكان العسلي يأمر وينهي كأنه قائد عسكري فينفذ الأعضاء إرادته... وكان رئيس الجمهورية شكري القوتلي يعتمد على هذا الحزب ثم لم يلبث أن طرده من جناته.
 
********

الحزب الوطني

تجمع سياسي للتجار وكبار الملاك وفئات أخرى
1947 - 1958
في ربيع 1947، وقبل الانتخابات النيابية، توحد شتات الجناح الحاكم من "الكتلة الوطنية" في الحزب الوطني، الذي كان نفوذه واضحاً في مدينتي دمشق وحلب في أوساط التجار وبعض شرائح البرجوازية الصغيرة والكتل الهامشية الرثة في أحياء المدينتين القديمتين. ومن هذه الكتل الهامشية، الرثة، التي كانت تعيش على هامش الإنتاج، كسب الحزب الوطني، وقبله "الكتلة الوطنية" ولاء القبضايات وزعماء الأحياء، الذين استفادوا من الحكم مستغلين نفوذ رجال السلطة، وكانوا في الوقت نفسه السند الرئيسي لرجال السلطة الباحثين عن النفوذ الشعبي عن طريق الولاء الشخصي.
ومع تصدع صفوف الكتلة بدا لعدد من أركانها أن الوقت قد حان لتجديد الكتلة بصيغة جديدة. وهذا هو هدف المقال الذي نشرته جريدة الكتلة الوطنية القبس الدمشقية بتاريخ 20 شباط 1947 تحت عنوان:
"الحزب الذي تنتظره البلاد". وفي العدد نفسه نشرت القبس المقابلة التي أجرتها مع نبيه العظمة متحدثا عن الحزب الجديد.
وبعد مضي شهر على مقال القبس عقد الحزب الوطني مؤتمرا في 23 نيسان 1947وانتخب هيئة الحزب المركزية وهم من زعماء الكتلة الوطنية سابقا وفي مقدمتهم : سعد الله الجابري من حلب رئيسا، لطفي الحفار من دمشق نائباً للرئيس، صبري العسلي من دمشق أمينا للسر، مظهر رسلان من حمص، عبد الرحمن الكيالي من حلب. وسيعتلي الكيالي سدة الرئاسة بعد قليل.
أعلنت مبادئ الحزب ان "العرب في انحاء وطنهم كافة أمة واحدة" واعتبرت "الصهيونية حركة عدائية خطرة على الكيان العربي" ولهذا فسوف "يسعى الحزب بكل الوسائل لمناهضتها ويعمل على صيانة عروبة فلسطين وتحررها".. ومن أهداف الحزب "تشجيع الشركات الوطنية المساهمة والتعاونية وتأمين مساهمة الجمهور فيها واعادة النظر في الامتيازات الممنوحة.. وضع مشروع اقتصادي انشائي".
ويلاحظ تجاهل مبادئ الحزب الوطني اتخاذ أي موقف من الملكية الإقطاعية أو الحديث عنها سلبا أو إيجابا. ولا غرابة في ذلك فعدد كبير من اعضاء الحزب الوطني هم من كبار الملاك الإقطاعيين أو متوسطيهم. ولم يكن بإمكان الحزب الدفاع عن الإقطاعية وهم أعمدتها، وخير وسيلة هي الصمت والإكتفاء بالكلام العام عن النهضة الزراعية.. أما الموقف من الرأسمالية الوطنية فكان واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار. فقد دعا الحزب كما رأينا لتشجيع الشركات الوطنية و"تنشيط الصناعات الزراعية والصناعات التي توجد لدينا لها المواد الأولية حماية الصناعات إلى أن تصبح قادرة على المنافسة الحرة".
في صيف 1947 نشر الحزب الوطني كراسا متضمنا نظامه الداخلي مع المطالبة باحترام مبادئ الحزب ومنهجه. والمادة الأولى من النظام الداخلي أقرت بأنه "يحق لكل سوري أن ينتسب إلى الحزب إذا كان متمما العشرين من العمر. غير محكوم بجرم شائن وغير مأخوذ بما يعيب".
تبدو مبادئ الحزب الوطني جلية في المؤتمر السنوي لفرع الحزب الوطني في حماة المنعقد في 25 إيلول 1948. ففي هذا المؤتمر خطب أحد كبار الملاك الإقطاعيين "نجيب البرازي" رئيس فرع حماة، وتلاه خازن الفرع عبد الحميد قنباز رئيس غرفة تجارة حماة، الذي قال:
"أما سياستنا الاقتصادية فترتكز على استثمار مرافق البلاد وزيادة انتاجها، وإصدار نقد حر مضمون، وإنشاء مصارف صناعية وزراعية، وتشجيع الشركات الوطنية المساهمة والتعاونية، ووضع مشروع اقتصادي إنشائي للبلاد، يشمل جميع نواحي العمل الاقتصادي والزراعي، والعناية بالثروة الحيوانية، وإقامة موارد وملاجئ في البوادي والصحراء، وحماية الصناعات واليد العاملة من المزاحمة الأجنبية، والحد من استيراد الكماليات، وجعل ضرائب الدولة وتكاليفها ضمن طاقة المكلفين واقتدارهم".
ومع تعاظم شعبية الأفكار الاشتراكية في منتصف خمسينات القرن العشرين استبق صبري العسلي أحد أركان الحزب الوطني الأحداث ساعيا لكسب أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية القادمة المزمع عقدها في ايلول 1954. فقد ألقى زعيم الحزب الوطني صبري العسلي خطاباً في حلب في 9 تموز سعى من خلاله إلى كسب العمال إلى جانب الحزب الوطني وهو الحزب الإقطاعي- البورجوازي.
ولهذا أعلن العسلي عن "تبني الحزب لشكل جديد من الاشتراكية، التي لا تسلب الرجال ثرواتهم، ولكنها تتيح للعمال أن يتمتعوا بثمرات جهودهم".
*******
 
حزب الشعب
حزب كبار الملاك والبورجوازية الحلبية
مطعّما بعدد من خريجي الجامعات الفرنسية
1948 - 1958
كان ظهور حزب الشعب عام 1948 إشارة إلى انقسام "الطبقة الإقطاعية البرجوازية" أو بتعبير أدق: الطبقتين الحاكمتين، الإقطاعية والبرجوازية، وظهور أقسام أكثر تنوراً وتحضراً من الكتلة الوطنية ووريثها الحزب الوطني. ومحاولتها إقامة حزب يدافع عن مصالح (الإقطاعية) و(البرجوازية) بشكل أكثر مرونة وعقلانية من حكم الحزب الوطني المتصف بالتزمت والانغلاق لرجال "الرعيل الوطني الأول" ورفضهم القبول بالمساومة مع الطبقات والفئات الإجتماعية الأخرى والتنازل لها عن بعض فتات محاصيل الانتاج الوطني. معنى ذلك أن حزب الشعب كان أيضا تجمعاً طبقياً برجوازياً – إقطاعياً للرعيل الثاني الشاب، الذي كان يشعر أن سياسة الحزب الوطني المؤيدة بصورة مطلقة لمصالح الاقطاعيين والبرجوازية الناشئة، ستؤدي إلى دمار الإقطاعية. ولهذا لا بد من إنقاذ هذه الإقطاعية بتقديم بعض التنازلات للطبقات والفئات الإجتماعية الأخرى. ولهذا فإن حزب الشعب الراغب في إزاحة الحزب الوطني والحلول محله سعى في بداية صعوده للتحالف مع سائر الكتل المعارضة لحكم شكري القوتلي والحزب الوطني. كما دخل في صفوفه عدد من المثقفين البورجوازيين المتنورين والليبراليين الذين درسوا في فرنسا أو تأثروا بالفكر الأوروبي بشقيه الليبرالي والاشتراكي.
ومن أجل كسب الشعبية من جهة والدفاع عن الملكية الإقطاعية والبرجوازية ونظامهما، كان بعض أعضاء الشعب يعلنون أنهم يحاربون "الإقطاعية والرأسمالية والارستقراطية" وكثير منهم في واقع الأمر بخلاف ذلك.
في سياسته الخارجية، أتُهِمَ حزب الشعب "بعمالته" للعراق الهاشمي، ولكن الواقع والحقائق والتحليل تشير إلى أن أكثرية حزب الشعب لم تكن هاشمية أو ملكية، بل كانت جمهورية، ولكنها مثّلت مصالح الفئات التجارية والصناعية، التي ترى في العراق سوقها الرائج، وهي تتطلع إلى إقامة السوق الواسعة الموحدة، الملائمة لتجارة حلب وصناعتها. وهذه السوق من وجهة نظر البرجوازية الحلبية، تقوم على اتحاد سورية مع العراق، الذي كان آنذاك نظاماً ملكياً خاضعاً للنفوذ الاستعماري الانكليزي. وهذا ما دفع الكثيرين إلى اعتبار سياسة حزب الشعب هذه محاولة لإعادة سورية من جديد إلى التبعية الاستعمارية والقضاء على استقلالها ونظامها الجمهوري وتصفية الحركة الديمقراطية والإجتماعية الصاعدة، وهذا الأمر لم يكن وارداً في حسابات الأكثرية الساحقة من زعماء حزب الشعب.
***
كان البرنامج المعلن لحزب الشعب عام 1950 يقوم على المبادئ التالية: 1- الديمقراطية، بمعنى أن الشعب هو مصدر كل سلطة، 2- الحرية بأنواعها لكل مواطن، 3- المساواة بين المواطنين دون أي تفريق بينهم، بسبب ثروة أو جاه أو دين أو مذهب، 4- التسامح بين المواطنين، 5- مبدأ العدالة الإجتماعية، 6- التوفيق بين السلطات.
ضم حزب الشعب، كما ذكرنا، قوى برجوازية وأخرى إقطاعية من كبار ملاك الأرض ومتوسطيهم، إلى جانب فئات كانت تجمع بين الملكية البرجوازية والملكية الإقطاعية، نتيجة تداخل هاتين الملكيتين، وعدم تمكن التطور الرأسمالي من القضاء على العلاقات الإقطاعية. كما برز في حزب الشعب عدد من المثقفين الدارسين في فرنسا والمتأثرين بالمناخ الفكري السائد هناك. ذلك التيار المثقف في حزب الشعب كان نسبياً تياراً مستنيراً ليبرالياً يدعو، كما أعلن، إلى "الاحتفاظ بالتراث " دون " أن يمنعنا هذا عملياً من أن نغذّ السير وراء الغرب في شتى مظاهر الحياة ".
هذا التيار المثقف داخل حزب الشعب الناشئ ضم آراء متنوعة، تراوحت بين مهادنة الاقطاعية والعداء الحذر لها. وعموماً، أراد هذا التيار المثقف تجنب الهزات الإجتماعية وإجراء إصلاحات عامة لا تمس البرجوازية، بل تساعدها على النمو. والعناصر المستنيرة في هذا التيار هاجمت الإقطاعية وفكرها دون أن تطرح بوضوح مسألة تصفية الملكية الإقطاعية وضرورة توزيعها .
ويبدو هذا الخط الوسطي واضحا في المؤتمر التأسيسي لحزب الشعب المنعقد في المصيف اللبناني "فالوغا" في 15 آب 1948. حيث رفع الحزب شعار "الاشتراكية التطورية". أما بالنسبة للموقف من الوحدة العربية، وهي الشعار السائد في منتصف القرن العشرين , فقد اتخذ حزب الشعب في مؤتمره التأسيسي قرارا براغماتيا واقعيا يناسب المصالح الاقتصادية التجارية والصناعية لبورجوزية حلب في توجهها للاتحاد مع العراق أو على الأقل إقامة صلات اقتصادية وثيقة مع بغداد، على الرغم من نظامها الملكي.
وقد عبّر المؤتمر التأسيسي للحزب عن هذه المصالح بالقرار التالي: "إلى أن تتحقق الوحدة المنشودة يسعى الحزب إلى: اقامة اتحاد دولي بين سورية والأقطار العربية.. واتخاذ الجامعة العربية وسيلة" في هذا الهدف.
هذا الخط العام لحزب الشعب استمر في السنوات اللاحقة ونجده في البيان، الذي أذاعه حزب الشعب على الشعب السوري الكريم بتاريخ 4 – 8- 1954 بمناسبة الحملة الانتخابية البرلمانية، وتضمن المنطلقات التالية:
"سيادة القانون.. نزاهة الحكم.. دعم الصناعة.. توفير حياة كريمة للعمال.. تحقيق الوحدة العربية.. الدعوة الى الاستقرار والحكم النيابي السليم".
ظهر في خمسينيات القرن العشرين داخل حزب الشعب جناحان: محافظ يمثل عموما ملاك الأرض ومصالحهم وينظر بعين الرضى إلى الحزب الوطني الممثل ايضا لملاك الأرض وجناح ليبرالي يقف في يسار الوسط وتمثل بشاكر العاص (القريب فكريا من اكرم الحوراني) والمحامي علي بوظو (من وجوه حي الأكراد بدمشق) والمحامي هاني السباعي من حمص والدكتور عبد الوهاب حومد من حلب.
ولا بد هنا من ذكر الشيخ معروف الدواليبي خريج الجامعات الفرنسية ورجل الدين القريب من الإخوان المسلمين ولم يكن الدواليبي مناصرا للهاشميين بخلاف عدد من قادة حزب الشعب. كما كان ممن ينادون بالحياد في السياسة الخارجية، وعندما اعلن ذات مرة عدم معاداته للاتحاد السوفيتي، اشيع أنه يساري الهوى. وكان الدواليبيي وهذا الأهم معارضا عنيدا لتدخل الجيش في صنع القرار السياسي. ولهذا فإن قادة الجيش عندما تحركوا لأسباب كثيرة في 29 – 11 – 1951 اعتقلوا رئيس الوزراء الدواليبي وعدد من أعضاء الحكومة ووجهوا لهم تهمة التآمر على الاستقلال السوري بالعمل للوحدة مع العراق. وكان موقف الدواليبي في السجن شجاعا ومشرّفا فقد رفض التوقيع على استقالته من رئاسة مجلس الوزراء وحاز بسبب موقفه الصلب إعجاب الشباب المُسيّس في أوائل خمسينيات القرن العشرين.
وكان لحزب الشعب أربع جرائد: الشعب في دمشق التي صدرت في2 آذار 1949، النذير في حلب السوري، الجديد في حمص، الجلاء في اللاذقية. واحتلّ في خمسينيات القرن العشرين مكانا بارزا في الحياة السياسية.
********
حركة التحرير العربي
1952 – 1954
حزب الحاكم الشيشكلي
العقيد أديب الشيشكلي من مواليد حماة وتنتمي عائلته إلى متوسطي ملاك الأرض، وهي من العوائل التي وقفت في وجه إقطاعيي حماة من كبار ملاك الأرض كالبرازي والعظم والكيلاني لإزاحتهم والحلول محلهم سياسياً. وكان والده حسن آغا يملك قرية الرصافة التابعة لقضاء مصياف.
كانت سياسة الانتداب الفرنسي ترمي إلى كسب أبناء الفئات الوسطى من عوائل المدن والريف عن طريق قبولهم في الكلية العسكرية.وفي هذا السياق انتسب أديب الشيشكلي إلى الكلية الحربية أواخر عهد الانتداب الفرنسي. وبعد تخرجه من الكلية خدم أديب في دير الزور واللاذقية وبرز في مستهل عهد الاستقلال ضابطا وطنيا يتمتع بمؤهلات القيادة. وفي مقتبل شبابه شدته مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي كما شدّت ابن حارته وصديقه أكرم الحوراني فانتسبا إليه.
لم يكن الضابط أديب الشيشكلي بعيدا عن الانقلاب العسكري للزعيم حسني الزعيم في آذار 1949 الذي أطاح بحكم الحزب الوطني وزعيمه رئيس الجمهورية شكري القوتلي. وقد حدث هذا الانقلاب بمساعدة السياسة الأميركية الصاعدة آنذاك والساعية لمد أنبوب نفط التابلاين من السعودية إلى ميناء صيدا عبر الحدود السورية. وكان انقلاب الزعيم يعني في أحد وجوهه تقليص النفوذين الفرنسي والبريطاني والحلول محلهما بمباركة أميركية. وجاء انقلاب الضابط سامي الحناوي بتوجيه حزب الشعب المتحالف مع الحكم الهاشمي في العراق ليطيح بحكم الدكتاتور العسكري الأرعن حسني الزعيم في صيف 1949 وإحلال حكم حزب الشعب المدني الديموقراطي. ولم يكن حزب الشعب كما ذكرنا مواليا للانكليز بل إن مصالح الطبقة التجارية والصناعية التي مثلها كانت تتطلع إلى علاقات اقتصادية قوية مع العراق تصب خيراتها في مدينة حلب. وهنا برز العقيد أديب الشيشكلي مناهضا للتقارب بين العراق الهاشمي ومشروع الهلال الخصيب، الذي كانت وراءه السياسة البريطانية الراغبة في تحجيم الدور الأميركي في سورية. ودخل العقيد أديب الشيشكلي رئيس الأركان على خط التناقض البريطاني الأميركي وقام بانقلاب أبيض أزاح حزب الشعب عن الحكم وحلّ برلمان 1949 وشرع يحكم البلاد حكما شبه دكتاتوري. ومن أجل إضفاء صفة الشرعية على حكمه العسكري أسس حزبا حاكما وأجرى استفتاء لإنتخابه رئيسا للجمهورية وأقام مجلسا نيابيا عن طريق الانتخاب مواليا له.
وهكذا دشّن العقيد أديب الشيشكلي حركة التحرير العربي في 25 – 3 – 1952. وكان برنامج الحركة خليطا من أفكار القوميين السوريين والاشتراكيين العرب وحزب البعث ومقاطع من خطب الشيشكلي ومن دستور 1950
ومع أن الشيشكلي تأثر في شبابه بأفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي إلا أنه كصديقه وابن مدينته أكرم الحوراني انحازا إلى العروبة والأجواء الشعبية المتعلقة بأفكار القومية العربية. وكان من حصيلة تلك الأجواء برنامج حركة التحرير كما هو واضح من فقرات برنامج الحركة:
العرب أمة واحدة.. حدودها (مأخوذة من مبادئ عصبة العمل القومي).. الشعب السوري جزء من الأمة العربية.. تحرّم الدولة النعرات والعصبيات المذهبية والطائفية والطبقية والعشائرية والعائلية وكل ما يهدد الكيان القومي.. النظام الاقتصادي في الدولة يحترم الملكية الخاصة ضمن نطاق العدل الاجتماعي.. تقوم الدولة بتوزيع أراضي املاك الدولة غير المستثمرة على الفلاحين غير المالكين.. تشجع الدولة المشاريع الاقتصادية وتحميها وتساهم فيها عند الاقتضاء.. تحرير الشعوب العربية ونبذ الاستعمار بكل أشكاله.. المساهمة في إسعاد البشرية والمحافظة على السلام.
ولكنّ الشيشكلي وحزبه "حركة التحرير العربي" لم يفلحا في كسب الشباب المتأثر بأفكار البعث أو الشيوعية أو الإخوان المسلمين إلى صفوفه، واقتصر منتسبيه على الموظفين والانتهازيين الراغبين في الاستفادة من الحكم ومغانمه. ولهذا فسرعان ما انهار تنظيم الحزب (حركة التحرير) مع انهيارالشيشكلي إثر موجة شعبية عارمة مؤيَدة من مختلف الأحزاب توجّت بتحرك عسكري في حلب دفع الشيشكلي لمغادرة البلاد على الرغم من أن قوى عسكرية وازنة في دمشق كانت موالية له.
***
كاتب هذه الأسطر، الذي عاش (دكتاتورية) حكم الشيشكلي بدقائقه وشارك بحماس في المظاهرات الطلابية المنادية بسقوطه، ينظر منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى حكم الشيشكلي أو دكتاتوريته نظرة مختلفة عمّا مضى للأسباب التالية:
- النظر إلى عهد الشيشكلي من خلال النظرة الهادئة المحايدة والمعطيات التي توصل إليها كاتب هذه الأسطر.
- مقارنة بما أقامه الحكام العرب من دكتاتوريات ونظم مستبدة يبدو عهد الشيشكلي واحة ديموقراطية في ذلك المحيط المظلم للحكام العرب.
- خلال الجولات والدراسات الميدانية التي قام بها كاتب هذه الأسطر في الأرياف والمدن السورية تبين له احترام عهد الشيشكلي لأحكام القضاء وعدم التدخل في شؤونه.
- لم تكن المباحث السلطانية قد دخلت بعد في خلايا المجتمع وأجهزة الدولة.
- والمكتب الثاني الجهاز العسكري المخابراتي الذي أسسه وقاده الضابط عبد الحميد السراج كان لا يزال في طوره الجنيني. ولم تظهر الجوانب السلبية لجهاز المكتب الثاني إلا في عهد الوحدة بين سورية ومصر حيث رعى هذا الجهاز وطوّره عبد الحميد السراج دكتاتور سورية في عهد الوحدة. وقد أسهمت المخابرات المصرية ذات التاريخ العريق في في القمع والإضطهاد في تدريب ضباط المكتب الثاني وتأهيلهم لإرهاب الشعب وبالتالي "خصيه". ومع الزمن أخذ جهاز المباحث السلطانية يسيطر على جميع مناحي الحياة.
- قطف حكم الشيشكلي ثمار عهود الاستقلال السابقة وانتعاش الحياة الاقتصادية وفي مقدمتها الصناعية فشهد عهده نمواً ملحوظا للاقتصاد.
- وقف الشيشكلي في عدة حالات إلى جانب الفلاحين ضدّ كبار الملاك وشيوخ العشائر الإقطاعيين. ومن أمثلة ذلك قدوم سيارة مليئة بالرجال والنساء من عين عيسى إلى الشمال من الرقة للاحتجاج على عسف الإقطاعي النوري بن المهيد شيخ عشائر الفدعان. وقد استجاب الشيشكلي لمطالب فلاحي عين عيسى وأمر بإقامة مخفر عسكري في عين عيسى لحمايتها من النوري ومن حليفه الضابط صلاح الشيشكلي شقيق أديب وأحد المهربين الكبار قياسا إلى ذلك الزمن.
ولكن ذلك لا يعني غض الطرف عن ممارسات الشيشكلي في قمعه الوحشي لتحرك جبل العرب، الذي كان كمقدمة للموجة الشعبية العارمة التي أطاحت بالشيشكلي. كما أن سعي الشيشكلي فيما بعد للتعاون مع السفارة الأميركية في دمشق للإطاحة بالحكم الوطني آنذاك كان أيضا نقطة سوداء في تاريخه.