كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سجن المزة العسكري.. تاريخ أسود

عماد الأرمشي- فينكس

ذكر الأستاذ سامر الموسى أن سجن المزة أقيم على هضبة مرتفعة جرداء، تحاذي الجبل.
بنى الفرنسيون في عام 1923 الطابق الأول من سجن المزة العسكري على أنقاض قلعة عثمانية. ليكون واحداً من أشهر السجون السورية، ومنتهى معظم السياسيين السوريين والعسكريين المعروفين والناشطين المدنيين والحقوقيين والأدباء والكتاب، حتى بات اسمه لا يغيب عن أية حكاية من حكايات التاريخ السياسي السوري.
الموقع والبناء:
تحيط بهضبة السجن ثلاثة حواجز دائرية من الأسلاك الشائكة، ويتألف البناء من كتلتين تحوي كل منهما طبقتين اثنتين وتفصلهما ساحة السجن الداخلية. الكتلة الأولى تطل على مدينة دمشق وعلى الساحة الخارجية للسجن. وقبل ولوج البوابة الخارجية للسجن ثمة فسحة صغيرة عُلِّق على جدرانها بعض الشعارات “المرحبة” بالزوار من مثل: “أنا بعثٌ وليمتْ أعداؤه… عربي عربي عربي”، وأيضاً: “السجن: إصلاح، تهذيب، تقويم”!
غالبية المهاجع والغرف تخلو من أي جهاز تدفئة، ويقوم بخدمة المساجين وإطعامهم مجندون فارون من الخدمة العسكرية ومعتقلون، يعرفون باسم “البلديات”.
مستقر الحاكم والمحكوم
استخدم السجن لأغراض سياسية لأول مرة بعد الاستقلال من قبل حسني الزعيم، الذي قاد انقلاباً على السلطة الشرعية في البلاد ممثلة برئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس حكومته خالد العظم بتاريخ 30 آذار 1949، حيث اقتيد رئيس الوزراء إلى هذا السجن، وزُجّ في هذا السجن بالعشرات من معارضي الانقلاب الذي استمر 137 يوماً، فسجن فيه قادة حزب الشعب والحزب الوطني، وميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، لتشاء الأقدار في أعقاب انقلاب سامي الحناوي على حكم حسني الزعيم أن يُنفذ فيه حكم الإعدام، مع رفيقه وساعده الأيمن محسن البرازي، في الباحة الخارجية للسجن من قبل الضابط القومي فضل الله أبو منصور دون محاكمة انتقاما لمقتل أنطون سعادة. 

وبتاريخ 19 كانون الأول 1949 أطاح انقلاب على قيادة الجيش بسامي الحناوي متهماً إياه بالتآمر مع العراق، وأدخل بدوره سجن المزة! لكن سرعان ما أُطلِق سراحه بعد اعتراض العديد من النواب في المجلس التشريعي، ورحّل إلى بيروت حيث قضى فيها برصاصات أطلقها عليه أحد أقرباء محسن البرازي.

المفارقة أن منير العجلاني الذي كان أكثر النواب مهاجمة لهذا السجن، مشبهاً إياه بسجن “الباستيل” وواصفاً زنازينه بالمقابر التي يبلغ طولها متراً واحداً وعرضها بضعة سنتيمترات، ومطالباً بإصدار تشريع يحرّم سجن المدنيين فيه؛ اعتقل هو الآخر في هذا السجن بعد 6 سنوات حين اتهم مع شخصيات سياسية ونيابية وعسكرية أخرى بالتحضير لانقلاب على الحكم الديموقراطي في سوريا بالتنسيق مع السفارة العراقية في دمشق.
في 2 كانون الأول 1951 قام العقيد أديب الشيشكلي بالانقلاب الرابع على حكومة حزب الشعب التي كان يترأسها معروف الدواليبي، دافعاً برئيس الجمهورية هاشم الأتاسي إلى الاستقالة احتجاجاً على تدخل الجيش في السياسة، وقد زجّ الشيشكلي برئيس الحكومة ومعظم أعضائها في سجن المزة، حيث أمضوا بين جدرانه ما يقارب السنة. وضاق هذا السجن، خصوصاً في الشهر الأخير من حكم العقيد، بمعظم قادة أحزاب المعارضة (75 قيادياً منهم صبري العسلي، رشدي كيخيا، فيضي الأتاسي، علي بوظو، صلاح بيطار، ميشال عفلق) وبقادة الحركة الطلابية من شيوعيين وبعثيين، وبضباط الجيش المقربين من هذه الأحزاب وفي مقدمتهم عدنان المالكي.
ثم تمّ إطلاق سراحهم وعادت الحياة السياسية السورية إلى مجراها الشرعي، ولكن مع اغتيال العقيد عدنان المالكي المقرب من البعث؛ عاد التوتر مجدداً، حيث اتهم الحزب القومي السوري بتنفيذ عملية الاغتيال وصدر قرار بحله وأدخلت قياداته سجن المزة وفي مقدمتها عصام المحايري، وإلى تلك الفترة تعود أولى محاولات الهروب الناجحة من سجن المزة، وهي حادثة هروب الضابط القومي السوري محمود نعمة (ملاحظة من فينكس: محمود نعمة من مشتى الحلو، وهو من أصل مسيحي أرثوذكسي، وقريب القائد الشيوعي الراحل دانيال نعمة، سافر لاحقاً إلى لبنان وتوفي هناك).
في عهد الوحدة مع مصر (1958-1961) استخدم عبد الحميد السراج، سجن المزة على نحو واسع لترويع كل من كان يعتبره معادياً للنظام الناصري في الإقليم الشمالي. وكان في مقدمتهم كوادر الحزب الشيوعي السوري اللبناني، وعلى رأسهم رياض الترك الذي أمضى في سجن المزة ما يزيد على السنة.
 بعد الانفصال تم اقتياد السراج بدوره إلى سجن المزة، وما لبث أن تمكن من الهرب من السجن بمساعدة رئيس الحرس، حيث توجّه إلى لبنان ومنها إلى القاهرة.
وسرعان ما اختلف ضباط الانفصال مع رئيس الجمهورية ناظم القدسي ورئيس حكومته معروف الدواليبي، وقاموا بانقلابهم الثاني بتاريخ 28 آذار 1962، وسجنوا في سجن المزة رئيس الحكومة وأعضاءها وعدداً كبيراً من النواب والشخصيات السياسية ومنهم: خالد العظم، رشدي كيخيا، لطفي الحفار، جلال السيد، مأمون الكزبري، مصطفى الزرقا، فيضي الأتاسي، عوض بركات، حنين صحناوي، سهيل الخوري.
وإلى تلك الفترة يعود اعتقال بعض الضباط المقربين من البعث، وفي مقدمتهم صلاح جديد وحافظ الأسد، اللذين أوقفا في سجن المزة لفترة قصيرة لا تتجاوز الشهر. وسرعان ما خرج المعتقلون من المزة وعاد المدنيون إلى الحكم.
لكن الأمر لم يستتب طويلاً للمدنيين وما هي إلا شهور حتى قام انقلاب 8 آذار 1963 بتنسيق بين الضباط البعثيين والناصريين تحت شعار إعادة الوحدة بين سوريا ومصر.
وكما جرت العادة بعد كل انقلاب، اعتقل رئيس الجمهورية وطاقم حكمه وسجنوا في سجن المزة، ليغادره حراً في بداية شهر أيار. لكن ضيوفاً جدداً حلوا على السجن، وهم في غالبيتهم من الناصريين الذين تقاتلوا دموياً مع زملائهم البعثيين خلال أحداث 18 تموز 1963، بعدما تبين لهم أن البعثيين لم يكن هدفهم من الانقلاب إعادة تحقيق الوحدة مع مصر.
وبعدما استتب الحكم لحزب البعث، بدأ الإخوة الأعداء من البعثيين بالتقاتل والتناحر في ما بينهم، وأنهى ذلك انقلاب 23 شباط 1966 بإزاحة القيادة التاريخية لحزب البعث ممثلة بميشال عفلق وصلاح البيطار لصالح القيادة القطرية للحزب، وأدخل على إثر هذه الحركة التي قادها اللواء صلاح جديد، كل من أمين الحافظ ومحمد عمران برفقة عدد من أنصارهما إلى سجن المزة، وفي تلك الفترة أعدم داخل السجن الضابط سليم حاطوم الذي كان سبق له أن قاد تمرداً عسكرياً في جبل العرب، فرّ على إثره إلى الأردن ليعود ويدخل سوريا من جديد في بداية حرب حزيران.
ومن المفارقات الغريبة في تاريخ هذا السجن أن مديره في نهاية الستينات الضابط نعيم خوري اتهم بالتعاطف مع سليم حاطوم فعُزِل من منصبه وأعيد إلى السجن سجيناً، حيث أمضى فيه ما يقارب العام.
مع انقلاب الفريق حافظ الأسد على قيادة الجيل الثاني من البعث، أدخل جميع أعضاء القيادة القطرية إلى سجن المزة وفي مقدمهم الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الدولة، واللواء صلاح جديد الأمين العام المساعد والدكتور يوسف زعين رئيس مجلس الوزراء الأسبق. وأمضى الأول 22 عاماً في السجن، أصيب في نهايتها بمرض السرطان وأفرج عنه قبل شهرين من وفاته.
أما الدكتور زعين فخرج من السجن بعد عشر سنوات إثر إصابته بمرض عضال، في حين توفي صلاح جديد في المشفى بعد 23 عاماً من الاعتقال دون محاكمة في ذلك السجن الرهيب.
وقد شهدت حقبة الثمانينات دخول أعداد كبيرة ومتنوعة المشارب من السجناء السياسيين، فكان هناك الشيوعيون والأخوان المسلمون والبعثيون وغيرهم من التيارات السياسية السورية المعارضة، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من اللبنانيين والفلسطينيين.
وأجريت في تلك الفترة، داخل السجن، محاكم ميدانية للعناصر التي اتهمت بتنفيذ أعمال تخريبية وعمليات اغتيال وقتل، ونفِّذت أحكام شنق وإعدام داخل أسواره. كما دخله عدد من أبرز قيادات الأخوان المسلمين، ومنهم مروان حديد، وتوفى فيه عام 1977، والشيخ سعيد حوا، قبل أن يطلق سراحه ويغادر إلى الأردن.
أعلن في 13 أيلول 2000، عن إغلاق سجن المزة العسكري لكثافة الضغوط على الحكومة من المحافل الدولية لحقوق الإنسان. فأغلق وأُغلقت معه حقبة بشعة من تاريخ السجون السورية.