كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الثورة الوطنية لـ"أهل القرى" بقيادة إبراهيم هنانو

د. عبد الله حنا- فينكس

 الثورة الوطنية لـ"أهل القرى" بقيادة إبراهيم هنانو بين سندان الإقطاعية العثمانية ومطرقة الاحتلال الاستعماري
لن نتحدث هنا عن الثورة السورية الكبرى 1925 – 1927 فقد كُتب عنها الكثير، بل سنولي الاهتمام هنا إلى ما عُرِف بثورة الشمال أو بثورة إبراهيم هنانو والظروف المحيطة بقيامها وانتهائها. وإبراهيم هنانو زعيم هذه الثورة أصبح في سنوات النضال السلمي بعد 1928 من قادة الكتلة الوطنية البارزين..
واجهت ثورات الشمال مشكلة شائكة أربكت جمهورها والقائمين عليها. فالنضال ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي أمر مشروع ومفهوم شاركت فيه بنسب متفاوتة أعداد من المجاهدين، الذين رفعوا راية النضال. ولكن المشكلة الأساسية كَمُنت في تحديد مستقبل البلاد وطبيعة النظام بعد طرد الاستعمار؟.. فما العمل بعد التحرر من الاستعمار؟.. هل يعني ذلك عودة الحكم العثماني وتفرعاته وعودة الفوضى وتسلط قوى الإقطاع والدولة المريضة، أي الدولة العثمانية وهذا لقبها في آخر أيامها؟.. أم أن القوى الكمالية الأتاتوركية الناهضة في الأناضول ستسد الفراغ؟.. وما الموقف من الدولة الوطنية العربية الناشئة في دمشق، بمنطلقاتها القومية العربية والعلمانية، هل كان لها رصيد في أوساط الثوار؟.. أم أنّ إيديولوجية الجامعة العثمانية كانت هي السائدة في عقول معظم الثائرين؟.. وكانت الطامة الكبرى ان هذه الإيديولوجية "العثملية" المنهزمة في الحرب كانت القوى الكمالية الأتاتوركية قد حفرت قبرها في قلب الأناضول. ولهذا لم يكن مستغربا الفراغ الحاصل في هذه المرحلة الانتقالية في عقول أكثرية الثوار. فعلى الرغم من أهمية الإسلام ودوره في شحذ همم المجاهدين، إلا أن الظروف الزمانية والمكانية لم تسمح لقادة الثورة في رسم برنامج واضح يضم الجميع تحت لوائه.
هكذا فإن المشكلة الشائكة كمُنت: في أي الاتجاهات سيسير الثوار وعدد كبير منهم لا يزال مرتبطا "روحيا" بالماضي العثماني المحتضر؟.. ومن هنا ندرك عدم وجود برنامج أو أهداف واضحة لدى ثورات الشمال ولم يمهلها الزمن لالتقاط أنفاسها. لقد كانت تلك الثورات تتلقى الضربات المتلاحقة من مطرقة الاستعمار الفرنسي على سندان نظام إقطاعي عثماني متخلف. وهذا النظام العثماني أمعن، فيما مضى، في استغلال سكان المدن وفلاحي الأرياف باسم الدولة العلية المتسترة خلف الدين والمستغِلة له للاستمرار في الاستثمار والاضطهاد والقهر لصالح رجال البلاط ومن يسير في ركابهم. من هنا نفهم معاناة القوى الواعية في الثورة وعلى رأسها إبراهيم هنانو، الذي اختار في النهاية الانسحاب سائرا في مجاهل البادية ورافضا الذلّ والهوان.
وتحت وطأة هذه الظروف الناشئة في العقود الأخيرة من عمر الدولة العثمانية تقدم الاستعمار الفرنسي ليدق المسمار الأخير في نعش الدولة العثمانية الآيلة إلى الزوال منذ زمن بعيد. ومن هنا ندرك عمق المشكلة التي واجهت ثوار الشمال الواقعين تحت وطأة الاستغلال الإقطاعي (العثماني) وذكريات حكمه من جهة، ونار الغزو الامبريالي الفرنسي من جهة أخرى.
في أجواء تلك الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية وما امتزج بها من مؤثرات تراثية إسلامية وما أحاط بها من عوامل خارجية قاد إبراهيم هنانو ما عُرف باسم ثورة الشمال، وبذل كل ما يملك في سبيل نقائها ونجاحها.
الضابط الوطني إبراهيم الشغوري الذي اصطفاه هنانو لمرافقته وجعله أمين سر قيادة الثورة، قاد في نيسان 1920خمسين فلاحا مجاهدا وحاصر قلعة حارم، التي تحصن فيها الجنود الفرنسيون. ويشير الشغوري في مذكراته إلى محاولات بعض الغوغاء من العرب السيارة الضاربة بيوتها في أطراف حارم الاستفادة من الخلافات المحلية وظروف الثورة فامتدت أيديهم إلى أموال الأهلين بالنهب، فما كان من قيادة الثورة إلا أن جردت دوريات لمنعهم. ومعروف أن الثورات في كل زمان لم تعدم من يستغلها ويقوم بالسلب والنهب. فيوسف السعدون ذكر في مذكراته أن جماعة أحمد بك مرسل لم يكن لهم همّ إلا السلب والنهب. ويطلق السعدون على هؤلاء تعبير "الدخلاء على الثورة".
يسمي نجيب عويد، الساعد الأيمن لهنانو، أعمال السلب والنهب بـ"الأعمال السافلة"، وكان شديد الوطأة على النهّابين. فعندما دخل الضابط التركي عاصم بلدية معرة النعمان وسلب المال من صندوقها اتجه إلى قرية الصقيلبية المسيحية ونهبها. وعلى أثرها "ارتأينا"، كما ذكر عويد، "أن ندعوا أهل القرى وتقرر ردع عاصم". وبعد جهود جبارة تمكن نجيب عويد ومن معه من قتل عاصم وإراحة الناس من شروره.
لم يتزعم إبراهيم هنانو الثورة من منطلق عشائري أو طائفي. فهو لم يكن صاحب عصبية قبلية أو طائفية، على الرغم من تحدّره من فئات ملاك الأرض. ويبدو أن إتمام دراسته في استنبول وجولاته في مناطق عديدة كوّنت لديه مفاهيم جديدة، وجعلته على اتصال بالأفكار القومية العربية، واطلاع واسع على بعض جوانب الحركات الثورية العالمية.
لقد استهل هنانو بيانه الأول بإعلان الثورة بعبارة "من العرب إلى العرب". وفي هذا إشارة واضحة إلى قومية المعركة، مع العلم أن هنانو تحدّر من عائلة كردية.
وفي الأيام الحالكة من أوائل صيف1921 وبعد أن تبيّن أن الثورة تجتاز أيامها الأخيرة دعا هنانو لمؤتمر عام للبحث في أفضل الطرق الواجب اتباعها. وعندما اقترح نجيب عويد الالتجاء إلى الأراضي التركية المتاخمة ردّ هنانو بقوله:
"والله لو خُيّرت على أن أكون مسلما تركيا أو مسيحيا عربيا لاخترت الثانية، ولذا فإني أفضل اجتياز الصحراء الشاسعة إلى شرقي الأردن لأعيش في كنف حكومة عربية".
ويبدو بوضوح أن إبراهيم هنانو كان عن طريق تركيا على اطلاع على مجريات ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، وله كما ذكر يوسف إبراهيم يزبك عدة مراسلات مع لينين. يدلّ على ذلك أيضا بيانه المؤرخ في أيلول 1920 والموجه إلى قناصل الدول الأجنبية، والذي جاء فيه:
"إننا لا نقصد من قيامنا هذا إلا حفظ استقلالنا ليمكننا تأسيس موازنة عادلة على أسس الحرية والمساواة بين جميع الطوائف... هذا وإنّا لا ننفك ندافع عن أوطاننا حتى الموت، فلسنا بمسؤولين عمّا يسفك من الدماء في غايتنا المشروعة نحن السوريين نموت ونتبلشف (أي نصبح بلاشفة شيوعيين من أنصار لينين) ونجعل البلاد رمادا ولا نخضع لحكم الظالمين".
لقد أحاطت جملة عوامل وظروف فجعلت من إبراهيم هنانو المثقف والبعيد عن العشائرية والطائفية قائدا وطنيا بامتياز.
ولكن ثمة أمر حدّ من نشاطات وإمكانات إبراهيم هنانو وهو القاعدة الاجتماعية، التي اشتركت في الثورة والمؤلفة عموما من فلاحين غارقين آنذاك في غياهب الجهل والأمية وخاضعين لجملة عوامل كانت تتحكم في الريف السوري في عهد السيطرة الإقطاعية العثمانية، التي فرضت على الفلاح نمطا من الحياة والتفكير والمفاهيم الغيبية، التي تعرقل انتشار الروح الثورية وتهيئ أرضية صالحة للعناصر المتخاذلة والفوضوية الراغبة في التعاون مع المستعمر المحتل.
ومعنى ذلك أن إبراهيم هنانو ومن التفّ حوله من نواة وطنية فلاحية واعية نسبيا لم تكن قادرة رغم جهودها الجبارة، على تنظيم الثورة تنظيما دقيقا صارما يمنع أعداءها من استغلال نواقصها لضربها من الداخل.
وعلى الرغم من إشكالية الحامل الاجتماعي للثورة، فإن الفلاحين حملوا العبء الأكبر من النضال الوطني في الفترة الأولى من الاحتلال الاستعماري الفرنسي. ومن أدلة المكانة الرفيعة التي تمتع بها الفلاحون داخل الحركة الوطنية، النداء الذي أذاعه إبراهيم هنانو في 6 كانون الثاني 1921، والذي ابتدأ بمخاطبة الفلاحين والقرويين بـ(أهل القرى) وحثهم على الجهاد. لقد افتتح النداء بالعبارة التالية:
"أيها الفلاحون والقرويون يا بني وطني... ويا أبناء سورية الأشاوس".
لقد خصّ إبراهيم هنانو الفلاحين بندائه في الأيام الأولى من عام 1921 بعد أن انحازت القوى الإقطاعية إلى جانب المستعمرين، أو اتخذت موقفا مهادنا منهم.
وبعد أن فقدت ثورة إبراهيم هنانو مقومات النجاح انسحب هنانو مع 40 مجاهدا باتجاه البادية بهدف الالتجاء إلى شرق الأردن. وبعد إقامة قصيرة في عمان انتقل إلى فلسطين كطريق للوصول إلى أوروبا. ولكن سلطات الاحتلال البريطاني سلّمته إلى الفرنسيين، الذين أحالوه إلى محكمة عسكرية فرنسية في حلب. وكانت المفاجأة أن المحكمة الفرنسية برّأته من تهمة السلب وتشكيل عصابات واعتبرت عمله ثورة مشروعة لمقاومة الاحتلال. وبعدها انتقل هنانو إلى النضال الوطني السلمي وكان من أبرز زعماء الكتلة الوطنية حتى وفاته عام 1935.
*******
مع الأسف كان تعليق احد قراء صفحتي وهو من مشاهير اساتذة الفقه المقارن حرفيا ما يلي:
"لكن لا نسمع لهنانو ذكر في حياتنا"
استغفر الله العظيم استاذ من هذا الوزن لم يسمع بهنانو...
ولهذا رأيت أن يتطلع القراء على الثورة الوطنية لإبراهيم هنانو في الشمال الشرقي من سورية قبل تمزيقها وهنانو وثورته منشورة في كتابي المؤلف من ثلاث مجلدات، والذي بعد طبعه بتمويل الاتحاد العام للفلاحين قامت السلطات سنة 1991بفرم المجلدات الثلاث وإرسالها كعجينة إلى معمل الورق في دير الزور.
والحلقات التالية هي نقل لما جاء في كتاب تاريخ الفلاحين المفروم والمباد. ولا أزال احتفظ بنسخة من "المرحوم" أو "الشهيد الحي".
ثورة فلاحي الشمال السوري الوطنية
بقيادة ابراهيم هنانو
1 – الفلاحون بين الاستسلام والراديكالية:
بعد احتلال الفرنسيين لاسكندرون قاموا باحتلال أنطاكية وحارم بمساعدة البريطانيين، الذين ضغطوا على الحكومة العربية لعدم القيام بأي اجراء معاكس والتسليم بالأمر الواقع، وقد أثار هذا الاجراء، الذي أيده معظم كبار الملاك في حارم والمناطق المجاورة وعارضه قسم من كبار الملاك ذوي النزعة الوطنية، الذين سعوا لحشد الفلاحين وقيادتهم في النضال ضد الاحتلال الفرنسي. فتشكلت في كفر تخاريم لجنة للجهاد لم تكلل أعمالها بالنجاح، أعقبتها لجنة تشريعية تجمع الأموال والتبرعات من الأهلين لتمويل الثورة. وفي أرمناز شكل المعادون للاحتلال حكومة ثورية لتنظيم الشؤون الادارية والمالية(22).
وكنا قد ذكرنا سرعة استسلام صبحي بركات، الذي قاد التحرك المسلح ضد الفرنسيين بعد هزيمة الحكومة العربية في دمشق واحتلال الفرنسيين للداخل. وبقي الجناح الراديكالي الوطني من كبار الملاك، الذي استمر رافعا راية النضال الوطني المناهض للاحتلال الفرنسي حتى النفس الأخير. وهذا الجناح الوطني الراديكالي اعتمد اعتمادا كليا على الروح الوطنية لدى جماهير الفلاحين في كفر تخاريم وسلقين وجبل الزاوية وغيرها من المناطق الثورية في منطقة ادلب. كما حاول الاستفادة من الصراع بين الأتراك الكماليين والفرنسيين.
2 – ابراهيم هنانو والقيادة ا لوطنية الثورية للفلاحين:
قاد ابراهيم هنانو (1869 – 1935) ما عرف باسم ثورة الشمال (1920 – 1922) وبذل كل ما يملك في سبيل نجاحها. كان والد ابراهيم هنانو من الملاك ومن أعيان كفر تخاريم. ولم يكن الوالد راضيا عن اتجاه ابنه إلى الدراسة ودخول الوظائف وترك مزارعه (23).
كان ابراهيم هنانو عضوا في المؤتمر السوري في عهد الحكومة العربية ولم يكن راضيا عن سياسة الجناح الداعي إلى المساومة مع الفرنسيين. وفي حلب عمل رئيسا لديوان المحافظة وكان على اتصال وثيق بالحركات الوطنية الثورية في منطقة انطاكية واحد قادتها والمنظم الرئيسي لها خصوصا بعد تراجع العناصر المتخاذلة من أمثال صبحي بركات.
وفي حلب عهدت السلطة الوطنية العربية إلى الضابط الوطني الملازم المجاهد ابراهيم الشغوري من أهالي كفر تخاريم، ليكون ضابط الارتباط بين الحكومة العربية والمجاهدين، فتولى أمر تدريب الثوار على استعمال القذائف اليدوية، ووضع الخطط الحربية لضرب المواقع العسكرية الفرنسية، فكان هذا الضابط مخلصا في تطبيق ما عهد إليه من أعمال ثورية خطيرة، فاصطفاه الزعيم هنانو لمرافقته وجعله أمير سر قيادة الثورة، وظل وفيا لواجباته متفانيا في خدمة الثورة وزعيمها حتى النهاية (24).
من العمليات التي قام بها ابراهيم الشغوري أنه قاد في / 18 / نيسان / 1920 / خمسين فلاحا مجاهدا (أربعون من كفر تخاريم وعشرة من سلقين) وحاصر قلعة حارم التي تحصن فيها مئتا جندي فرنسي.
وقد أدى هذا الحصار إلى انتشار لهيب الثورة في المناطق المجاورة. حيث سارع عدد كبير من المسلحين للالتحاق بالثورة واحكام الحصار على القلعة. ولم يتمكن الفرنسيون من فك الحصار المضروب على القلعة مدة تزيد على الشهرين إلا بعض وصول النجدات الفرنسية من الساحل (25).
والملاحظ هنا أن الثوار بقيادة الشغوري قاموا بالمحافظة على دار الحكومة وسجلاتها الرسمية تفاديا من النهب والاتلاف. وقد حاول بعض العربان المخيمين في المنطقة المجاورة انتهاز الفرصة والأوضاع السائدة، والتعدي على السكان بالنهب والسلب فمنعهم المجاهدون وحالوا دون التعديات والفوضى أثناء حصارهم لقلعة حارم وسيطرتهم على المنطقة في فترة النهوض الوطني الذي عم سورية بعد اعلان الاستقلال في / 8 / آذار / 1920 / وقبل هزيمة ميسلون تموز / 1930 /.
الأجواء الثورية المناهضة للاحتلال الاستعماري الفرنسي دفعت بنواة المقاومة إلى تشكيل "حكومة" في أرمناز لتنظيم الشؤون الادارية والمالية. وقد أمرت هذه "الحكومة" باسقاط جميع الضرائب عن المواطنين إلا اثنتين:
- ضريبة العشر: على المنتوجات الزراعية وتؤخذ عينا.
- ضريبة المواشي: وتؤخذ بمعدل خمسة قروش عن كل رأس من الماشية.
الأمر الهام، الذي يستدعي الانتباه، هو سير هنانو على خطة دعوة زعماء ووجهاء مناطق الشمال (ادلب – كفرتخايم – جسر الشغور – حارم) والتداول في أمر اشعال الثورة وتويسع نطاقها، وهذا مما أضفى على الثورة الوطنية الفلاحية في الشمال طابعا ديموقراطيا يحمل سمات الشورى المتلائمة مع ظروف ذلك العهد ومفاهيمه ونسبة القوى الطبقية السائدة في الريف. ويعود أحد أسباب هذه الشورى إلى حقيقة أن ابراهيم هنانو لم يتزعم الثورة من منطلق عشائري أو طائفي. فهو لم يكن صاحب عصبية قبلية أو طائفية (26)، على الرغم من تحدره من فئات ملاك الأرض كما أن إتمام دراسته وجولاته في المدن كونت لديه مفاهيم جديدة وجعلته على اتصال بالأفكار القومية العربية، واطلاع على بعض جوانب الحركات الثورية العالمية.
ومن أجل تأمين الدعم العسكري والمعنوي للثورة سافر ابراهيم هنانو إلى تركيا في أواخر شهر آب / 1920 / واتصل في مرعش بممثلي القيادة الكمالية (نسبة إلى كمال "أتاتورك") وعقد معهم اتفاقا في 6 أيلول 1920 من أجل دعم الثورة بالأسلحة والذخيرة.
من جهة أخرى كان لإبراهيم هنانو اتصالات خطية مع لينين قائد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا. وكان هنانو يحتفظ برسائله مع لينين حتى وفاته، وقد تحدث بشأن هذه الرسائل إلى يوسف ابراهيم يزبك (27).
ويبدو بوضوح أن ابراهيم هنانو كان عن طريق تركيا على اطلاع على مجريات ثورة أكتوبر وأهدافها. يدل على ذلك بيانه المؤرخ في أيلول / 1920 / والموجه إلى قناصل الدولة الأجنبية والذي جاء فيه (28):
"اننا لانقصد من قيامنا هذا إلا حفظ استقلالنا ليمكننا تأسيس موازنة عادلة على أسس الحرية والمساواة بين جميع الطوائف... هذا وإنّا لا ننفك ندافع عن أوطاننا حتى الموت، فلسنا بمسؤولين عما يسفك من الدماء في غايتنا المشروعة نحن السوريين نموت ونتبلشف (أي نصير بلاشفة نسبة إلى ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا / 1917 /) ونجعل البلاد رمادا ولا نخضع لحكم الظالمين".
هذه العوامل المتعددة والظروف، التي أحاطت بابراهيم هنانو جعلت منه قائدا ثوريا يتميز كثيرا عن معظم – ان لم نقل جميع – قادة الثورات الوطنية الفلاحية في سورية في فترة الكفاح المسلح (1918 – 1927) فهو بعيد عن العصبية العشائرية والطائفية مثقف على اطلاع واسع على أحوال البلاد السورية والمناورات السياسية وعن طريق تركيا أمسى على معرفة بالحركات الثورية في العالم وفي مقدمتها ثورة أكتوبر. كما أن ابراهيم هنانو لم ينس أمر الاتصال بالبورجوازية المحلية في مدينة حلب وطلب يد المساعدة من العناصر الوطنية الواعية داخل تلك البورجوازية...
ولكن.. ثمة أمر حد من نشاطات وامكانات ابراهيم هنانو وهو القاعدة الاجتماعية، التي اشتركت في الثورة والمؤلفة عموما من فلاحين غارقين آنذاك في غياهب الجهل والأمية وخاضعين لجملة عوامل كانت تتحكم في الريف السوري في عهد السيطرة الاقطاعية العثمانية، وتفرض على الفلاح نمطا من الحياة والتفكير والمفاهيم الغيبية، التي تعرقل انتشار الروح الثورية وتهيء أرضية صالحة للعناصر المتخاذلة والفوضوية أو الراغبة في التعاون مع المستعمر المحتل.
كما أن ضعف أو هامشية البورجوازية المحلية في المدينة (المقصود هنا حلب) لم يساعد على انتشار أفكار التنوير والنهضة وأبقى الأكثرية الساحقة من السكان على جهل مطبق بما كان يجري من ثورات تحررية في العالم، وبالتالي تقلص انتشار الأفكار الليبرالية في فترة النهوض الوطني المسلح في العشرينات.
ومعنى ذلك أن ابراهيم هنانو ومن التف حوله من نواة وطنية فلاحية واعية نسبيا لم تكن قادرة رغم نضالها المستميت، على تنظيم الثورة تنظيما دقيقا صارما يمنع أعداءها من استغلال نواقصها لضربها من الداخل.
وعلى الرغم من ذلك فإن هنانو كان يجوب المناطق الداخلة ضمن نفوذ ثورته للاشراف على تنظيم الحركات والتنقلات وتمهيد السبل أمام القوات الوطنية وتهيئة الوسائل لتأمين الغذاء والعتاد الحربي، وألف محكمة للثورة للنظر في حسم الخلافات والحوادث التي تقع في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، ومحاكمة الخونة والجواسيس. كما اهتم بأعمال اللجنة الوطنية التي كانت تجمع الضرائب من الأهلين.
والبادرة النادرة، التي قام بها هنانو، حسب ما ترويه الكتب، هي اقدامه على احراق أثاث بيته ومحتوياته المنقولة وغير المنقولة، والمطحنة الكائنة في احدى قريتيه (الست عاتكة والحامضة) وجمع أدوات الفلاحة كيلا تقع غنيمة بأيدي المحتلين ولكي يقدم نموذجا ثوريا للمجاهدين ويدفعهم إلى التضحية والفداء.
******
من أبطال ثورة الشمال .. ثورة ابراهيم هنانو
أ – هزاع أيوب:
أصله من قرية جبالا التابعة لمنطقة معرة النعمان، ولد عام / 1896 / وبعد مقتل والده على يد العثمانيين رحل مع أهله إلى عشيرة الموالي واشترك مع هذه العشيرة في مناهضة الفرنسيين. وبعد أن اعتقل بسبب تهريبه للسلاح سعى رئيس ديوان ولاية حلب أيام الحكم الفيصلي ابراهيم هنانو إلى اطلاق سراحه، ومنذ ذلك الحين توطدت علاقته مع ابراهيم هنانو واشترك في معارك الشمال، وأبدى بطولات مشهودة. وكان برفقة هنانو عندما قرر اجتياز البادية إلى شرقي الأردن. وكان رسول الثوار بين الأردن وسورية ومن التجأ إلى تركيا من مجاهدي ثورة الشمال. وكان يجتاز البادية الشامية في ذهابه وإيابه مما عرضه للمخاطر.
وفي عام / 1926/ قبض الفرنسيون على المجاهد هزاع أيوب في حارم. وسيق مكبلا بالحديد إلى سجن خان الكمرك في حلب، وكان يحمل هوية باسم مستعار، فتقدم بعض الشهود وعرفوا الفرنسيين بأنه هزاع أيوب نفسه، وبقي مصرا على انكاره، ولقي في السجن أشد أنواع الضرب والتعذيب، وكان يحمل بعض الرسائل الثورية الخطيرة منها رسالة بخط هنانو موجهة إلى رضا باشا الركابي، وفي الطريق أوقع نفسه في قناة ماء فأتلف ما يحمله من أوراق كانت كافية لاعدامه وأخيرا قرر الفرنسيون اعدامه، وأنيطت حراسته بالدركي العريف المرحوم يوسف الصدير من أهالي معرة النعمان، فأشفق عليه وهربا سوية وتمكنا من الوصول إلى عمان.
ب – الضابط البلغاري خريستو (36):
أثناء ثورة الشيخ صالح العلي أسر المجاهدون في معركة مصابين (شرقي قلعة الخوابي) اثنين من الجنود البلغار يعملون في الفرقة الأجنبية. وبعد تراجع ثورة الشيخ صالح العلي التحق الجنود البلغار بثورة ابراهيم هنانو.
وفي شباط / 1921 / أرسل ابراهيم هنانو المجاهد المعروف السيد هزاع أيوب بمهمة من منطقة الثورة إلى اللاذقية، يحمل رسالة من جندي بلغاري وقع أسيرا في يد ثوار هنانو رفيق بلغاري له الضابط خريستو في الفرقة الأجنبية الفرنسية، فذهب متنكرا يسوق حمارا يحمل بيضا وغير ذلك من الأشياء التي تلفت النظر إلى أنه بائع متعيش، وصل هزاع أيوب فوقف أمام الثكنة العسكرية، واتصل برفيق الجندي البلغاري وسلمه الرسالة، وقد قبض الضابط خريستو على هزاع أيوب وهدده بالقتل للاقرار بالحقيقة، وكان الضابط قد خشي مغبة الأمر، وان يكون من وراء ذلك دسيسة تودي بحياته، ولما أيقن الضابط البلغاري صدق هزاع أيوب اتفق واياه وكان الضابط الوكيل صادق المغربي يقوم بالترجمة بين خريستو وهزاع، فاتفقوا على اللحاق به ليلا في موقع على بعد ثماني كيلو مترات جنوبي الطريق العام من اللاذقية، وبعد العشاء حضر الضابط وصادق المغربي من المغاربة وتسعة عشر جنديا، وهم يسوقون بغالا محملة بصناديق العتاد الحربي والرشاشات، فألحوا بالمسير كيلا تلحق بهم القوات الفرنسية، فتفشل الخطة المرسومة، وأوصلهم هزاع إلى هنانو وكان آنئذ في قرية (قيماس) في الجبل الوسطاني فاستقبلهم هنانو واستبشر بمقدمهم خيرا.
وقد حضر هذا الضابط ورفاقه المعارك الحربية، ولما انتهت الثورة انسحبوا مع هنابو إلى البادية في تموز / 1921 / حيث شاركوا في معركة (مكسر الحصان) بالقرب من جبل البلعاس وأحاط بهم العربان وقد أغرتهم الجوائز المالية الفرنسية بمطاردتهم، فدافعوا عن أنفسهم دفاع المستميت، وقد قتل الضابط خريستو برصاص مسدس أحد مشايخ البدو المهاجمين وكان نصيب هؤلاء الجنود البلغار القتل ولم ينج منهم إلا اثنان استسلما إلى الفرنسيين.
5 – الانسحاب:
في تلك الأيام الحالكة من أوائل صيف / 1921 / وبعد أن تبين أن الثورة تجتاز أيامها الأخيرة دعا ابراهيم هنانو لمؤتمر عام حضره جميع قادة الثورة للبحث في أفضل السبل الواجب اتباعها بعد أن نفذت الذخيرة وشح المال وانعدم مصدر وصول الأسلحة والذخيرة وشدد الفرنسيون النكير على النواة الثورية. وعندما اقترح نجيب عويد الالتجاء للأراضي التركية المتاخمة أدرك هنانو بثاقب بصره أن التجاءه لتركيا سيجعل من الممكن وصم ثورته بالتعاون مع رجال هذه الدولة ولذا فقد رد على عويد بقوله (32):
"والله لو خيرت على أن أكون مسلما تركيا أو مسيحيا عربيا لاخترت الثانية، ولذا فإني أفضل اجتياز الصحراء الشاسعة إلى شرقي الأردن لأعيش في كنف حكومة عربية".
وبعد المداولة انشطر المؤتمرون إلى فئات ثلاث:
القسم الأول: - أقعده كبر السن وكثرة الأولاد ففضل البقاء في الوطن.
القسم الثاني: - انطلق إلى تركيا واستقر في القرى الجنوبية، وفي مقدمة هؤلاء نجيب عويد والشيخ يوسف السعدون ومصطفى الحاج حسين، ولوحظ أن عويد والسعدون لم يقوما بأي عمل من أعمال اخلال الأمن في سورية تستغله تركيا لمصلحتها أو يفسره الأهلون بأنه من أعمال الشقاوة والسطو وابتزاز المال من الأثرياء وعلى العكس فإن عددا آخر من اللاجئين كانت الحكومة التركية تستخدمهم كوسيلة للضغط كلما تعكر صفو العلاقات بين فرنسا وتركيا (33).
القسم الثالث: - الذي أخذ برأي هنانو بالذهاب لشرق الأردن وبلغ عدده ستين مجاهدا ضم عددا من الضباط الوطنيين والجنود البلغار، الذي التحقوا بثورة هنانو بعد أن هربوا من الجيش الفرنسي وقدموا حياتهم في سبيل القضية الوطنية لشعب آخر غير شعبهم.
********
الانسحاب الاسطوري لابراهيم هنانو
من شمال سورية إلى جنوبها عبر بادية الشام.
وفي فلسطين يُسلّمه الإنكليز إلى الفرنسيين
***
ومن أجل اعطاء فكرة عن الانسحاب البطولي لابراهيم هنانو، بعد هزيمة ثورته، في مناطق سهلية لا يوجد فيها موانع للاحتماء واللجوء وهي غير مأمونة الجانب بسبب مواقف العشائر البدوية وسيرها مع الحاكم المنتصر.
ننقل ما كتبه منير الصحفي الريّس الحموي من رجال الوطنية نقلا عما سمعه الريس مباشرة من ابراهيم هنانو في منزل جميل مردم في دمشق. ورأينا أن ننقل حرفيا ما كتبه الريّس لأن الرحلة الأسطورية لهنانو وما كتبه الريس على لسانه تقدم لنا صورا عن الحياة في أوائل العشرينات قبل أن تدخل السيارة وتزيح بالتدريج رحلات القوافل وتقضي على الخانات وتزيل كثيرا من معالم عهد الجمل والحصان لتضعنا أمام عوالم جديدة.
وفيما يلي ما كتبه الريس على لسان هنانو:
*****
( 1 )
في مجاهل بادية الشام
"...بلغنا
(الضمير يعود لهنانو والكاتب الصحفي المسلم الحموي منير الريّس)
قرية "عِنز" من قرى سلمية، ومكثنا فيها بانتظار الأصيل حتى نتابع السير نحو الجنوب، ودليلنا هزاع أيوب الذي تعددت رحلاته في هذه الطريق سيرا على الأقدام، {في الحلقة السابقة وردت سيرة هزاع أيوب}، واذا بسيارة تصل إلى القرية تحمل الشيخ سلطان الطيار من زعماء العشائر يحمل إليّ (أي إلى هنانو) رسالة من "الكابتن" فوزي القاوقجي الضابط في الجيش الفرنسي، يعلمني فيها انني وعصابتي مطوقون بالقوات الفرنسية، وبقوات قبائل البادية، وان لا نجاة لنا منها، ويعرض علي أن أدخل معه في مفاوضات على الاستسلام لقاء تعهده بضمان حياتي وحياة من معي من أفراد العصابة، ومعاملتهم معاملة الأسرى ريثما يصدر عنا عفو من المفوض السامي الفرنسي فغضبت لهذه القحة، وأجبت الشيخ سلطان رسول القاوقجي بالرفض، وأصدرت أمري لجماعتي بالرحيل، قبل أن يتم تجهيز الطعام الذي كانت القرية تعده لنا، وانطلقنا نضرب في البادية، نغذّ السير في مهامعها وقفارها، إلى ما بعد منتصف الليل. وكان لا بد من الراحة والاستجمام، فجنحنا إلى الراحة في القفر، وانتبذ دليلنا هزاع أيوب مكانا لوحده، واستغرق في النوم من التعب. فلما أفقنا في عتمة الفجر نستأنف سيرنا لم ننتبه لغيابه، وفي الصباح افتقدناه، فلم نجده، وتابعنا السير، وأشرفت الشمس على الشروق، واذا بأحد اخواني ينبهني إلى أن غبارا ساطعا من ورائنا يخفي قوة من الفرسان تلاحقنا، فالتفت إلى الغبار استكشف بالمنظار عدد المطاردين، وأصدرت أمري بأن تتجه العصابة إلى أرض وعرة كنت أراها غير بعيدة عنا، يتخذونها للدفاع، وبأن يهيأ الرشاش الثقيل الذي معنا فورا لوقف الغارة التي لا نعرف عدد فرسانها من كثرة الغبار. وما كاد أصحابي ينزلون الرشاش عن الدابة، حتى سطع غبار أخر من الغرب، وآخر من الشرق، وآخر من الجنوب. بل ثار الغبار من حولنا، وظهرت الفرسان من تحته تغير بكل قوة جيادها علينا، حتى أن المسؤول عن الرشاش لم يعد يستطيع، لاضطرابه، تثبيت سلاحه، واطلاق النار فترجلت وعملت معه على تثبيت الرشاش وتركيبه، واذا بفارس من اخواني يمسك بكتفي، ويشدني عن الرشاش منبها الا فائدة منه، فقد وصلت الخيل المغيرة علينا، وداهمتنا قبل أن نستطيع اطلاق النار، وقبل أن يصل أكثر اخواني إلى الوعرة التي وجهتهم إليها. وفعلا بدأت الخيل تمر بنا تباعا، والرصاص يملأ الفضاء، حتى أن فارسا من البدو، مر بي كالسهم، وقبض على ذراعي ليلقيني عن جوادي، ولكن قوة اندفاع فرسه أبعدته عني، وأنقذتني من السقوط. والتفت حولي، فرأيت في السهل أمامي جهة وعرة، لا تتدفق الخيل منها، وخطر لي أن أمرق منها، ولكزت جوادي، ودفعته إليها، وبيدي مسدسي من نوع "برابيللو" أطلق منه إلى الوراء لا بعد الفرسان عن اللحاق بي. وكان جوادي من كريم الخيول العربية، فما كاد يجتاز بي الوعرة، ويخرجني من نطاق الحشر، حتى رأيت فارسا من رفاقي، ضرب قبلي في نفس الاتجاه، فلويت عنان جوادي نحوه لنكون اثنين خيرا من أن يضيع كل منا في جهة من مجاهل البادية. ولما دنوت منه عرفت أنه صبحي اللاذقاني المعروف بصبحي حليمة، فحاذيته، وكوكبة من الفرسان البدو تلاحقنا بجيادها العربية الأصيلة، واستمر السباق والطراد طويلا بيننا وبينهم، ورصاصهم ينهمر علينا، والله يحفظنا، ويقينا شره، فيطيش، وكلما تتالت الساعات في هذا السباق، قصر عدد من المطاردين، وقل عديدهم، حتى أصبحوا عشرات، بعد أن كانوا مئات، وتوسطت الشمس قبة السماء، وأصبحت الجياد من شدة الحر والانهاك، تكاد ترتمي. والشهر تموز، عندئذ قلت لصاحبي أن فرسينا هلكتا من الطراد، فلنعرج إلى هذا التل الذي تراه، ونتخذه موقعا للدفاع، حتى يستجم فرسانا، وعرجنا نحو التل، وترجلنا وراءه، وصعدنا إلى قمته، وافترشنا الأرض استعدادا للقتال، وإذا بالمطاردين، يتوقفون، ويتشاورون، ويدركون أننا مستميتان، واننا سنصرع كل من يدنو منا، ثم يلوون أعنة جيادهم، ويعودون من حيث أتوا، حتى غابوا عن أنظارنا. على أن فرحتنا بالخلاص من المطاردة لم تكتمل، فقد رأينا فرس صبحي اللاذقاني ترتعش، وتسقط، وتنفق من التعب والعطش، ورأيت صاحبي ينهار أمام هذا المشهد، يجيل ناظريه في الصحراء الجرداء القاحلة المترامية الأطراف، الملتهبة بلهيب الحر، تمتد كالبحر، فلا يدري كيف سينجو منها، فواسيته بكلمة، وشجعته، وقلت له أن راحلتي لي وله، نتناوب ركوبها، وقد يهيء الله لنا من أمرنا فرجا، ثم اقترحت عليه أن نحدد قبل غياب الشمس اتجاهنا، ونسير توا نحو الغرب لندرك المنطقة العامرة من سورية، قبل أن نموت جوعا وعطشا في البادية القفراء النفراء، حتى ولو وقعنا بيد الفرنسيين، وكان الموت نصيبنا، فالموت مدركنا في الحالين، إلا أن هناك أملا بأن نختفي وننجو من الفرنسيين. أما الموت في البادية عطشا فلا نجاة منه. رأيت صاحبي يعود إليه الأمل، فهب يفك لجام ورسن فرسه النافق لعلهما ينفعان في متح الماء من بئر قد نصادفه في طريقنا، ثم يبحث في خرجها وخرج جوادي لعله يجد فيهما ما يبل حلقينا الجافين. فعثر فيهما على تفاحة ذابلة، وقطرات من الماء في وعاء الماء (المطرة) بللنا بها الحلق، وجلسنا ننتظر الأصيل لنسير نحو الغرب، آملين أن ينعشنا برد الليل.
وفعلا نشط جوادنا في الليل، وتناوبنا ركوبه، وقد هده الجهد والجوع والعطش حتى بلغنا مكانا متعرجا من الأرض، تكثر فيه التلول، صادفتنا فيه أشجار متفرقة من البطم التي تكثر في أحراج سورية، لم يستطع الجواد على جوعه وعطشه أن يقتات بها، فأدركنا أننا في جبل البلعاس شرقي سلمية وحمص. وهذا الحرج كان كثير الشجر إلا أن أيدي البدو، وأيدي متعهدي الحطب في الحرب العالمية قضت على أكثر ما فيه، فقررنا بعد منتصف الليل أن نركن للراحة، ولو ساعة واحدة أو ساعتين نستجم خلالها، ويستجم الجواد، وانتحينا جانبا من التلاع، ونجمت من جراء الاستجمام مشكلة، شغلت بالي، فرفيق دربي من عامة الشعب الذي التحقوا بالثورة، وهو في مثل وضعنا، أخشى أن يبلغ به اليأس حدا تسول له نفسه اغتيالي والاستئثار بجوادي ينجو به من خطر الصحراء، ويذهب إلى الفرنسيين مبشرا بأنه قتل ابراهيم هنانو قائد ثورة الشمال الذي تدفع فرانسا الوف الليرات الذهب ثمنا لرأسه، وقد منت شيوخ العشائر بعشرات ألوف الليرات الذهبية أن جاءوا بهنانو حيا أو ميتا. لذلك كان لا بد من الحذر، دون أن يشعر رفيق الدرب، واقترحت عليه أن لا ننام معا، وأن نتناوب السهر، وطلبت منه أن يسلمني بندقيته، وينام بدوره، ثم أوقظه لأنام بدوري، وسلمني عن طيب خاطر بندقيته، ونام مطمئنا، وأنا سلمت جفني للنوم، بعد أن اطمأنيت إلى أن لا سلاح بيده يغتالني به، نمت بعد أن وضعت البندقيتين تحت فخذي، وبعد ساعتين، نبهت رفيقي، واستأنفنا المسير حتى الضحى، فبانت لا عيننا دروب صغيرة تتلاقى لتؤلف دربا أوضح نحو هدف، سلكناه حتى وصلنا إلى كهف وبجانبه بئر ماء، فكانت فرحتنا لا توصف ساعة تأكدنا من وجود الماء في البئر. وسارعنا إلى المطرة نربطها برسن الفرس النافق ولجامها ورسن جوادي حتى بلغت الماء، ونضحنا بها غرفة قدمناها للجواد الذي حمحم وهو يرشفها رشفة واحدة، وأعدنا الكرة مئات المرات حتى ارتوى الجواد وارتوينا، ودبت بنا الحياة مع الامل من جديد، وأوينا الكهف نستظل فيه الشمس المحرقة غير وجلين من الجوع، فالمرء، بعد وجود الماء، يتحمل أياما الجوع.
فوجئنا بعد الظهر، ببدوي دخل علينا الكهف فجأة، ولما رآنا انطلق يعدو، ويصيح يدعو عددا من الرعاة كانت مواشيهم في طريقها إلى البئر، ويستعجلهم. ورأيناهم مسلحين، أخذوا يتراكضون نحونا، وصياحهم يدل على ما ينوون، فقلت لصاحبي أن الجواد الخائر القوى من الجوع لا يستطيع حمل اثنين، وأنت ليس معك مال تخشى عليه، وليس لهؤلاء مطمع إلا ببندقيتك، ونحن لا نريد أن نخوض مع هؤلاء معركة، لأننا قد نلجأ إلى منازل عشيرتهم، فنقتل إذا قتلنا أحدهم، ولا نريد أن نستسلم ليسلبونا الجواد وأسلحتنا، لذلك سلمني بندقيتك لا نطلق بالجواد والسلاح بعيدا عن المكان، وابق أنت في مكانك، فإنهم لا يؤذونك إذا لم يجدوا معك مالا وسلاحا، بل ربما يطعمونك من زادهم، وامتطيت صهوة الجواد، وانطلقت في الجهة المعاكسة لغارة الرعاة، ألف وأدور، واتجه نحو الغرب، تحت وابل الرصاص، حتى غبت عن أنظارهم، وأخذت بعدها أمشي الهوينا، وقبيل الغروب لاحت لي خيام تتجه إليها قطعان الماشية، فاضطررت لأن أعرج نحوها، لأنني وجوادي كنا بأشد الحاجة إلى ما يقيم أودنا.
وفي غبشة الغروب دخلت الحي باحثا عن أكبر بيت فيه، أعرف أنه بيت رئيس الحي، فلما وجدته ترجلت عن جوادي أمامه، وكنت أرتدي "القلبق" التركي أو الشركسي على رأسي، وهو يصنع من فرو الخراف، أجنة، قبل أن تولد، وفي عنقي منظار يتدلى، وفي حزامي مسدس حربي، وكان زيي عسكريا أو شبه عسكري وعدة حصاني تزدان بالفضة، سرجها وطوقها، فهبّ صاحب البيت يرحب بالضيف كعادة الأعراب، وتسلم من يدي عنان الجواد، وأكرم وفادتي، ولما تفرق رجال الحي من منزله، بعد أن ارتووا من شرب القهوة، سألني: "هل يمكن أن أتعرف إلى ضيفي؟"، قلت: "انني مفتش عد الأغنام في قضاء سلمية ضللت الطريق، اهتديت إلى هذا الحي!" قال وهو يبتسم: "انني أعرف كل جباة سلمية، وموظفي ماليتها، بل كل موظفيها، فلست أنت منهم والله! فلا تكتم عني أمرك فأنا أهل للكتمان، وأنت ضيفي، ومن واجبي أن أساعد!.." قلت، وقد تبدى لي في وجه مضيفي، وهو شيخ عشيرة بني خالد، عدم الاقتناع فيما قلت، فعلت الفّق قصة أخرى أكثر انطباقا على مظهري، فقلت: "أتريد الصدق؟ انني ضابط شركسي من عمان، فار من الجيش التركي، وأخشى أن يقبض علي الفرنسيون، ويسلموني إلى الحكومة التركية، بموجب ما بينهما من اتفاق، فاحاكم بالموت، واقتل جزاء فراري... وكل ما أود منك أن تساعدني على الوصول إلى شرقي الأردن فأهلي هناك من أغنياء الشركس، سيجزون من يوصلني إليهم جميل الجزاء، بل سيغنونه بالمال..."، فظهر الاقتناع على وجه محدثي، ثم الاهتمام، وطمأنني بأنني أصبحت في حرز أمين، وأنه سيساعدني على الوصول إلى أهلي، وسيجد لي الدليل الذي يرشدني الطريق، ولكن يجب الآن أن أنتقل من هذا البيت الكبير الذي يطرقه كل قاصد للحي، وكثيرا ما يكونون من رجال الدولة، وضباط قوة البادية وجنودها الذين تطوف دورياتهم كل مكان، وهؤلاء خطر علي وعليك ان عرف أحدهم بأمري. وفورا نقلني إلى بيت صغير في "الحي" "خربوش"، وطلب مني أن أخلع ثيابي، وأرتدي ثوبا عربيا، ثم جاءني بثوب عتيق رماه لي، وكنت رأيته يقلب بين يديه منظاري، وسوطي من الفضة قبضته، فأهديتها إليه، وقلت له خذ المسدس أيضا ان شئت، فشكرني واعتذر عن المسدس بأنه سلاح حربي ضخم يجلب النقمة، وربما تساءل من رآه من أين وصل إلى يدي. أما المنظار والسوط فيمكن شراؤهما، وليس اقتناؤهما ممنوعا. وكان مضيفي الشيخ يمنيني بأنه أرسل من يبحث لي بين العشائر القريبة عن دليل يعرف الطريق جيدا إلى شرقي الأردن، لأن المسافة شاسعة، ومجاهل الصحراء لا يعرفها الخريت بين الأدلة. ثم عاد لي وزوجه يوما ليقول لي أنه لم يجد الدليل الماهر الذي يرضى بأن يرافقني إلى شرقي الأردن، دون أن يقبض الأجر سلفا، اذ لا يصدق الأعراب أن أهلك سيجزونهم، بعد وصولك إليهم. وكنت أحتزم ملابسي الداخلية حزاما للنقود، فيه أكثر من مئة وعشرين ليرة ذهبية، سرعان ما مددت يدي إليه أحل أربطته، وأنا أسائل الشيخ عن المبلغ الذي يريده الدليل أجرا إلى عمان، وألقيت إليه بعشر ليرات ذهبا مما كان معي، ثم التفت لأرى عيني الرجل وعيني زوجته تلمع نهما وشرها على ما في "الكمر" من ذهب وهاج، فأدركت أنني أخطأت، وعرضت حياتي للخطر، يوم كشفت لهما عما معي من دنانير دهبية، وسارعت أتلافى الخطأ فألقيت بالحزام كله، بما فيه من ذهب إلى الرجل، وقلت له: "كل هذا المال لك، ادفع منه أجر الدليل، وخذ ما تبقى لك حلالا هبة مني إليك جزاء مساعدتك اياي!.. ولا أريد منك لقاء ذلك إلا أن توصلني إلى أهلي في عمان!.."، وتلقى الشيخ البدرة بيديه حامدا لي أريحيتي، وهب وزوجه يخرجان، وهما يقطعان على نفسيهما العهد بأن يجدا لي الدليل، بل أكثر من دليل، ليبلغني أهلي عزيزا كريما، وبذلك ضمنت أن لا يغتالني الشيخ البدوي طمعا في مالي، اذ لم يبق على جسمي غير الثوب الذي تفضل به من قبل علي. وانقضى أكثر من يومين، وأنا سجين الخربوش مختفيا عن عيون الناس، وإذا بالشيخ وزوجه يدخلان علي، في صباح أحد الأيام، يقول لي الرجل أنه عجز عن أن يجد لي دليلا من حوله من العشائر، وأنه يرى لسلامتي وسلامته أن أغادر الحي فورا، وأذهب أنى شئت، فقلت له: "ويحك.. بعد أن أخذت مالي كله، ضننت علي باعرابي يرافقني، ويهديني سواء السبيل إلى بلدي، ويوصلني إلى أهلي؟ هلا أعطيتني شيئا من المال أستعين به في طريقي الطويل الى عمان؟!" قالت زوجه: "بالله يا أبا فلان! هلا أعطيت ضيفك بعض الدنانير ينفقها في رحلته الشاقة!"، فمد الرجل أصابعه إلى داخل الحزام الذي أتى به، وألقى إلي بثلاثة أو أربعة دنانير قائلا: "هاك.. بعض المال.. وثم ارحل عن هذا الحي!" قلت أن ما تعطيني لا يكفيني ثمن طعام وعلف لدابتي. فهلا زدت لعلني أجد في طريقي من أستأجره دليلا ببعض المال؟"، وشفعت لي مرة ثانية الزوجة، فألقى إلي ببعض الدنانير، وتوالت توسلاتي وشفاعة زوجه، حتى أصبح في يدي بضعة عشر دينارا استرددتهما من مالي.. وكان سمح لي بالجواد وسرجه وعدته كلها، كي لا تدل يوما على وجودي عنده كشخص ملاحق.. فقلت له: لا أريد السرج والعدة.. خذهما وأعطني سرجا عربيا عاديا رخيصا يتناسب مع هذا الثوب الخلق الذي ألبسه على جسمي! قال: "لا أريد جوادك ولا عدته، لأنهما يجلبان إلي الشبهة، ويثيران الريبة في بيتي، فالاعراب لا تقتني مثل هذا السرج الفرنجي!" قلت "أعطني اذن ما استر به هذه العدة والسرج عن العيون!" وعاد إلي بقطعة قماش عتيقة، كانت في الزمن الغابر خيمة يستخدمها الجنود الألمان، وألقاها بين يدي، فقمت استر بها السرج، وأطوي العدة في الخرج، وأربطها بخرقة بقطعة من حبل حتى تثبت فوق السرج، ثم رجوت الشيخ أن يعطيني ما استر به رأسي من حر الشمس غير "القلبق" الذي يدل علي أنني ضابط تركي، ويثير الشبهة، لأنه لا يتناسب مع الثوب العتيق، فاعتذر، ثم جاءني بخرقة ثانية هي نصف كفية عتيقة مثلثة الأضلاع، وبوصلة من الحبال ربطتها فوقها حول رأسي، ولم أجد عنده حذاء، فركبت جوادي حافي القدمين، وعدتي المسدس الذي لم يشأ أن يأخذه مني، لأنه مسدس حربي كما قال من قبل.. ولكزت الجواد في اتجاه الغرب، وأنا ألعن الساعة التي وقعت فيها بين يدي هذا البدوي الشيخ عديم الذمة.. الطماع.. حتى اذا ارتفعت شمس الضحى، بلغت القرى المعمورة، فأخذت أتجنبها، وأسلك طرقا تبعدني عنها متجها إلى الغرب، حتى صادفتني ساقية ماء سقيت منها جوادي، وشربت، ثم مرغت ساقي وقدمي وذراعي ووجهي بوحلها، ومسحته بعد أن جف حتى لا تعرف ملامحي، وحتى تتناسب قذارتي مع الخلقان الذي ألبسه " .
2
في حمص وسائس الخيل الشهم
وفي وقت الظهيرة دخلت مدينة حمص من جهة الشرق، وتغلغلت في حي الخالدية، نسبة للمسجد المسمى مسجد خالد بن الوليد فيه، وهو حي أكثر أهله فقراء، خطر لي أن أطرق بابا من أبوابه، لأودع فيه حصاني لقاء أجر، ثم أتسلل إلى المسجد أقضي فيه نهاري مصليا نائما في زاوية من زواويا أو حرمه، حتى اذا لفني الليل، تسللت منه إلى دار صديقي عمر الأتاسي، وزميلي في المؤتمر السوري الذي أعلن استقلال سورية في الثامن من شهر آذار عام 1920، كي يهيء لي سرا سبيل الوصول إلى شرق الأردن وتميزت الأبواب التي كنت أمر بها، حتى وقع نظري على باب ذي خصاص يدل على فقر ساكني الدار، طرقته في حمارة القيظ، واذا بشاب يفتح الباب، سألته ان كان في استطاعتي ربط جوادي في داره لقاء أجر، ريثما أذهب إلى المدينة أقضي فيها حاجتي وأعود، فقال الشاب: "أهلا وسهلا بالعم.. ان في استطاعتك أيضا أن تجد لدينا أنت وجوادك مكانا للراحة والمبيت، فهلا دخلت أولا، واسترحت من عناء السفر، فالوقت الآن وقت قيلولة ونحن في هاجرة النهار.. تفضل يا عم وأدخل، فأنت في دارك وبين أهلك!".. شجعني كلام الشاب، فترجلت، وقاد الشاب الحصان إلى مربط في صحن الدار، وأدخلني غرفة، على فقر ما فيها، نظيفة ظليلة، وفرش لي حصيرا، ووسائد لاجلس عليها وأنام، ولكنه انتبه إلى قذارتي، فقال: "ما رأيك يا عم بحمام بارد في عتبة هذه الغرفة تنظف به جسمك، وسآتيك بثياب تلقي بها عنك هذه الأثواب الوسخة؟"، ولم يترك لي الشاب مجالا للاعتراض بل ذهب، ونقل إلى العتبة صفائح الماء البارد، بعد أن انتشلها من بئر الدار امرأة، عرفت بعدئذ أنها امرأة أخيه صاحب الدار، فاغتسلت، ولبست ثيابا يعبق منها أريج النظافة، وجلست في المكان الذي أعد لي، ورجوت الشاب أن يذهب بدينار مما كان معي، يهيئ لي ببعضه غداء من السوق، وعليقا لجوادي، فلبى الطلب، ونمت هادئا، وفي الأصيل فتح باب الدار، ودخل رجل بلباس وطني مؤلف من القنباز والكفية والعقال، أدركت أنه صاحب البيت. ويظهر أن زوجته لوحت له من المطبخ حيث نقل الجواد بناء على طلبي، بحجة أبعاده عن الشمس، والواقع أردت ابعاده عن العيون، عند فتح باب الدار وإغلاقه، فخف الرجل إلى المطبخ، وتميز الجواد ودار بين الزوحين همس احتمل دقائق، ثم أقبل الرجل علي في الغرفة، وحياني وجلس.. وكان لا بد من السؤال التقليدي: من أي ديرة الضيف؟"، قلت: "من جهات المعرة أيها الأخ! سرقت لي أغنام، فركبت في أثرها إلى البادية لعلني أهتدي إليها، وأستردها.. ولكن خاب أملي، وسلبني قطاع الطرق ملابسي، حتى رماني القدر في داركم!.." قال "ولكن جوادك أيها الصديق هو جواد الزعيم ابراهيم هنانو، عليه تنطبق كل الأوصاف التي رواها البدو والجنود الذين طاردوه شخصيا في البادية فهلا صدقتني القول وطمأنتني عن سلامة الزعيم؟" وبانت اللهفة والصدق في عينيه، فكان لا بد لي من طرح أكذوبتي الأولى قلت: ومن أين عرفت أن الجواد حصان هنانو؟"، قال: "أنا جنباز خيل. قضيت عمري في هذه المهنة، والناس كلهم يلهجون اليوم بقصة الزعيم هنانو، وجواده الكريم الذي أنقذه من كل خيول البادية التي طاردته طمعا بالجائزة التي منت بها فرنسة شيوخ العشائر، والألسن تلهج بالدعاء لله أن يحفظ الزعيم فلا يهلك جوعا وعطشا في الصحراء القاحلة ولا يقع بيد الفرنسيين أعدائه وأعداء البلاد، فهلا أخبرتني صدقا ان كان هذا حصانه وهلا طمأنتي عنه!"، قلت: "طب نفسا، وقر عينا فهذا حقا حصان هنانو، وأنا رفيقة الذي نجوت معه في الطراد، وهو في مكان أمين، وحرز حريز، لا خوف عليه ان شاء الله، وقد أوفدني إلى حمص بمهمة أنا في سبيل انجازها له، فهل أنت مستعد لمساعدتي؟" قال: ان روحي فداء الزعيم هنانو، وبيتي وزوجي وأخي وكل أسرتي.. هلا حدثتني عن مهمتك فأنا رهن اشارتك!...، فاغرورقت في عيني الدموع من صدق لهجة الرجل واخلاصه، وأدركت أن في وطني شعبا، هذا الرجل نموذج حي له، شفت أقواله نفسي مما لقيت لدى شيخ بني خالد، هو أبعد ما يكون عن شيم العرب.. ولم أجد بدا بعد الاكرام الذي أخذ يتعاظم، والحرص على سلامتي، والصدق الذي لمسته من أن أطلع مضيفي على الحقيقة، وأن أعترف له بأنني ابراهيم هنانو، فانكب على يقبل قدمي من شدة الفرح، وأنا ارفعه عنهما، وطلبت منه أن يسهل اتصالي بعمر الأتاسي، فغضب لذكر هذا الاسم على لساني، وقال: "مالنا وهؤلاء الأفندية الذوات الذين ليس في أخلاقهم ضمان ولا ثقة، ونحن نرى نعال أكثرهم تخفق على أبواب المستعمرين، سعيا وراء مصالحهم.. انهم عبيد مصالحهم، لا نطمئن نحن الفقراء من عامة الشعب إليهم.. وأنا الفقير جنباز الخيل مستعد لأن أبذل روحي في سبيل وصولك إلى المكان الأمين الذي يكفل سلامتك، ولست أريد أن يعلم أحد غيري بوجودك هنا.. وسأقوم من هذه الساعة باعداد العدة لسفرك الى شرقي الأردن من الطريق الامينة، وسيكون سفرنا من هنا إلى دمشق، ومن الطريق العامة، ولكن بعد أن أغير ملامح الحصان، وأجد لك الزي المناسب الذي لا يلفت النظر، ولا يثير الشكوك، فإذا بلغنا دمشق، ضمنت منها سفرك إلى جبل الدروز، فهل أنت ضامن في الجبل من يساعدك على الوصول إلى شرقي الأردن؟" قلت: "نعم! لي فيه من أثق بوطنيته واخلاصه وقدرته على العمل"، قال: "حسنا سأعد العدة، وليس أمامي غير تغيير أوصاف جوادك الذي أصبح أشهر من داحس والغبراء، والابجر والخضراء في قصص العرب، ولكنني أنا الجنباز سأغير معالمه وأبدل أوصافه، وأجعل منه جوادا آخر، لا يمكن لأعظم خبير في الخيل أن يعرفه!".
وفعلا جاء في اليوم الثاني بأصباغ، وبمقص للشعر، وبدأ بتغيير أوصاف الجواد، فقص شعر ذيله، وبعض شعر لبدته، وصبغ الغرة بين ناصيته، والبياض في أرجله، وقص وصبغ حتى اذا رأيته حسبت أنه فرس آخر، ثم ذهب إلى السوق ببعض نقودي وأتاني بلباس كامل لزي أغوات عكار.
( 3 )
من حمص إلى دمشق برفقة سائس الخيل
وأخبرني أنه استأجر رهوانة لعشرة أيام، واننا سننطلق معا في الأصيل إلى دمشق، ومن طريقها العام نسير في الليل، ونستجم في النهار تحت ستار الحر في شهر تموز، حتى نبلغ غايتنا. وانطلقنا على هذا النحو، وفي أول مرحلة بلغنا "حسياء" حيث قضينا فيها النهار، وبلغنا النبك في المرحلة الثانية، ثم القطيفة. وكان رفيقي خير مؤنس لي، ليس فيه علة إلا أنه كان يشرب الخمر في الطريق متذرعا بأنه يقوي أعصابه في مهمته الخطيرة!. وكان معه بطحة يملؤها بالعرق، كلما فرغت، من القرى التي نلبث فيها أو نمر بها. ولما بلغنا ثنية العقاب في طريقنا من القطيفة إلى جوبر بجوار دمشق، صادفنا دورية من دركيين ترود المكان الذي تكثر فيه حوادث الشقاوة والسطو والسلب، وخاصة في الليل، فطلبا منا التوقف، وفي ضوء عود ثقاب تعرفا إلى وجوهنا، فطلب أحدهما أن نسمح له بتحري ثيابنا وجيوبنا ومتاعنا من أجل رسائل لا تحمل طابع البريد.. فحملها، على حد زعمهما، ممنوع حسب الأوامر الصادرة إلى المخفر، ويتعرض حاملها إلى غرامة نقدية!.. فقلت لهما: "مهلا.. فليس معنا رسائل، وما نحن إلا عابرا سبيل نقصد دمشق لاشغال لنا فيها"، قال أحدهما: "لا بد من التفتيش، فلدينا أوامر مشددة حول ذلك!"، ثم دنا من رفيقي الجنباز، وأخذ يبحث في جيوبه. حتى اذا عثر على علبة التبغ صادرها باسم تبغها المهرب، وعلى مسدس قديم من نوع "طبنجة" لا تساوي قيمته ريالين في ذلك الوقت تسلح صاحبي به من حمص، فصادره الدركيان باسم سلاح ممنوع حمله، ثم عثرا على زجاجة العرق (البطحة)، وفيها ثلثاها، فصادراها أيضا، وهمهما شرب ما فيها على الطريق!.. وكنت في تلك اللحظة أفكر بنفسي وبالمسدس الحربي "برابيللو" الذي أحمله، وأخشى ما أخشاه أن يقودني حمله إلى المخفر، فتكتشف هويتي، وأسلم للفرنسيين، لذلك قررت أن أقتل الدركيين في حال اصرارهما على تفتيشي، وأفر بالجبال، مهما كانت العواقب، ولكن الله أبي أن يبلغ بي هذا المدى، فقد التفت إلى أحد الدركيين، وأنا أدافع عن صاحبي وتتنه، ومسدسه، وخمره، وأعارض مصادرتها، وقال: "أننا يا آغا لن نفتشك احتراما لك، ولكن لا بد من مصادرة هذه الأشياء الممنوعة من رفيقك!"، ثم لكزا جواديهما نحو القطيفة، ورفيقي الجنباز يكاد يجن جنونه، فقد صودر سلاحه، وأصبح بدون خمر ولا تبغ في طريق يستغرق قطعها بضع ساعات أخرى!.. ولما رأيت حزنه وحنقه، مددت يدي إليه بريالين، وقلت: "الحق بالدركيين" على الرغم أنني ما صدقت أن أخلص من بلائهما.. وأدفع لهما المبلغ رشوة، فإنهما سيعيدان إليك حاجتك". ولحق بهما، وكان له ما أراد، وعاد مسرورا يشرب، ويدخن ويغني، ويعتز بحمل "الطبنجة"، وبلغنا قبل الصباح قرية جوبر، فمكثنا إلى الأصيل، وكان أضيل يوم الأحد، وحي القصاع خاص بالناس، تجاوزناه، دون أن نلفت النظر، إلى حي الخراب، وحللنا في خان ترتاده قوافل جبل الدروز، وقضينا في الخان ليلة.
( 4 )
في ضيافة بني معروف
وفي أصيل اليوم الثاني، ودعت رفيقي الجنباز الذي لا ُأنسى فضله عليّ، ورافقت قافلة إلى جبل الدروز، وقصدت القرية التي يسكنها أبو نايف على عبيد، وهو شخصية وطنية في الجبل، رغم عدم معرفتي به من قبل، قصدته واثقا من اخلاصه، فلما بلغت داره استقبلني ولده نايف، ورحب بي ترحيبا حارا كضيف، وأنزلني في غرفة الضيافة، ثم ذهب يدعو أباه من مضافة أحد أصدقائه، ولما جاء الأب رحب أكثر، ثم فاجأني، دون سابق معرفة بيننا قائلا: "ألست في حضرة القائد المجاهد ابراهيم هنانو؟"، قلت: "نعم يا أبا نايف، ولكن كيف عرفتني؟"، قال: "كان هزاع أيوب ضيفي هنا منذ بضعة أيام، وقد ضاع منكم صبيحة هوجمتم في البادية، إذ رحلتم، وخلفتموه مستغرقا في النوم، ولم يستطع اللحاق بكم، بسبب تعرضكم للهجوم، وجد وحده يقطع البادية، حتى جاءني هنا، وحدثني عنكم، وسألته عن أوصافكم، فلما وقعت عيناي عليكم الآن عرفت أن ضيفي ابراهيم هنانو."، وقام أبو نايف علي عبيد بالواجب، وهيأ لي السفر والرفاق إلى عمان في شرقي الأردن،
( 5 )
في عمان واللقاء بالأمير عبد الله
واجتمعت هناك بإخواني أحرار الشام اللاجئين، وعرفت منهم أن الأمير عبد الله بن الحسين خيب ظنهم فيه، وبوالده، وأسرته، إذ جعل ارضاء الانكليز ديدنه وسياسته التي لا يحيد عنها، في سبيل ارضائهم، لذلك ضاعت كل الآمال إلي بنيناها على هذه الأسرة حول مساعدة سورية في محنتها. قلت لا بد لي من مقابلة عبد الله بنفسي، والتحدث إليه في الموضوع، وتوجهت إلى الصيوان الذي نصبه في مرتفع من جبل عمان لديوانه، في انتظار بناء القصر الأميري، وقابلته على انفراد، واستنجزته الوعود التي قطعها والده وهو وأخوته للعرب، وقلت أن الفرصة اليوم سانحة لتنظيم ثورة في جنوب سورية تطرق أبواب العاصمة دمشق، وعوطتها، تعتمد على مساعدة شرقي الأردن، وأنا لا اريد منكم رجالا، بل كل ما أريده سلاحا وقليلا من المال، ثم تعتمد الثورة على نفسها، بعد أن تقوى وتشتد وتتسع!"، قال: "ان الشعب السوري خيب آمالنا، وتبين أنه شعب عديم الوطنية والاخلاص، تخلى عن أخي فيصل، وقوضه عرشه، وخان بيعته، حتى أصبح أخي ملكا شريدا بلا عرش!.."، وجرى بيني وبين الأمير الهاشمي جدل حاد أثبت له فيه وطنية الشعب العربي في سورية، وتضحياته، وبذل كل مرتخص وغال في سبيل حريته، وحملت أخاه فيصلا، وبعض من تعاون معهم مسؤولية ضياع العرش، وضياع استقلال سورية، وأنحيت باللائمة على سياسته كملك، وتردده، ومسايرته الانكليز والفرنسيين المستعمرين، وأكدت له أن الشعب مستعد الآن لأن يبذل المهج وكل نفيس في سبيل استرداد استقلاله، واعادة العرش الهاشمي وحمايته، وليس يطلب من الدين يندبون ضياع عرشهم، بسبب سياستهم، إلا أن يقدموا له القليل من المساعدة. وبعد هذا الحديث والجدل أيقنت الا رجاء للعرب في هذا الأمير العميل، وخرجت من لدنه مغضبا، ورحت إلى اخواني استحثهم أن يتدبروا لي جواز سفر من الأردن أستطيع به أن أغادر البلاد العربية إلى الغرب للتداوي، ففعلوا،
( 6 )
الإنكليز يسلمون هنانو إلى الفرنسيين
وغادرتُ عمان إلى فلسطين بطريقي إلى الغرب، ولكن الانكليز كانوا لي في عمان بالمرصاد، فقبضوا علي في فلسطين، وأسلموني إلى أعدائي الفرنسيين الذين نقلوني إلى السجن العسكري في حلب، وألفوا محكمة لمحاكمتي، كما هو معروف من الناس، محاولين أن يحملوني مسؤولية أعمال فردية، وقعت في ثورة الشمال، أسموها أعمال شقاوة وقتل وسلب ونهب، فدافعت عن نفسي، وأثبت أن مثل هذه الحوادث تقع في الجيوش النظامية أحيانا عندما تحتل بلدا أجنبيا، ولم تقع بأمري، بل من قبل أفراد حوسب بعضهم، ان لم يكن كلهم، على ما ارتكبوا من أعمال خارجة عن أهداف الثورة، ولما أعياهم إثبات مسؤوليتي، اضطروا إلى براءتي، من تلك التهم، واعتبروا ثورتي وطنية، وأخلوا سبيلي، بعد أن بقيت في سجنهم أكثر من ستة شهور." (انتهى نص منير الريس المنقول عن لسان هنانو. والعناوين مع ارقامها من وضع المؤلف).
*******
 
 نص المحاضرة، التي ألقاها عبد الله حنا في
" مهرجان الزعيم إبراهيم هنانو"
في إدلب في 23 – 11 – 2009.
وهي تلقي الأضواء الساطعة على ثورة هنانو، إضافة إلى ماجاء في الملاحق السابقة
***
واجهت ثورات الشمال، بعد انهيار الدولة العثمانية والاجتياح الامبريالي للاستعمارين الفرنسي والبريطاني لبلاد الشام والعراق، مشكلة شائكة أربكت جمهورها والقائمين عليها. فالنضال ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي أمر مشروع ومفهوم شاركت فيه بنسب متفاوتة أعداد من المجاهدين، الذين رفعوا راية النضال. ولكن المشكلة الأساسية كَمُنت في تحديد مستقبل البلاد وطبيعة النظام بعد طرد الاستعمار؟.. فما العمل بعد التحرر من الاستعمار؟.. هل يعني ذلك عودة الحكم العثماني وتفرعاته وعودة الفوضى وتسلط قوى الإقطاع والدولة المريضة؟..
{ذكر مؤلفا كتاب "المجاهد مصطفى حاج حسين وثورة جبل الزاوية" إن المستعمر الفرنسي أتى في أعقاب "أربعمائة عام عثماني إقطاعي" خيّم على جبل الزاوية. ص 23.
أم أن القوى الكمالية الأتاتوركية الناهضة في الأناضول ستسد الفراغ؟.. وما الموقف من الدولة الوطنية العربية (الفيصلية) الناشئة في دمشق، بمنطلقاتها القومية العربية والعلمانية، هل كان لها رصيد في أوساط الثوار؟.. أم أنّ إيديولوجية الجامعة العثمانية كانت هي السائدة في عقول معظم الثائرين؟.. وكانت الطامة الكبرى ان هذه الإيديولوجية "العثملّية" المنهزمة في الحرب كانت القوى الكمالية الأتاتوركية قد حفرت قبرها في قلب الأناضول. ولهذا لم يكن مستغربا الفراغ الحاصل في هذه المرحلة الانتقالية في عقول أكثرية الثوار. فعلى الرغم من أهمية الإسلام ودوره في شحذ همم المجاهدين، إلا أن الظروف الزمانية والمكانية لم تسمح لقادة الثورة في رسم برنامج واضح يضم الجميع تحت لوائه.
هكذا فإن المشكلة الشائكة كمُنت: في أي الاتجاهات سيسير الثوار وعدد كبير منهم لا يزال مرتبطا "روحيا" بالماضي العثماني المحتضر؟.. ومن هنا ندرك عدم وجود برنامج أو أهداف واضحة لدى ثورات الشمال ولم يمهلها الزمن لالتقاط أنفاسها. لقد كانت تلك الثورات تتلقى الضربات المتلاحقة من مطرقة الاستعمار الفرنسي على سندان نظام إقطاعي عثماني متخلف. وهذا النظام العثماني أمعن، فيما مضى، في استغلال سكان المدن وفلاحي الأرياف باسم الدولة العلية المتسترة خلف الدين والمستغِلة له للاستمرار في الاستثمار والاضطهاد والقهر لصالح رجال البلاط ومن يسير في ركابهم. من هنا نفهم معاناة القوى الواعية في الثورة وعلى رأسها إبراهيم هنانو، الذي اختار في النهاية الانسحاب سائرا في مجاهل البادية ورافضا الذل والهوان.
وتحت وطأة هذه الظروف الناشئة في العقود الأخيرة من عمر الدولة العثمانية تقدَّم الاستعماران البريطاني الفرنسي ليدقا المسمار الأخير في نعش الدولة العثمانية الآيلة إلى الزوال منذ زمن بعيد. ومن هنا ندرك عمق المشكلة التي واجهت ثوار الشمال الواقعين تحت وطأة الاستغلال الإقطاعي (العثماني) وذكريات حكمه من جهة، ونار الغزو الامبريالي الفرنسي والبريطاني من جهة أخرى.
في أجواء تلك الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية وما امتزج بها من مؤثرات تراثية إسلامية وما أحاط بها من عوامل خارجية قاد إبراهيم هنانو ما عُرف باسم ثورة الشمال، وبذل كل ما يملك في سبيل نقائها الوطني ونجاحها.
الضابط الوطني إبراهيم الشغوري الذي اصطفاه هنانو لمرافقته وجعله أمين سر قيادة الثورة، قاد في نيسان 1920خمسين فلاحا مجاهدا وحاصر قلعة حارم، التي تحصن فيها الجنود الفرنسيون. ويشير الشغوري في مذكراته إلى محاولات بعض الغوغاء من العرب السيارة (اي البدو الرُحّل) الضاربة بيوتها في أطراف حارم الاستفادة من الخلافات المحلية وظروف الثورة فامتدت أيديهم إلى أموال الأهلين بالنهب، فما كان من قيادة الثورة إلا أن جردت دوريات لمنعهم. ومعروف أن الثورات في كل زمان لم تعدم من يستغلها ويقوم بالسلب والنهب. فيوسف السعدون ذكر في مذكراته أن جماعة أحمد بك مرسل لم يكن لهم هم إلا السلب والنهب. ويطلق السعدون على هؤلاء تعبير "الدخلاء على الثورة".
يسمي نجيب عويد، الساعد الأيمن لهنانو، أعمال السلب والنهب بـ"الأعمال السافلة"، وكان شديد الوطأة على النهّابين. فعندما دخل الضابط التركي عاصم بلدية معرة النعمان وسلب المال من صندوقها اتجه إلى قرية الصقيلبية المسيحية ونهبها. وعلى أثرها "ارتأينا"، كما ذكر عويد، "أن ندعو أهل القرى وتقرر ردع عاصم". وبعد جهود جبارة تمكن نجيب عويد ومن معه من قتل عاصم وإراحة الناس من شروره.
لم يتزعم إبراهيم هنانو الثورة من منطلق عشائري أو طائفي. فهو لم يكن صاحب عصبية قبلية أو طائفية، على الرغم من تحدّره من فئات ملاك الأرض. ويبدو أن إتمام دراسته في استنبول وجولاته في مناطق عديدة كوّنت لديه مفاهيم جديدة، وجعلته على اتصال بالأفكار القومية العربية، واطلاع واسع على بعض جوانب الحركات الثورية العالمية.
لقد استهل هنانو بيانه الأول بإعلان الثورة بعبارة "من العرب إلى العرب". وفي هذا إشارة واضحة إلى قومية المعركة، مع العلم أن هنانو تحدّر من عائلة كردية.
وفي الأيام الحالكة من أوائل صيف1921 وبعد أن تبيّن أن الثورة تجتاز أيامها الأخيرة دعا هنانو لمؤتمر عام للبحث في أفضل الطرق الواجب اتباعها. وعندما اقترح نجيب عويد الالتجاء إلى الأراضي التركية المتاخمة ردّ هنانو بقوله:
"والله لو خُيّرت. على أن أكون مسلما تركيا أو مسيحيا عربيا لاخترت الثانية، ولذا فإني أفضل اجتياز الصحراء الشاسعة إلى شرقي الأردن لأعيش في كنف حكومة عربية".
{المصدر: نقلا عن مذكرات يوسف السعدون وهي مخطوط موجود في مركز الوثائق التاريخية بدمشق، القسم الخاص اضبارة 128 ص 36}.
ويبدو بوضوح أن إبراهيم هنانو كان عن طريق تركيا على اطلاع على مجريات ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، وله كما ذكر يوسف إبراهيم يزبك عدة مراسلات مع لينين.
المصدر: يوسف إبراهيم يزبك: "حكاية أول نوار في العالم وفي لبنان" بيروت 1975، ص 23.
يدلّ على ذلك أيضا بيانه المؤرخ في أيلول 1920 والموجه إلى قناصل الدول الأجنبية، والذي جاء فيه:
"إننا لا نقصد من قيامنا هذا إلا حفظ استقلالنا ليمكننا تأسيس موازنة عادلة على أسس الحرية والمساواة بين جميع الطوائف... هذا وإنّا لا ننفك ندافع عن أوطاننا حتى الموت، فلسنا بمسؤولين عمّا يسفك من الدماء في غايتنا المشروعة نحن السوريين نموت ونتبلشف ونجعل البلاد رمادا ولا نخضع لحكم الظالمين".
المصدر: مذكرات إبراهيم الشغوري في مركز الوثائق التاريخية بدمشق. إضبارة رقم 128 وشرح الشغوري كلمة نتبلشف بكلمتي: نصير شيوعيين.}
لقد أحاطت جملة عوامل وظروف فجعلت من إبراهيم هنانو المثقف والبعيد عن العشائرية والطائفية قائدا وطنيا بامتياز.
ولكن ثمة أمر حدّ من نشاطات وإمكانات إبراهيم هنانو وهو القاعدة الاجتماعية، التي اشتركت في الثورة والمؤلفة عموما من فلاحين غارقين آنذاك في غياهب الجهل والأمية وخاضعين لجملة عوامل كانت تتحكم في الريف السوري في عهد السيطرة الإقطاعية العثمانية، التي فرضت على الفلاح نمطا من الحياة والتفكير والمفاهيم الغيبية، التي تعرقل انتشار الروح الثورية وتهيئ أرضية صالحة للعناصر المتخاذلة والفوضوية الراغبة في التعاون مع المستعمر المحتل.
ومعنى ذلك أن إبراهيم هنانو ومن التفّ حوله من نواة وطنية فلاحية واعية نسبيا لم تكن قادرة رغم جهودها الجبارة، على تنظيم الثورة تنظيما دقيقا صارما يمنع أعداءها من استغلال نواقصها لضربها من الداخل.
وعلى الرغم من إشكالية الحامل الاجتماعي للثورة، فإن الفلاحين حملوا العبء الأكبر من النضال الوطني في الفترة الأولى من الاحتلال الاستعماري الفرنسي. ومن أدلة المكانة الرفيعة التي تمتع بها الفلاحون داخل الحركة الوطنية، النداء الذي أذاعه إبراهيم هنانو في 6 كانون الثاني 1921، والذي ابتدأ بمخاطبة الفلاحين والقرويين بـ(أهل القرى) وحثهم على الجهاد. لقد افتتح النداء بالعبارة التالية:
"أيها الفلاحون والقرويون يا بني وطني... ويا أبناء سورية الأشاوس".
المصدر: مذكرات السعدون المذكورة سابقا، ص 18.
لقد خصّ إبراهيم هنانو الفلاحين بندائه في الأيام الأولى من عام 1921 بعد أن انحازت القوى الإقطاعية إلى جانب المستعمرين، أو اتخذت موقفا مهادنا منهم.
وبعد أن فقدت ثورة إبراهيم هنانو مقومات النجاح انسحب هنانو مع 40 مجاهدا باتجاه البادية بهدف الالتجاء إلى شرق الأردن. وبعد إقامة قصيرة في عمان انتقل إلى فلسطين كطريق للوصول إلى أوروبا. ولكن سلطات الاحتلال البريطاني سلّمته إلى الفرنسيين، الذين أحالوه إلى محكمة عسكرية فرنسية في حلب.
{قمنا في الحلقة السابقة بتتبع الانسحاب الاسطوري لهنانوا من شمال سورية غلى جنوبها}
فقد سُجن إبراهيم هنانو في حلب في آب 1921 في خان استنبول، وبعد اعتقاله بفترة وجيزة سمح النائب العام العسكري الفرنسي لمحامي هنانو بمقابلته في ايلول 1921. وبدأت محاكمته في 15 آذار 1922 حيث تولى الدفاع عنه المحامي الحلبي المسيحي القدير، الذي يجيد الفرنسية، فتح الله الصقال. وقد اثبت الصقال بالوثائق أن هنانو كان تابعا من الناحية العسكرية للجيش النظامي التركي. وعندما أعلنت المحكمة العسكرية بالأكثرية براءة هنانو كان أكثر من ثلاثين ألف إنسان ينتظرون، خارج المحكمة في الشوارع، نتيجة الحكم. وبعد إعلان براءة هنانو أخذت الجموع تهتف: "فليحي العدل، فليحي إبراهيم هنانو، فليحي المحامي الصقال، فلتحي فرنسا"...
***
وبعد البراءة زار الصقال في بيته وفد حلبي شاكرا صنيعه برئاسة الشيخ رضا الرفاعي، الذي ناول الصقال منديلا من الحرير وقال له هذه "صُرّة عرب" أرسلها لك الحاج فاتح المرعشي، وهو الصديق الحميم لهنانو وممول الثورة. وكانت الصرّة تحتوي على 300 ليرة ذهبية أجرة أتعاب الصقال.
{انظر التفاصيل في كتاب الصقال: "من ذكرياتي في المحاماة في سوريا" الصادر عن مطبعة الضاد في حلب 1958.}
وبعدها انتقل هنانو إلى النضال الوطني السلمي، حيث كان من أبرز زعماء الكتلة الوطنية حتى وفاته أواخر عام 1935.
وكان الاحتفال بأربعينية إبراهيم هنانو الفتبل، الذي أشعل الاضراب لستين يوما مطلع عام 1936، عمّ المدن السورية وأدى إلى نجاحات ستأتي تفاصيلها في حلقات لاحقة.