كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قصة لاستخلاص العبر.. قضية فؤاد مردم- ج1

علي سليمان يونس- فينكس

كانت قضية باخرة الأسلحة السورية التي استولت عليھا اسرائيل تعبّر بشكل بالغ عن العقلية التي كانت تتحكم بمقدرات البلاد والقضية العربية.
كان فؤاد مردم ضابطاً في الجيش السوري، وقد قبله الفرنسيون في الكلية العسكرية جرياً على سياستھم بجعل الجيش وقفاً على أبناء "الذوات" والوجاھات العائلية والأقليات العنصرية والدينية، ولم يكن فؤاد مردم من الضباط الذين التحقوا بالحكومة السورية خلال معركة الاستقلال عام 1945 بل كان من الذين بقوا مع القوات الفرنسية حتى نھاية الجلاء، وھو أحد المتھمين بالمشاركة في قصف مدينة دمشق خلال الأحداث وكان قبيل كارثة فلسطين أحد الضباط الموثوقين من وزير الدفاع أحمد الشراباتي لقرابته من الرئيس جميل مردم فأرسله لعقد صفقة سلاح ليتم تھريبھا من ايطاليا على إحدى البواخر الى سورية لأن حظر السلاح كان عاماً وشاملاً لمنطقة الشرق الاوسط بحجة التزام الدول بالحياد تجاه الصراع العربي الاسرائيلي، وقد تمكن اليھود من الاطلاع على أسرار الصفقة وعلى موعد ابحارھا من ايطاليا، وبعد أن اتفقوا مع بحارتھا استجروھا الى فلسطين، وقد كشفت المخابرات الاسرائيلية فيما بعد عن تفاصيل ھذه العملية، وعن أھمية الدور الذي لعبته ھذه الصفقة في حرب 1948. وقد ذاع أمرھا، ورغم ذلك بقي فؤاد مردم بالجيش طليقاً دون أن يحقق معه..
كان لھذه القضية وقع بعيد الأثر في سورية، ففي تقدير الجيش السوري أن ھذه الباخرة لو وصلت سالمة لتغير وجه المعركة، وكان ھذا أيضاً تقدير الاسرائيلين، فقد ذكر" ايغال ألون" في مذكراته عن حرب الجليل أن توفر بعض السلاح عند أحد الطرفين كان يتحكم بمصير المعركة بينھما. وقد زاد في نقمة الشعب والجيش في سورية عندما عرف إن المسؤول عن ھذه القضية ھو الضابط فؤاد مردم الذي لم يلتحق بالحكومة السورية بعد قصف دمشق والمدن السورية في ثورة 1945، مثلما فعل كثير من الضباط، وإنما بقي الى آخر لحظة في خدمة المحتل الفرنسي الى أن استلمت الحكومة السورية الجيش من الفرنسيين عند الجلاء عن سورية، ولم يكن من سبب لتكليف ھذا الضابط بمثل ھذه المھمة المصيرية سوى أنه ابن عم جميل مردم رئيس الوزارة الذي حاول عندما طرح موضوع استجواب في مجلس النواب عن ملابسات ھذه القضية أن يصفھا بأنھا "مخالفة مسلكية". وكان ذلك إبان تطلع الرأي العام في سورية والبلاد العربية الأخرى الى معرفة أسباب نكبة عام 1948، ولا سيما في سورية، البلد المتحرر الوحيد القادر على القيام بدور يمكن أن يكون حاسماً في ھذه المعركة المصيرية، وھذا الاھتمام من قبل الرأي العام ھو الذي ساعد على إقرار مجلس النواب لاقتراح بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية بأسباب ھزيمة الجيش السوري. لقد حاول الرئيس القوتلي للدفاع عن نفسه، أن يحمل المسؤولية للآخرين، لذلك تولى شخصياً - بعد التعبئة الرھيبة ضده بالنسبة لمسؤولية الھزيمة - التحقيق في بعض الفضائح التي ارتكبھا جماعته من التجار المتعھدين بتموين الجيش، وهاكم واحدة على لسان خالد العظم:
"وصلت بنا السيارة ووراءھا السيارة التي تقل حسني الزعيم ومعاونيه الى مستودعات الجيش، وھناك دخلنا أحد العنابر.... وطلب الرئيس من أمين المستودع أن يحضر وابور كاز ومقلاة وبيضاً ففعل، فوضعت قطعة السمن ضمن المقلاة ولما حميت تصاعدت منھا رائحة كريھة حتى أننا اضطررنا الى سد أنوفنا، فطلب الرئيس أن تحمل تنكة السمن الى سيارته ليأخذھا معه لفحصھا... ويقول العظم: بعد ذلك ذھبت الى وزارة الدفاع فسألت حسني الزعيم عمن يعقد ھذه الصفقات فقال "ھنالك لجنة للعقود ولجان للاستلام ويشرف على كل ذلك العقيد بستاني". فغيرت كل ذلك، ثم أرسلت النماذج للتحليل.... ولما ذكرت الصحف الخبر مقتضباً، وذكرت أنني أمرت بالتحقيق استاء رئيس الجمھورية، فأوعز للصحف بأن تسرد زيارته للمستودع بالتفصيل وتذكر أنه ھو الذي أمر وزير الدفاع بفتح باب التحقيق ومعاقبة المسؤولين".
وقد أمر شكري القوتلي أيضاً بإحالة الضابط فؤاد مردم للتحقيق والمحاكمة العلنية، مع إحاطة ھذه المحاكمة بمظاھر احتفالية، فكان نادي الضباط مركزاً لھا، كما حضرھا عدد كبير من الضباط ورجال الصحافة والسياسة وجمھور غفير من الناس، وضمن تلك المظاھر الاحتفالية أدلى النائب العام بالمرافعة التالية:
{{إن الرجل الماثل أمامكم، الذي يحمل رتبة مقدم، كفر بعروبة فلسطين وطعن قضيتھا بالصميم بنذالة ودناءة، لقد كان عوناً للعدو على بلاده فاستحق غضب الله ونقمة الأمة ولعنة الأجيال الصاعدة، لقد باع فلسطين وسبعين مليونا من العرب في سبيل امرأة يھودية اتخذته مطية لمساعدة الصھيونيين، فانقاد لھا ونفذ رغباتھا ناسياً فلسطين مغمضاً عينه عن رؤية إخوانه الضباط والجنود الذين كانت تصرعھم نيران العدو، لقد أصم أذنيه عن سماع أصداء عويل العذارى وندب الثكالى وبكاء الأطفال وأنين العجائز والشيوخ في مذابح دير ياسين وصفد وحيفا}}.
أقول: "أغلب شھداء الجيش السوري الذين استشهدوا في أرض المعركة بفلسطين انما سقطوا بسبب قلة العتاد والذخيرة بل وفقدانھا أصلاً... وهذا ما أفاد به العميد المتقاعد "جورج محصل" انه عندما كان برتبة ملازم في حرب 1948 كلف بالقيام بھجوم على مستعمرة يھودية مع اثنين وثلاثين جندياً، كان 17 منھم مسلحين ببنادق قديمة، أما الباقون فكانوا عزلاً من السلاح"...
ثم ذكر النائب العام وقائع القضية فقال:
{{إن وزارة الدفاع تعاقدت مع إحدى الشركات التشيكوسلوفاكية على شراء ثمانين الف بندقية وستة ملايين طلقة. وأوفدت لجنة عسكرية لاستلام الأسلحة وشحنها الى سوريا. وقد قامت ھذه اللجنة بمھمتھا فاستلمت الأسلحة واتفقت مع شركة (انترسبيد) لنقلھا الى بيروت. فشحنت على متن الباخرة (لينو) بعد التأمين عليھا لدى شركة (سلافيا) في براغ لقاء خمسين ألف دولار. ولما بلغت ھذه الباخرة مدينة (مولفينا) الايطالية توقفت لأن ربانھا "الشيوعي" أراد الاستيلاء على شحنة الأسلحة لتوزيعھا على الشيوعيين الايطاليين فشعرت الحكومة الايطالية بالأمر وسارعت الى إلقاء الحجز على الباخرة واعتقال ربانھا وملاحيھا الشيوعيين، وساقتھم مع الباخرة الى مدينة (باري) حيث نسفت الباخرة ھناك وأغرقت حمولتھا. وقد أوفدت وزارة الدفاع السورية المقدم" فؤاد مردم" الى ايطاليا للعمل على انتشال الأسلحة من البحر وتأمين شحنھا ومطالبة شركة التأمين (سلافيا) بقيمة الضرر اللاحق بھا، وفوضته بشراء أسلحة اخرى وسلمته ثمانين ألف دولار للقيام بھذه المھمة... وقد تم انتشال الأسلحة من قاع البحر، وقدر الخبراء والمحكمون الخسائر التي أصابتھا بنسبة 15 % للبنادق و 80 % للذخائر... وقد أمرته وزارة الدفاع بالعمل على إعادة شحنھا الى سورية بسرعة على متن باخرة كبيرة وأمينة وموثوقة، والحضور معھا بعد التأمين عليھا..
ولكن "فؤاد مردم" تأخر في شحن الأسلحة بداعي الصعوبات التي تعترض سبيله، وراح يفتش عن شركات أخرى بعد أن رفض التعاقد مع شركة (فامركه دي سيموني) وھي شركة موثوقة أرشده إليھا تطوعاً ممدوح الحفار، وقد قبلت ھذه الشركة شحن الأسلحة من جنوة الى بيروت لقاء مليون لير ايطالي. (قيمة الصفقة 200 مليون لير)... في الوقت ذاته كانت الأيادي الصھيونية تضغط على الحكومة الايطالية لعدم السماح بإعادة ارسال الأسلحة الى سوريا فباءت مساعيھا بالفشل. ولما علمت بأمر" فؤاد مردم"، الذي لم يكن يكتم أسراره، وجھت إليه امرأة يھودية على غاية من الجمال تدعى (بلماس)، يوغسلافية الأصل تعمل لحساب الصھيونية، بارعة الذكاء، تحترف الصحافة، فتعرفت على الظنين... ورغم علم الظنين مردم بتجسس اليھود ھناك على كل من يعمل لمصلحة بلاده، وإطلاقھم خلفه عيوناً ترصد حركاته وتصرفاته وأعماله فقد افتتن مردم ببلماس وكانت تجمعه في بيتھا بنساء على شاكلتھا. وكان يقيم لھن الحفلات وينفق عليھن الأموال، ولم يتورع عن الظھور معھن في الأندية والمحلات العامة حيث كان يبذخ ويصرف بسخاء مما استدعى أنظار البوليس الايطالي... وبالرغم من تحذيره من قبل السوريين الذين التقوا به في روما والى جانبه تلك المرأة، كالسادة بشير رمضان وسعدي الفرا ونظير العابد، ورغم نصحھم له بالاقلاع عن معاشرتھا وضرورة الابتعاد عنھا لعظم المھمة والمسؤولية المنوطة به، فإنه تمادى في غيه... ولما عاد ممدوح الحفار الى دمشق كلفته الحكومة رسمياً بالعودة الى ايطاليا لتذليل العقبات وشحن الأسلحة، وزودته بكتاب تأمر فيه الظنين مردم بأن يتفق مع الحفار بھذا الشأن... وقد قام الحفار بايصال مردم إلى شركة (دي سيموني) حيث اتفق معھا على الشحن من باري الى جنوا براً، ومن جنوا تنقل الاسلحة الى بيروت على متن الباخرة المصرية (الخديوي اسماعيل)).
ولكن الحفار تلقى بعد ذلك برقية من الشركة جاء فيھا ان الظنين مردم اتفق مع المدعو (منارة) وھو صاحب مركب شراعي صغير يدعى (أرجيرو) على شحن الأسلحة خلافا للتعليمات التي تلقاھا. كما أنه لم يقم بالتأمين على البضاعة برغم وجود ثمانين ألف دولار في حوزته لھذه الغاية... وذكر النائب العام كيف أن الظنين مردم ترك الأسلحة في ذلك المركب الصغير في البحر وراح يتنقل بين المدن الايطالية، ثم أتى بعد ذلك الى الاسكندرية لينتظر وصول المركب اليھا. ولما لم يصل المركب عاد الى روما ليكون الى جانب صديقته (بلماس) التي اصطحبھا الى ميلانو.. ثم استدعي إلى دمشق. وتجرأ بعد رجوعه الى دمشق على الكذب والادعاء بأنه امن على البضاعة. وقد ظھر خداعه وتلاعبه بعد مقابلته مع ممدوح الحفار....
وقد برھن النائب العام على ان الظنين عد البضاعة مستھلكة وأنه باعھا ولم يؤمن عليھا ولم يدفع أجرة شحنھا. وقد اتضح بعدئذ ان المركب (أرجيرو) وصل مع شحنته سالما الى تل ابيب، بدليل ان وزارة الخارجية الايطالية تلقت من قنصلھا في القدس إشعاراً بأن بحارة المركب موجودون في فلسطين ويشتغلون لدى اليھود. لقد جرت محاكمة فؤاد مردم قبيل انقلاب حسني الزعيم الذي أوقف المحاكمة وطوى القضية، ولكن بعد أربعين عاماً وعلى عادة المخابرات الاسرائيلية بالكشف عن اتصالاتھا وعملياتھا السرية بعد مرور وقت من الزمن كاف لعدم حدوث أي مضاعفات، كشفت المخابرات الاسرائيلية عام 1986 عن دورھا في قضية باخرة السلاح، وبصورة خاصة عن القسم الأول منھا الذي انتھى بغرق الباخرة في ميناء باري العسكري، قبل انتشالھا واعادة شحنھا من جديد....
يتبع. 
تنويه من فينكس: السيد أحمد الشرباتي وزير الدفاع السوري الأسبق المذكور في البحث، يكون والد الزوجة الثانية لوليد جنبلاد.