كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الدولة والعقد الاجتماعي

مروان حبش- فينكس

إن الصعوبة والتعقيد في تحديث بلدان الوطن العربي هو الاستغراق في الذات سياسياً والرهاب الانفعالي تجاه الأجنبي نفسياً.
وبعد أن أصبحت الأعاصير تتقاذف هذا الوطن والبغاث تستبيحه أصبح من الواجب البحث عن مخارج تنقذه مما هو فيه، تدعم وترسخ وتحصن الخيار الرئيس الذي لا يعلو عليه خيار أخر، ومن أجله كان ما عُرف بالربيع العربي، وأقصد خيار عقد اجتماعي جديد وبناء دولة عصرية تتسم، بنيةً ونظاماً، بسمات هذا العصر، وتحقق طموحات شبابه بمؤسسات وسُلطٍ حديثة. وما من مجتمعٍ يؤدي وظيفته بكفاءة من غير نظام متقدم للحركة السياسية. ومن هذا المنطلق كانت الرؤية الآتية في الدولة ونظرية العقد الاجتماعي.
منذ أيام أفلاطون – القرن الرابع قبل الميلاد – وحتى )الإنسان ضد الدولة) عنوان لكتاب وضعه "هربرت سبنسر" في أواخر القرن التاسع عشر، ورغم ما واجهته نظرية العقد الاجتماعي من آراء متباينة منها الناقدة ومنها الداعمة وأخرى مشككة في مدى تبريرها وتفسيرها تاريخياً للحياة السياسية والالتزام السياسي والسلطة السياسية، ولكنها، رغم ذلك، تبقى معبِّراً حقيقياً بأن الحرية والعدالة كقيمتين مؤسستين على الإرادة والحق لا على القوة، هما أساس كل مجتمع وأي حكم ونظام سياسي.
وهذا ما أكد عليه أرسطو في كتابه مبادئ " السياسة" وميَّز بوضوح بين الملك والطاغية، وتأييد لحق الجماهير لا في انتخاب الحاكم فقط، بل وفي محاسبته أيضا.
ونجد عند الرومان أن القانون هو ما وضعه الشعب الروماني، وأن أي قانون في نظر العرف الروماني لا بد أن يصدر عن الشعب الروماني.
وفي 250 م كتب القديس توما الإكويني عن السلطة في "نظام الأمراء" أن الحكومة يؤسسها المجتمع وله أن يعزلها أو أن يحد من سلطتها إذا طغت، ويضيف أن الحاكم الطاغية يستحق ألا تحافظ رعيته على العقد المبرم بينه وبينهم.
ورغم أن الفكر السياسي في بعض الديمقراطيات التعددية قد تجاوز نظرية العقد الاجتماعي، بل وحتى اشكاليتها تماما، فإن هذه النظرية ما زالت تحتفظ بالكثير من قوتها وضرورتها بالنسبة لبلدان كثيرة، وخاصة ما يعرف ببلدان العالم الثالث وبلدان الأنظمة الشمولية والاستبدادية، تلك البلدان التي لم تستطع بعض الطبقات أن تتكون لكي تقوم فيها بدورها التاريخي التي قامت مثيلاتها به في بلدان أخرى، وربما – تبعا لتطور الظروف العالمية – لن تتكون تلك الطبقات، وإذا تكونت فقد لا تفلح في إنجاز تلك المهمة.
إن أنظمة الحكم في الوطن العربي تندرج ضمن البلدان التي من واجبها أن تؤسس حكماً على قاعدة نظرية العقد الاجتماعي ووفق القضية التي تطرحها تلك النظرية وتتمثل في البحث عن أساس للمجتمع المدني وفي أن العقد الاجتماعي، عقد اختياري تفرض بموجبه بعض القيود على القانون الطبيعي المتأصل في طبيعة الإنسان العاقلة حسب" لوك " - يقوم به من يملكون مثل هذه الحقوق، مقابل تحويلها إلى حقوق مدنية يضمنها المجتمع بكل القوة العمومية مجتمعة، ويصبح الفرد مواطناً حراً إذْ هو لا يخضع إلا للإرادة العامة التي هي إرادته باعتباره عضواً في المجموعة يشارك كأي فرد آخر في وضع القوانين، وتبقى هناك دائماً صلة وثيقة ومتينة بين فكرة العقد الاجتماعي وفكرة القانون الطبيعي، أي أن القانون الطبيعي حاضر دائماً وراء نظرية العقد الاجتماعي.
إن نظرية العقد الاجتماعي التي تؤسس السلطة السياسية على تعاقد حر تهدم الأسس التي تقوم عليها نظريات الحق الإلهي أو الأنظمة الشمولية أو الديكتاتوريات الفردية أو حكم الطغاة، وهي "النظرية" مكونة من فكرتين أساسيتين:
فكرة عقد الحكم: أي أن الدولة تقوم على عقد بين السلطة والمواطنين.
فكرة عقد المجتمع: أي يجب أن يكون هناك جماعة مترابطة فعلاً بفضل إرادة اجتماعية مشتركة، وكذلك سلطة مفترضة على استعداد لتحمل أعباء بالاتفاق مع هذه الإرادة.
إن عقد الحكم يُوجد سلطة ولا شيء غير السلطة، وأن عقد المجتمع يوجد المجتمع نفسه، مع الإدراك بأن المجتمع أكبر من السلطة، وأنه سابق عليها.
إن الدولة، بمعنى الجماعة السياسية وباعتبارها مجتمعاً منظماً، تقوم على عقد اجتماعي أو على عدد كبير من مثل هذه العقود بين جميع أعضاء هذا المجتمع أو هذه الجماعة وبين كل عضو وآخر
أي أن الدولة – وأساسها الوحيد هو الأساس العقلي للإرادة العامة، حسب "روسو" - اتحاد قانوني يتكون بتصرف أعضائه، وهم يضعون دستوراً، وعلى أساس هذا الدستور يتعاقدون على الاندماج في كيان سياسي. ودستور الدولة هو موادُ عقدٍ تتكون بمقتضاه الدولة، إنه عقدٌ سياسي – إن لم نقل عقداً اجتماعياً - بل إنه اتحاد قانوني يوحد الجميع "سلطة ومواطنين" على السواء على أساس الدستور وفي ظله، تبعاً للمسؤولية التي تتحدد فيه "الدستور" لكل فرد، وهو عقد كاف وهو الوحيد، وفي ظله تتحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، وتتمتع فيه الأكثرية، أكثرية الجسد السياسي الذي هو مجموعة من الأفراد الذين تقابلت إراداتهم بحق التصرف متضمنة إرادة باقي المجتمع.