كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ديالكتيك الثورات الوطنية السورية (1919– 1927) ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي

د. عبد الله حنا- فينكس

يقودنا البحث في الثورات الوطنية (1919 – 1927) المناهضة للاحتلال الاستعماري الفرنسي في سورية إلى ملاحظة الأمور التالية:
الأمر الأول إخضاع الروايات المتعلقة بكل ثورة لمجهر النقد التاريخي وعدم تصديق الرواية أو نفيها ووضعها في ميزان العقل ومعرفة المعقول منها من المختلق أو المبالغ فيه. وإذا كان تصديق الرواية كما وردت له حسناته أيام النضال ضد الاستعمار بهدف شحذ الهمم وحشد القوى المناهضة للاحتلال، فإن هذه الغاية انتفت بعد مرور عقود مديدة من الزمن على جلاء قوات الاحتلال ونيل الاستقلال. والآن لا بدّ من الرجوع إلى علم التاريخ لمعرفة الحادثة كما وقعت دون تحريف أو مبالغة في سرد الوقائع.
الأمر الثاني دور المشاعر الدينية المسلمة في إشعال جذوة النضال ضد الاحتلال الاستعماري، الذي رآه المجاهدون الوطنيون في ذلك الحين نضالا ضد العدو الكافر، الذي يحتلّ دار الإسلام. هذه المشاعر الدينية الإسلامية (المتجسّدة في الجهاد) نجدها واضحة في ثورات الشمال، وتختلط في الثورة السورية الكبرى بالمشاعر الوطنية اليعربية، التي حمل لواءها لفيف وازن من قادة التيارات القومية العربية، ووجدت لها أرضا خصبة لدى ثوار بني معروف في جبل حوران. ومن هنا ندرك عمق الثورة السورية (1925 – 1927)، التي كانت في أحد وجوهها تحالفا بين المدينة البورجوازية (دمشق) والريف الفلاحي ذي الملكيات الصغيرة في جبل حوران والغوطة والقلمون. وهذا العامل الهام افتقرت إليه، حسب علمنا، ثورات الشمال.
الأمر الثالث الهام هو البحث في الأرضية الاقتصادية الاجتماعية، التي تحرّك فوق ترابها المناضلون الوطنيون وأثارت سنابك خيلهم غبارها. فالملاحظ أن أكثرية الباحثين في الثورات الوطنية، وغيرها من الأحداث لا يولون الاهتمام الكافي إلى البنية الاقتصادية الاجتماعية، التي أسهمت إسهاما عميقا في قيام الثورات وما رافقها من نجاحات وإخفاقات. وسنخصص حيّزا واسعا من هذه الدراسة لهذا العامل.
الأمر الرابع تجسّد في عدم رؤية ثوار الشمال -إذا استثنينا إبراهيم هنانو – للطبيعة الطبقية الإقطاعية للدولة العثمانية ودورها في إنتاج شرائح إقطاعية مستغِلة تتستر بالدين وتستغله للسيطرة على الطبقات الأخرى وإخضاعها لمصالحها.
***
وقد اتسمت الحركات الوطنية المسلحة (1919 – 1927) بتداخل الروح الوطنية والقومية مع المشاعر الدينية الإسلامية المعادية للمحتل الأجنبي (غير المسلم). وامتزج النضال الوطني ضد المحتل الأجنبي مع "الجهاد" ضد "الكفار".
إلى جانب المشاعر الدينية دخلت على خط النضال الوطني العوامل العشائرية والعائلية. فوقفت عائلات ضد الثورة بمجرد أن العائلة الخصم أيدت الثورة. ولم يكن الوعي الوطني واضح المعالم، على الرغم من نداءات بعض قادة الثورات.
وكان لغياب الوعي الوطني أسباب كثيرة أتى في مقدمتها هشاشة التطور البرجوازي وضعف المراكز التجارية وانعدام الصناعة وتراجع الحرف، كل ذلك أثّر على مستوى تطور الحركة الوطنية، وضعف الوعي الوطني لدى أكثرية الثائرين في فترة النضال الوطني المسلح (1919 – 1927).
ونلاحظ أن الوعي الوطني أخذ في الانتشار السريع في فترة النضال الوطني السلمي بعد 1928 وذلك بفضل التطور الاجتماعي العام، وتصاعد حدّة النضال الوطني الواعي فكريا ضد الاحتلال الاستعماري والنشاط السياسي والفكري للنهضويين (القوميين) العرب، وعوامل كثيرة أسهمت في ثلاثينيات القرن العشرين في نمو الوعي الوطني وترسّخ المشاعر الوطنية لدى أقسام واسعة من الجماهير كانت قد تحررت من إيديولوجية الجامعة العثمانية التي اناخت بكلكلها على ثورات الشمال، وسارت باتجاه إيديولوجية الجامعة العربية (أو الوطنية) في الثورة السورية الكبرى 1925 1927.
يتجلى تطور الوعي الوطني وتجاوزه للعصبيات الطائفية والعشائرية في مذكرات يوسف خنشت أحد وجهاء المسيحيين في النبك، الذي غادر النبك مع عائلته ملتجئا إلى أقاربه في زحلة تحسبا من تعديات "الثوار" القادمين في أوائل صيف 1925 من قرى جرود القلمون باتجاه يبرود ومنها إلى النبك.
{تقدم في صيف 1925 فلاحو ورعاة القرى البعليىة في قرى القلمون الفوقاني باسم الثورة باتجاه أمهات قرى القلمون (المعتمدة على الزراعة المروية والبعلية والرعي والحرف البسيطة) لـ"تحريرها" من مراكز السلطة التابعة لحكومة دمشق الخاضعة للإنتداب. لم يكن في صحبة هؤلاء الثوار مثقفون مشبعون بروح النهضة العربية كما في حملة زيد الأطرش. الدافع إلى الثورة شعور بالجهاد ولكنه غامض وضبابي لفلاحين منعزلين ثقافتهم الدينية سطحية. ترافقت مسيرة الثورة هذه مع الرغبة في الحصول على الغنائم، وتجاوز عقدة النقص لقرى جردية بعلية فقيرة مهمشة معزولة عن التطور. أحد قادة الثورة ووجيه قرية الجبة محمد محسن التفت إلى بيته لدى مغادرته له وقائلا بالحرف: "يا دار يا دار يابصيري دار ملوك يا بتخربي". وعندما فرض محمد محسن سلطانه على بلدة يبرود العامرة، التفت إليه أحد أتباعه وخاطبه قائلا: "الله الله يا محمد محسن من الفلوحية للملوكية"... (هذه المعلومات جمعتها من أفواه اثنين من أهل يبرود)
بعد يبرود تقدم "الثوار" المفتقدين إلى القيادة والثقافة والوعي الوطني باتجاه النبك مركز قضاء القلمون، فاستولوا دون مقاومةعلى سراي الحكومة الخالية من الدرك ورجال السلطة. ماذا فعلوا.. أحرقوا ما فيها من وثائق: سجلات النفوس، سجلات الطابو، وثائق المالية ودفاترها، مجلدات جلسات مجلس الإدارة منذ عام 1890 إلى 1925. ولم يجر أي إعتداء على المسيحيين، فقد أفهم أهل النبك "الثوار" أن الثورة وطنية وليست دينية والإعتدء على المسيحيين ممنوع. (من مرويات أهل النبك)}
ولم تكن مخاوف خنشت في محلها. فبعد دخول الثوار النبك بمساعدة اهلها باكثريتهم المسلمة، لم يجر أي اعتداء على مسيحي النبك او سرقة ممتلكاتهم. وبعد عشر سنوات يصف خنشت في مذكراته أن أهالي النبك الذين استقبلوا عام 1936 المناضل الوطني العائد من المنفى فخري البارودي بالعراضات التي جابت حارات النبك وهم يهتفون: "فلتحيا الوطنية اسلام ومسيحية". ويدوّن خننشت في مذكراته "وعندما مروا من حارة المسيحيين كانوا لطفاء جدا".
كما تتبدى الروح الوطنية بأجلى معانيها عام 1951 في تأسيس رابطة المثقفين في ديرعطية، التي ضمّت المثقفين المسسلمين والمسيحيين وانتخبت المسيحي يوسف البطل رئيسا للرابطة. وعندما احتج أحد الأعضاء في جلسة لاحقة على انتخاب مسيحي للرئاسة انبرى له الأعضاء المسلمون مؤكدين الثقة برئاسة المسيحي. ورابطة المثقفين في دير عطية هيَ إحدى تجليات المجتمع المدني، الذي حقق على مستوى سورية نصرا مبينا في خمسينيات القرن العشرين.