كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الجمعيات والأحزاب السياسية (1908- 1914)

د. عبد الله حنا- فينكس:

أولا
السياسة قبل 1908
مع بداية الإصلاحات العثمانية، ونتيجة للإتصال بالغرب البرجوازي ظهرت في بيروت وجبل لبنان مجموعة من الجمعيات الأدبية. وكان لبطرس البستاني وناصيف اليازجي دور بارز في قيام معظمها، وهي: الجمعية السورية للعلوم والفنون (1847-1852)، الجمعية الشرقية (1850)، جمعية بيروت السرية (1875).
جاء في دستور الجمعية السورية للعلوم والفنون المؤسسة عام 1847، ورائدها بطرس البستاني: "إن هذا المحفل يُدعي جمعية سورية لاكتساب العلوم والفنون". وورد في القانون (المادة) الثاني "إن مقاصد هذه الجمعية هي أولاً استفادة أعضائها العلوم والفنون بواسطة مفاوضات ورسائل وخطابات وأخبار.
ثانياً: جمع كتب وصحائف سواء كانت طبعاً أو خطاً وعلى الخصوص ما كان منها في اللغة العربية موافقاً لمنفعة الجمعية.
ثالثاً: إنهاض الرغبة عموماً لاكتساب العلوم والفوائد مجردة عن المسائل الخلافية في الأديان والأحكام فإنها لا تتعلق بهذه الجمعية".
إلى جانب الجمعيات ظهرت أيضاً المجلات كثمرات الفنون والمقتطف وغيرها. فالمقتطف الصادرة في بيروت في حزيران 1876 وشعارها يفصح عن هدفها بأنها: "جريدة علمية وصناعية هدفها نشر علوم الغرب للأخذ منها وتحقيق التقدم". وطفحت أعداد المقتطف بـ"المقالات العلمية والفوائد الصحية والمنزلية والأخبار العلمية والصناعية مما لا غنى عن معرفته". وكان البحث –كما كتب محمد كرد علي في مجلته المقتبس الصادرة في القاهرة في ربيع الثاني 1324 – في الفلسفة والطبيعة والمعارف المادية" أمر "لم تألفه عقول القوم فثارت مثارات النفوس لأول وهلة واستعظم بعضهم إقدام صاحبي المقتطف على نشر المعارف الطبيعية والمكتشفات العلمية" مما اضطرهما، مع زحف الاستبداد السلطاني الحميدي لترك بيروت والهروب إلى القاهرة والاستمرار في إصدار المجلة هناك.
وكان "الهروب" من البلد أو التقيّة –وهي ضرب من الكتمان- ديدن جميع العلماء وناشري المعارف العلمية في وطننا أيام الحكم العثماني. وقد أشار إلى هذا الأمر بوضوح الدكتور صلاح الدين القاسمي في مقالة تحت عنوان "العلم والعامة" نشرها في جريدة المقتبس الدمشقية، قال فيها:
"…العامة حُرمت بسبب الجاهلين ما أحلّ الله من العناية بضروب العلوم الرياضية والكونية حتى الدينية كالتفسير والحديث". و"العامي لا مذهب له وإنما مذهبه قول مفتيه في الضغط الفكري على العلماء واضطرار هؤلاء لاتخاذ التقيّة شعاراً في أغلب الأحايين.. وكم كتم العالم ما يجول بخاطره من الحقائق العلمية وشُرد الآخرون إلى بلاد نائية".
وهكذا أوقف الاستبداد التقاليدي والاستبداد السلطوي أيام السلطان عبد الحميد (1878-1908) الإبداع الفكري أكثر من ربع قرن. وبعد زوال عبد الحميد أخذت تظهر الجمعيات والأحزاب السياسية (1908-1914).
*******
1- جمعية النهضة العربية المؤسسة في دمشق 1906، والتي نشطت بعد زوال الاستبداد الحميدي عام 1908. وكانت مهمتها تعريف شباب العرب المثقفين بعروبتهم ودعوتهم إلى التعاون "وصلاح المجتمع". ورأى أعضاء الجمعية، أن أسباب تخلف المسلمين: استعجام لغة الدولة الرسمية، وتجاهل ما كان يقع في الغرب من نهضة. اختير طالب الطب صلاح الدين القاسمي (1887-1916) كاتماً لسر الجمعية، الذي ألقى عام 1912 في الجمعية محاضرة عن "الثورة الفرنسية" التي كانت رمزاً ومنارة لمعظم رجال النهضة العربية.
2- جمعية الإخاء العربي العثماني (استنبول 1908).
3- المنتدى الأدبي (استنبول 1909) التي جاء في برنامجها: "إحياء الجامعة العربية وبث روح التعارف وإحياء عاطفة الإخاء والتعاضد بين أفرادها وجماعاتها بلا تفريق في الدين والمذهب بحيث يكون الوطن العربي للعرب جميعاً".
4- الجمعية القحطانية السرية (نهاية 1909) ثم جمعية العهد.
5- جمعية العربية الفتاة المؤسسة في باريس 1911، والتي نقلت نشاطها إلى دمشق عام 1913. وكان من أبرز أعضائها عبد الغني العريسي، الذي عنون افتتاحية مقالته عام 1913 في جريدته "لسان العرب" "باسم العرب نحيا وباسم العرب نموت".
6- حزب اللامركزية الإدارية العثمانية المؤسس في القاهرة عام 1912، وله فروع في عدد من مدن بلاد الشام.
7- الجمعية الإصلاحية البيروتية المؤسسة في بيروت 1912 من تجار وأصحاب بنوك وبعض ملاك الأراضي والأطباء والمحامين والصحفيين".
8- الجمعية الإصلاحية الدمشقية، التي كانت، من جهة صدى لجمعية بيروت الإصلاحية، ومن جهة أخرى وليدة التطور الإجتماعي الاقتصادي والفكري في المدينة وريفها , وهي من جهة ثالثة ثمرة نمو الوعي الوطني والقومي في صفوف المتنورين. كما عبّرت حركتا الإصلاح في كل من بيروت ودمشق عن مطامح القوى البرجوازية (الجنينية) في المدينتين في الحصول على قسط من الحكم الإداري والحرية الإقتصادية.
***
في أواسط كانون الثاني عام 1913 جرى في مركز حزب الحرية والائتلاف بدمشق اجتماع ضم "طليعة رجال الإصلاح"، الذين انتخبوا عبد الرحمن الشهبندر رئيساً للجلسة، وناقشوا اللائحة الإصلاحية المقترحة التي لم تختلف في جوهرها عن برنامج الجمعية الإصلاحية البيروتية، وتبين من استعراض أسماء المشتركين في الاجتماع أن الجمعية الإصلاحية الدمشقية تألفت من تجار ورجال دين ليبراليين ومن مثقفين وأبناء ملاكين في غوطة دمشق.
9 – المؤتمر العربي 1913 والجمعية الاصلاحية الدمشقية
بعد تخمر طويل داخل المجتمع العربي في الدولة العثمانية انتشرت في سنة 1913 الأفكار المنادية بالإصلاح بين الفئات البرجوازية الناشئة بمختلف شرائحها. وفي ذلك الجو المُتصف بالنهوض القومي عُقد "المؤتمر العربي الأول" في باريس من 18-23 حزيران 1913. وعلى الرغم من عدم مشاركة الجمعية الإصلاحية الدمشقية في المؤتمر – لأسباب لا يتسع المجال هنا لذكرها – إلا أنها أيدت المؤتمر ودعمت مقرراته في إقامة إدارة لا مركزية في كل ولاية عربية. وكان دعم "المؤتمر العربي الأول" واضحاً في الرسالة التي بعث بها الأعضاء البارزون في الجمعية الإصلاحية الدمشقية إلى المؤتمر العربي الأول مؤرخة في 20 أيار سنة 1913. نثبت فيما يلي نصها الحرفي:
"إلى المؤتمر العربي الأول"
"من الحقائق الراهنة أن البلاد السورية خاصة والعربية عامة أصبحت في هذه الأوقات الحرجة الدقيقة عرضة لخطر الاحتلال وغرضاً للمطامع الأجنبية وأن مستقبلها سيكون قاتماً ما دامت الحالة التي عليها إدارة البلاد لا تزال على قِدَمِها لا تتغير مع الزمن وحاجات الأمة ولا يداخلها إصلاح حقيقي يكفل راحة الأهلين وسعادتهم، وقد بات كل الناس يعتقدون اعتقاداً باتاً، أنه كلما تأخر ادخال الإصلاح على البلاد كان الخطر إليها أسرع.
وقد أدركت الأمة العربية في عامة الأنحاء هذه الحقيقة المنطقية الناصعة فقامت تحاول انقاذ بلادها من الخطر المحدق بها راضية بأن يمثلها للقيام بهذا الواجب المقدس طائفة من أبنائها المخلصين ممن أُشْربَت قلوبهم حب الحرية الحقيقية في مؤتمر عام يعقد في باريس ويشترك فيه رجال الأمة العربية العثمانية في مصر والشام والعراق وأميركا للنظر في المسألة العربية ووضعها على بساط البحث والتذرع بالذرائع المشروعة المحقة لإدخال الإصلاح على البلاد حفظاً لها من عاديات الأجانب والدخلاء وإبقاء عليها من خطر الاحتلال بل لتتمتع الأمة العربية بالحياة الاستقلالية الشريفة وهي تتفيأ ظلال الهلال العثماني.
لهذا نوقع هنا ونحن نرحب بهذا المؤتمر العربي ونحيي بقلوبنا ونفوسنا أعضاءه الكرام من بعيد، مشتركين معهم في مقاصدهم النبيلة وغاياتهم السامية راجين أن يتم على يدهم ما نتوخاه نحن وهم من الإصلاح في القريب العاجل".
كان من المقدر أن تأخذ الحركة الوطنية العربية في بلاد الشام بعد المؤتمر العربي الأول أبعادها القومية مع الخلفيات الاجتماعية، التي أخذت تطفو على السطح، لو لم تنشب الحرب العالمية الأولى في صيف 1914، التي وضعت الحركة القومية العربية في ظروف جديدة.