كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

طِفلٌ من قرية "فنيْدق" يُشفى ببَرَكةِ دعاءِ الشيخ محمود

زين العابد ين رمضان

ذُكر لي أنّه في أحَدِ أيّامِ شَهرِ أيّارَ مِن سنة 1942م كانَ فلّاحو قرية "دارين" مُنْهَمِكينَ في حَصادِ السّنابلِ الذّهَبيّةِ، ويقبِضونَ بِأكُفّهِمْ على المناجلِ الهِلاليّةِ، ويصدَحونَ بمَواويلِ الجَنْيِ لِلْمحاصيلِ المَوسِمِيّةِ الَّتي قدِ اصفَرَّ لَوْنُ قاماتِها بَعدَ طُولِ اخضِرارٍ.
وبعدَ صلاةِ الظُّهرِ وصلَ إلى القريةِ رجُلٌ طويلُ القامَةِ عريضُ الكَتِفَيْنِ يَحمِلُ وَلَداً مريضاً يَئِنُّ منَ الوَجَعِ، وَالألَمِ، فيجدُ في طريقهِ طفلاً يلهو بالوَحلِ، فيسْألُهُ عن منزلِ الشّيخ محمود سُليمان حامد، فيركض الطّفلُ أمامهُ، وهو يمسَحُ الوَحلَ بعباءَتِهِ القصيرةِ، ولمّا اقتربَ من بيتِ الشيخ محمود أشار له بأصبعه الطريّ، وطلعَ صوتهُ الخجول:
"هذا هوَ"، وقفلَ عائداً إلى ألعابهِ الطفوليّة.
اقتربَ "الرجل الغريب" مِن بابِ البيتِ، وأنزلَ وَلَدَهُ المُنهَك، وأراح ظهرهُ المُتعَب، وجعلَ أحجار البيت الرماديّة مسندَاً لظهرهِ المُثقَلِ، وبعدها توجّهَ صَوبَ جرّةِ الماءِ الفخّاريّةِ المَوضوعةِ على صُندوقٍ خشَبِيّ تحوطُها أشواكُ البلّان؛ لِمَنعِ انكِسارها عند ثَنيِها؛ لأجلِ دَلْقِ الماءِ، فَمَدَّ كفّهُ الكبيرة، وتناولَ طاسةً نُحاسِيّةً مربوطةً بجِنزيرٍ رَفيعٍ بأُذنِ الجرّةِ، ودلَقَ فيها الماءَ الباردَ ثُمّ عَبّهُ إلى حَلْقهِ دفعةً واحدةً، وأعادَ الكَرَّةَ سِتّ مرّاتٍ حتّى ارتَوى، وَحَمِدَ اللهَ، ومَسَحَ بِكِمّهِ الرذاذَ المتناثرَ من فمهِ العَطِشِ.
في هذا الوقتِ كانَ فتىً اسمُهُ "أحمد" يُراقِبُ حركاتَ الرَّجُلِ بِذُهول،ٍ واستِغرابٍ، وقد تساءَل في نفسهِ "لِماذا شربَ هو، وارتوى، وحَرَمَ ابنهُ مِن بَلّةِ ريقٍ"، فقطعَ صوتُ الرّجُلِ حَبلَ أفكاره "هل الشيخ محمود في البيت"، لِيُجيبَهُ "نعم، ولكن مَن أنتَ، وماذا تُريدُ منهُ"، فيأتيهِ الجوابُ على جُناحِ السُّرعةِ "جئْتُ من قرية فنَيْدِق الجرديّة - هل تسمَعُ بها"، فيُجيبُهُ الفتى "نعَم أسمعُ بها مِن خلالِ النّاسِ الذين ينزلونَ إلى دارين في كل موسمٍ؛ لترعى في أراضيها دوابُهم" بعدها هَمْهَمَ الرّجُلُ بكلماتٍ غير مفهومة، وقال له "عَجّلْ لو سمحتَ، وأخبرِ الشيخ محمود بوجودي هُنا أريدُ أنْ أراهُ الآن".
فيدخلُ الفتى المنزلَ؛ لِيُعلِمَ الشيخ محمود بقُدُومِ الضّيفِ الغريبِ، ويرجعُ إليهِ؛ ليُخبِرَهُ بموافقةِ الشيخ محمود، فيخطو خطوات سريعةٍ بعد أن يضمَّ ولدَهُ إلى صدرهِ، ويدخل به المنزل.
كان بيتُ الشيخ محمود كبيراً بالنسبةِ لبيوت دارين؛ بسببِ مكانةِ الشيخ الاجتماعيّة، والدّينيّة - بيتٌ حجَريّ مُطَيَّنٌ منَ الدّاخلِ - تُظلّلهُ شجرةُ "زلنزخت" فيّاءَةٌ، والمنزلُ يتربّعُ على تلّةٍ مُشرفَةٍ على سَهلٍ خصيبٍ واسعٍ، وطويلٍ، يمتَدُّ؛ ليتّصِلَ بأراضي قُرى نبع الغزيلة، وسعدين، وحكر الحوشب، وتلْعبّاس الشرقيّ، وتلبيري، والمسعوديّة، والحيصا من جهةِ الغربِ.
عندما ولجَ الرجُلُ إلى غُرفةِ الضيوفِ وجدَ شيخاً مَهيبَ الطّلْعَةِ ضاحي المُحَيّا يتربّعُ على "طرّاحة" محشُوَّةٍ بالصُّوفِ، ويسندُ ظهرَهُ بمِسنَدِ، والجَوُّ في الغرفةِ باردٌ رغمَ حرارةِ الطقسِ خارجاً، فلمّا وقعتْ أنظارهُ عليهِ قامَ؛ ليصافحَهُ، وحاولَ الرجُلُ جاهِداً أن يُقبّلَ يدهُ لكنّ الشيخ محمود سحبَها قبلَ أن تصِلَ إلى شفًتَيْهِ، وكان قد أنزلَ ولدهُ المريضَ وطرَحَهُ أرضاً، ثمّ جلسَ، ُويرحّبُ الشيخُ به، ويسألهُ عن سببِ مجيئهِ إليهِ، فيردّ جوابَ سؤاله بأنّ أحداً مِن أبناءِ طائفةِ الشيخ محمود قد ذكرَ لهُ اسمهُ، وشرحَ لهُ خريطة الطريق إلى قريته، وبدأ يسردُ لهُ قصّة مَرضَ ابنهِ، وكيفَ وَصلَ بِهِ إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، ونصيحة البروفّيسور لهُ بأنْ يُرجعَ ابنهُ إلى بيتهِ ليموتَ فيهِ؛ لأنّ حالتهُ الصحّيّة صعبة الشفاء، فتسوَدُّ الدّنيا في وجههِ، وتضيقُ الأرضُ على قلبهِ بِما رَحُبَتْ، فيطوفُ به حول مشايخه من قرية "مشحا"، ولكن لم يقضِ عندهم وَطرَاً.
يَختِمُ الرجُلُ كلامَهُ "ابني أمَامكَ ياشيخ محمود"، وأجهشَ بالبُكاء حتّى أسمعَ كُلّ مَن كان في الدار، فأشفقَ الشيخ محمود لِحالةِ ابنهِ، وطلبَ منَ الفتى - الذي شَردَ - وتأثّرَ بما سمِعَهُ: "يا عمّي أحمد إذهَبْ إلى عندِ امرأة عمّكَ، وقُلْ لها أنْ تُعطِيَكَ قارورة زجاجيّة، وتملَأها بالماء" لكنّ الفتى لَمْ يُحرّكْ ساكِناً، فنبّهَهُ الشيخ محمود مِن شرودِهِ، فتوجّهَ إلى المطبخِ، وعادَ، وبحَوزتهِ ما طلبهُ منه الشيخ، فيلتقطُها منهُ، ويبدأ بقراءةِ الفاتحةِ بصوتٍ أجَشٍّ، وبعدَها يُناجي ربَّهُ سِرّاً، وعندما ينتهي ينفخُ عليها، ويُعطيه إيّاها مشفوعةً بقولهِ لَهُ "اللهُمّ اشْفِهِ مِمّا هُوَ فيهِ بِحَقّ ِ يُوسُفَ وَأبيهِ"، فيأخذ الرجلُ القنّينةَ، ويستأذنُ مِن الشيخ محمود، ويقفلُ راجعاً مِن حيثُ أتى.
وتمرُّ سنةٌ كاملةٌ، وفي نفسِ موعِدِ الحَصادِ يأتي الرجلُ نفسهُ يجرُّ خلفهُ خَروفاً أقْرَناً، وعندما يصِلُ إلى منزلِ الشيخ محمود يلفُّ الحبْلَ حولَ عنقِ الشجرةِ الفيّاءةِ، ويصدحُ بصوتهِ الجَهْوَريّ؛ ليُهَروِل إليهِ نفسُ الفتى، فيتذكّرهُ من نبرةِ صوتهِ، وغلاظة هيئتهِ، ويقتربُ الغريبُ من جرّةِ الماء، ويحملها، ويدلقُ ماءها في فمهِ، ويعبُّ منها ما يروي غليلَهُ، وبعدها يطلبُ أخذَ الأِذنِ لرؤية الشيخ محمود سليمان حامد.
وكعادتهِ يجلسُ الشيخ محمود متربّعاً أرضَ الغرفةِ في زاويةٍ من زواياها، وفي كفّيْهِ كتابُ اللهِ يقرأُ فيه، وخلفَه طاقةٌ يتسلّلُ منها هواءٌ غربيُّ البرودةِ يرطّبُ جوّ الغرفة ويُنعِشُها، وبعد السلامِ، والاطمئنان، يُذكّرُ الشيخَ محمود باسْمِهِ، واسمِ قريتهِ، فيتذكّره.
جاء ماشياً على قدَمَيْه مِن قريته عشرات الكيلومترات، ليزفَّ للشيخ محمود خبرَ شِفاءِ ابنه المريض - المَيْؤُوسَة حالتهُ - ويبكي، ويبتسمُ في وقتٍ واحِدٍ، ويقول للشيخ محمود الذي لَمْ يتمالَكْ نفسهُ مِنَ الضَّحِكِ حتّى بَدَتْ نَواجِذُهُ:
"ابني صار مثل الفدّان".
وبعد أن يستريحَ مِنْ وعثاء السفر الطويلِ، والمُتعِبِ يُخرجُ مِن جيبَةِ سروالهِ أوراقاً نقديّة،ً ويحاولُ أنْ يُقبّلَ بها كفَّ الشيخ محمود، لكنّ الشيخ لا يقبَلُ، ويتعفّفُ، ويُشدّدُ الرّجلُ عليهِ مُتمنّياً ألّا يُخجلهُ، فيأمُرُ الشيخُ محمود الفتى "أحمد" بأنْ يستلمَ المالَ، ولكنّ الشيخ وقد وصَلَهُ ثُغاءُ الخروفِ، يطلب منه بأن يَجرَّهُ خلفهُ، ويُرجِعَه معهُ من حيث جاء، وبعدَما لاذَ الشيخ محمود إلى خَلْوَتهِ طلبَ منَ الفتى أحمد بأنْ يفرّقَ المالَ على الأطفالِ الفقراء في قرية دارين.
----------------------------------------------------
ـ الفتى أحمد هو الحاج أحمد حسين رمضان (رحمه الله).
وُلد سنة 1932م في قرية المُصلّى، وتوفي سنة 2021م، ودُفن في مقبرة الشهداء في جبل محسن - طرابلس/ لبنان.
- دارين قرية في سهل عكار - لبنان.
- فنيدق قرية جردية - عكار/لبنان.
- الرجل الغريب من الطائفة السّنّيّة الكريمة.
منقول عن كتاب (الشيخ محمود سليمان حامد تقيّةٌ وتَقوى - تأليف زين العابدين أحمد رمضان - 2022م).