كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عاصفة أيار العاتية منذ عقود طويلة

قيس يوسف:

عاصفة أيار العاتية منذ عقود طويلة جدا كما رواها لي جدي رحمه الله....
مما رواه لي المرحوم جدي عن ليلة لا تنسى في وقت غريبة عنه العواصف، وتحديداً ليل الرابع عشر من أيار، منذ ما ينوف عن الـ٨٠ عاماً حين كان جدي في بداية صباه، وسأصيغ ما رواه لي بصيغة فصحى أدبية:
وبدأت الشمس بالغروب ودكن السحب تتجمع على غير العادة غرباً وشمالاً.... وتتكدس بشكل يستغربه الناظرون لمثل ذلك الوقت من العام وهم الذين اعتادوا على رؤية مثيلاتها خلال أشهر الخريف والشتاء...
بدأ الليل يرخي أمواج ظلمته على كل شيء، وبدأت أضواء البروق المفاجئة تسطع لتنير جنبات الغمام وكل ركن في الأرض ومن الأفق وكل زاوية في الدور الترابية المترامية على سفوح الجبال ورضابها كاطفال تحتضنها آباؤها...
سُرّ الأهالي وفرحوا بالزائر السماوي الممطر على غير العادة، خصوصاً أن سفوح جبالهم ووديانها ملأى بالزراعات البعلية الصيفية من ذرة وبندورة وخيار وفاصولياء وحمص ولوبياء وغيرها....
وتأملوا ارتواء هذه النباتات الغضة العطشى بماء المزن، وارتياح بالهم من هم سقايتها بجلب الماء من الينابيع والآبار....
ولكن، وبينما هم في غمرة كل هذه الأحلام الزراعية البسيطة والآمال المعقودة على الغيث الأياري المنقذ حصل ما لم يكن في الحسبان....
فالامطار التي كانت تهطل بغزارة معقولة مع بعض البروق القوية قد باتت غزيرة جداً، واستحال معظم التهطال إلى برد راجم كثيف مع حلول منتصف ليل ذلك اليوم....
والبروق المتفرقة التي كانت تضرب بين الفينة والأخرى باتت متواترة لدرجة أن السماء باتت تتوهج كفلاش نور دائم، والرعود لا يدري سامعها أي بروق هي آباؤها لكثرة تزاحم طيور هزيمها في فضاء مهزوم بجنود هديرها...
وانتبه الأهالي المستيقظون مع الطبيعة إلى ضرورة إخلاء معزهم وغنمهم من خارج الدار المكشوفة /وهي العادة الريفية حين يأتي الربيع/ إلى داخل الدور حتى لا تهلك عن آخرها بسبب النوة الشديدة....
واستمرت الحال الرهيبة من شرر عاتيات الصواعق مع المطر والبرد حتى فجر وصباح اليوم التالي على ذات الوتيرة....
حتى اذا انبلج الصبح وسلت الشمس سيف نورها تفرقت جنرالات الرعود وانزوى جند السحاب وكأن شيئا لم يكن....
وآثار ما اقترفتها زوابعهم وحبات مطرهم وبردهم بادية في جثث المزروعات المجروفة في الأنهر والمسيلات والملقاة بقاياها على تلك الضفاف مع الحجارة والصخور...
مع جثث طيور الحوم (اللقلق) التي ملأت الارض، بعد أن باتت مغيب ذلك اليوم على سامقات غابات الصنوبريات، آملة أن تستنفر وتكمل رحيلها السنوي الموسمي صباح اليوم التالي صوب بلاد الشمال لتتكاثر هناك في الصيف وتعود، هي وأولادها، في الخريف إلى أوطانها الأصلية في الجنوب....
إذاً فعلها أيار، وتجلت في عين صحوه الصافية المعتادة تجهم سحب وسوط برق وغضب رعد أخيه كانون، وباتت طبيعته أثراً خاوياً بعد عينه العاتية الآتية بما لم يتوقعه الفلاحون....
ولكن كل المفاجأة كانت بعد كل ذلك الخراب الظاهر من حقول الذرة المحطمة وأزغف الخضار المهشمة كيف نبتت وفرعت من بقايا جذروها المرتوية بالمطر والمتجذرة بالأرض جدوراً وفروعا عديدة....
وكيف أرسل الله ريتي مطر بدون برد بعد تلك العاصفة بمعدل كل عشرة أيام رية مطر...
وكيف فاض ذلك المحصول من الذرة وجمعوا آنذاك ما يقرب من الـ٩٠ تنكة ذرة....
وما لا يحصى من قفاف وكيل الحمص والبندورة والخيار وسائر الخضار، على غير العادة...
فتصوروا غضب أيار وهو آخر أشهر الربيع ومقدمة حضور فصل الصيف كيف فعل بدقائق الطبيعة وكيف خبزها وعجنها، وأخرج منها أجمل وأغنى صور الرحمة و الخير والعطاء الأجزى...
رحم الله جدي وأجدادكم ورحم أيامهم...