كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"الزموحة"

طلال سليم- فينكس:

أركبتني أمي على حمارنا في ذاك الشتاء البارد، وقادتني نحو (بيدر الريحانة) لنقطع ورق (القطلب) لبقرتينا، ولأنني رفضت الذهاب معها بسبب المطر، والبرد، وبكيت علّها تتركني، أو تختار أحد إخوتي الصغار لكنها رفضت دموعي، وأصرت على أخذي أنا بالذات، ووعدتني أن تصنع لي (زموحة) من ورق القطلب إذا أتيت معها، وهنا فتحت عيني على عالم من الدهشة، ولأول مرة سأحصل على (زموحة*)، ولم أكن أعلم ماهي الزموحة سوى أنها تشبه زمر (أبو مرعي) الغجري.
كان الشتاء قارساً في ذاك العام، وحبال المطر تهمي مع رعود وبرق لايتوقف، تجمدت أصابعي قبل أن نصل ذاك الوادي السحيق، فما كان من أمي إلا وبدأت تنفخ بينهما، وتشدهما بأصابعها، وتعيد النفخ حتى تحرك بعض الدماء فيهما...
وما أن وصلنا ذاك المكان حتى صعدت أمي شجرة القطلب، وبدأت تقطع أغصانه، وأنا أنقلها نحو الأعلى لمسافة تزيد عن مئتي متر صعوداً بين أشجار السنديان، والشرد دون شعور بالملل أو الخوف من ذاك اليوم الماطر، والعاصف، فأمي معي، وهي ستصنع (زموحة) لي كما وعدتني، وبعد أن أنهت قطع القطلب وضعناه على حمارنا وربطناه جيداً، والمطر يقرع بقبضتي يده كل مكان في جسدينا المرتجفين. ثم رجوت أمي أن تصنع لي الزموحة....
مدت يدها وقطفت ورقة قطلب خضراء ودرجتها بين أصابعها، ثم أطلقت فيها أنفاسها فأعطت صوتاً غريباً لايمكن لأذني أن تنتشي بأي آلة موسيقة سمعتها طيلة حياتي كما انتشت من صوت (الزموحة)، نفخت فيها حتى شعرت أن المطر ينزل ليرقص على صوتها نفخت فيها نفخت، وكنت أرقص تحت المطر، والبرق على صوت صفيرها.
وصلنا البيت على ما أذكر، وثيابنا صارت غيمة تسح المطر، وما أن دخلت البيت، وأطلقت صفير (الزموحة) حتى رقص إخوتي الصغار على صوت هذه الآلة التي كانت اللعبة الأولى في حياتي، ورغم المطر، والبرد كان هذا هو اليوم الأول الذي شعرت به بالدفء والحر والحب.....
*الزموحة ورقة قطلب خضراء تدرج كلفافة تبغ، وعند النفخ فيها تطلق صوت زمور.
*القطلب شجرة متوسطية، تأكل أوراقها كل الحيوانات العاشبة.
*بيدر الريحانة أرض بعيدة عن القرية بحوالي أربعة كيلومترات، ويعود سبب تسميتها بهذا الاسم لكثرة شجر الريحان على ضفاف ساقيتها.
*الصورة المرفقة، بيدر دراسة قمح، وهو بيدر لا على التعيين.