كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الشطّوط

إحسان عبيد:

قديما كانت الناس تعتمد على تخزين المؤونة لفصل الشتاء، وكانت تشمل الألبان والأجبان والمقددات من الخضرة المجففة مثل البامية والبندورة والكوسا واليقطين، ولم يكن تخزين الزيتون دارجاً لأن هذه الشجرة دخلت منطقتنا حديثاً.
.
ثمة مؤونة أخرى يجري الاستعداد لها ولا يمكن تجاهلها، وهي مؤونة التدفئة، وكانت تعتمد بالدرجة الأولى على معالجة روث البهائم حيث يتم خلطه بالتبن والماء ويدعك بالرجلين جيداً وتحوله النسوة إلى طبابيع (مفردها طبّوع بحجم خمس حبات برتقال) ثم تترك الطبابيع لتجف تحت أشعة الشمس، وفي الخريف يجري تخزينها قبل حلول الشتاء.. وكانت صوبيات المازوت غير معروفة ولا يستخدمها أحد.
.
لم يكن البعض يكتفي بما عنده من مخلفات البهائم، بل كان يلحق عجّال البقر إلى البراري ليلتقط مخلفاته اليابسة، وكل صبّور (كومة صغيرة من المخلفات) اسمها شطّوط.. وكان اسم هذه المهمة (اللقُط).
.
قررت وصديقي سلمان أن نذهب غدا إلى اللقط، كل منا يحمل كيسا أبو قلم أحمر، ونركب حمارهم الأبرش الملعون، وهكذا فعلنا.. قَصَدنا مفالي البقر.. كربسنا قائمتي الحمار كي لا يهرب.. وبدأ كل منا يجمع شطاويط البقر اليابسة ويضعها داخل كيسه.
.
عندما صارت الأكياس مملوءة إلى الربع صارت ثقيلة.. كنا نترك الكيس مكانه ونبتعد قليلا باحثين عن الشطاويط.. وكان بيننا كلام شرف.. فإذا قال لي: الشطوط ذاك لي، فلا أنازعه عليه.. وبقينا كذلك حتى أوشكت الأكياس على الامتلاء.
.
جاء دور التحميل.. فالأكياس ثقيلة علينا كأطفال، والحمار عنيد وشرس، وكلما أوشكنا أن نضع أحد الكيسين على ظهره، يبدأ باللف والدوران فيقع الكيس..
.
غضب سلمان من حمارهم، فلبطه على ذلك المكان بين رجليه، ربما تألم الحمار كثيراً، وما أن انفتل سلمان إلى خلف الحمار حتى ناوله الحمار لبطتين، واحدة أصابت أضلاعه، والثانية راحت بالهواء، فانقلب سلمان على ظهره، وجاء ظهره على حجر، فازداد ألمه وصار يبكي ويتعصّر واضعاً يداً على أضلاعه، و يداً على الفقرات القطنية، وقد ازداد ألمه عندما شاهدني أضحك، فصار يشتمني بمسبات تتناولني شخصياً و لا تتناول أهلي، فصرت أكتم ضحكتي وأدير ظهري، وهو ينافخ ويبكي ومر علينا أكثر من ربع ساعة وهو ملقوح على الأرض.
.
لحسن الحظ شاهدتُ من بعيد رجلا محملاً بندكاً من الشيح على دابته فمشيت صوبه لعله يساعدنا.. استوقفته وأخبرته ما جرى معنا.. قال لي: إبق هنا.. اسند البندك.. وإياك أن يقع.. ذهب الرجل صوب سلمان.. داعبه بكلمات مازحة.. ضحك عليه، وقال له: أنت صرت شاباً وعيب على الشباب تبكي.
.
حمل الكيس الأول ووضعه على ظهر الحمار من الأمام، وحمل سلمان وأركبه وراء الكيس ثم حمل الكيس الثاني ووضعه فوق الأول أمام سلمان.. وأنا أمسكت مقود الحمار ومشيت بموكب سلمان.. ولما اطمأن الرجل على وضعنا استحث دابته وسبقنا.
.
قبل أن نصل القرية قال سلمان: قولك بكون الحمار بعدو زعلان مني.. معقول يلبطني مرة ثانية ويكسر رجلي أو إيدي؟.. قلت الله أعلم.. دير بالك منه، حماركم ملعون مطعون.
.
لم يمض على حديثنا خمس دقائق أثناء ولوجنا أزقة القرية، حتى خرج ولد مسرعاً من بوابة دارهم، راكضاً وراء طابة مصنوعة من الخرق.. وما أن رآه الحمار حتى جفل وقحص إلى الوراء وبدأ ينهق من الخوف والفزع، فوقع سلمان والأكياس على الأرض وجاء فخذه على صخرة مدموسة، يرتفع منها حوالي 10 سم فوق التراب.. فصار يتلوى من الألم من جديد، وصرت أضحك من جديد، وصار يشتمني من جديد، وتفازع المارون لتعديل الحمل من جديد.
.
أخبر سلمان أمه أنني السبب في الحادث الأخير، فلو كنت أمسك شكيمة الحمار بشكل قوي لما جفل، وكادت تصدقه لولا شرحي المفصل للواقعة.. وظل باركاً يوماً كاملاً دون أن يلعب معي، ثم تم الرضا لكنه بقي أسبوعاً يشكو الألم من أضلاعه، وظهره وفخذه.. وكان أول وآخر مشوار نذهب فيه على اللقُط.