كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"المَطاحِن المائيّة.. اندثرت وبقيَت حكاياتُها"

 عبد العظيم عبد الله – الحسكة – فينكس

قِصَص كثيرة وجميلة، وذكريات ارتبطت بالمطاحن المائيّة القديمة في مدينة "القامشلي" وريفِها، حيثُ كانت الحاجة لها كبيرة حينئذٍ.

وقد عُدّتِ المطاحنُ المائيّة من أبرزِ معالمِ الجزيرة السوريّة، وما يزالُ أهلُها ومَن عاصرَها يحتفظونَ بقصصِ خدماتِها الجليلة قبلَ أن تختفيَ منَ المَنطقة بشكلٍ كامل.

أجملُ اللحظات تلكَ التي تبقى خالدةً في مُخيّلة الحاجّ "صبري حاج دخيل" منذُ فترة السبعينيّات، أثناءَ الرحلاتِ التي تنقّلَ بها من قريتهِ إلى مطحنة "الوادي" المائيّة، ولهُ فيها قصَص وحكايا جميلة جدّاً، يروي بعضاً منها خلالَ حديثهِ لمنصّة "فينكس" بتاريخ ٦/٢/٢٠٢٢، قائلاً: "كانَ عُمري /١٥/ عاماً حينَ رافقتُ والدي، وأحياناً والدتي من قريتي في ريف "اليعربيّة" إلى قرية "الوادي" المُجاورة، حيثُ توجد فيها مِطحنة تعمل بقوّة المياه. لقد كانت أيام جميلة رغمَ ما حملتهُ منَ التعبِ والمشقّة وطولِ الانتظار، وحملِ الحُبوب على ظهرِ دابّة في الذهاب، والعودة بالطّحين في رحلةِ الإياب".

مَشقّة ومُعاناة ممزوجة بالمُتعة والسعادة، وبخاصّة أنَّ الكثيرَ منَ الناس يلتقونَ على الطرقات وأمامَ المَطحَنة. وهُنا يروي "حاجّ دخيل" اضطرارهُ لعدّةِ سنوات الخروجَ من قرية "الوادي" والسير على الأقدام مسافةَ /٦٥/ كم نحوَ مدينة "القامشلي" في سبيلِ الوصول لمِطحنةٍ من مطاحنها المائيّة، بهدفِ طحنِ إنتاجهم منَ الحُبوب، ويُتابع: "كنّا نقضي أيّاماً وسطَ أجواءٍ اجتماعيّة رائعة، ونحظى بكرمِ أهلِ المدينة وضيافتهم، أولئكَ الذينَ ما إن يعلموا أنّنا أتينا منَ الريف حتى تبدأ دعواتهُم لنا لنرتاحَ في منازلهم، ونأكلَ ونشربَ وننام، أيضاً إن دفعتنا الحاجة لذلك. لكن، في الحقيقة كنّا نقضي مُعظمَ الوقت بجانبِ المطحنة نسردُ الأحاديثَ والقصص، فتتحوّل جلساتُنا إلى مجالسَ للتعارُف والمحبُة، وكثيرةٌ هيَ العلاقات الاجتماعيّة التي تأسّست بجانبَ تلكَ المطاحِن، وهيَ باقية حتّى يومنا هذا". شمطاحن شخصية

توجّهَ أهالي المِنطقة في الماضي البعيد إلى إنشاءِ بعضِ المطاحن المائيّة في القُرى والمدينة لتأمينِ مادّةِ الطحين، كونَها ضرورة من ضروراتِ الحياة، ولم يكُن لها بديل في ذلكَ الوقت.

أمّا إنشاءُ المِطحَنة في مكانٍ ما فكانَ يحتاجُ أسساً ومزايا وتفاصيلَ مُعيّنة تحدّثَ عنها الباحث "أنيس مديوايه" لمنصّة "فينكس" بتاريخ ٦/٢/٢٠٢٢ مُبيّناً أنَّ المطاحنَ كانت تُبنى بجانبِ منابعِ الأنهارِ المُنتشرة في المدينة والريف، لذلكَ نرى أنَّ المطاحن توزّعت في أكثرَ من نُقطة، وبخاصّة في مدينةِ "القامشلي" التي كانت مُعظمُ مطاحنِها تُغذّى من إحدى روافدِ نهر "الجغجغ"، وقد استخدمت في بنائِها الحجرَ الأسود والإسمنت، وبعدَ الحفر توضع كلّ قطعة في مكانِها، فالبِئر في أعلى مُنتصف المِطحنة، تمتلِئ بالماء منَ النهر الجاري، وفي أعلى البئر (فراشة) حديديّة تستقبل الماء بقوّة، كي يدورَ (الميل) في أسفلِ البئر، فتتحرّك (الفراشة) بشدّة، وتقوم بتحويلِ القمح إلى طحين بالخشبة الصغيرة التي تدقّ أسفل (الدلو)، فيُوضع الطحين في المكان المُخصَّص بالقُرب منَ (الفراشة)".

ويشير إلى أنَّ العملية بأكملِها تحتاجُ ضغطَ الماء بالدرجة الأولى، ولا تحتاجُ إلّا إلى عاملٍ واحد يؤدّي مراحلَها. أمّا المرحلة التي تحتاجُ إلى جَهدٍ أكبر فهيَ مرحلةُ الحفر، حيثُ يكونُ الحفرُ ضمنَ مساحةٍ كبيرة ومسافةٍ طويلة، ليتمَّ سكبُ المياهِ بقوّة على (الفراشة) الحديديّة.

ويلفت إلى أنّهُ كانَ يتعاون في هذهِ المرحلة أهالي المنطقة التي تُبنى فيها المِطحَنة، مؤكّداً جماليّةَ طقوسِها الاجتماعيّة بدءاً من توجُّهِ الأهالي للعمل قبلَ بزوغ الفجر، وأحياناً يعودونَ لمنازلهم معَ غيابِ الشمس، وربّما ينتظرونَ يوماً أو أكثر، فقد كانَ هناكَ نظامٌ للدّور على المَطاحن.

ومعَ مُرورِ الزمن، وتوفُّرِ المطاحنِ الحديثة والمخابز والآليّات في المنطقة اندثرت تلكَ المَطاحن ولم يبقَ لها أيُّ أثرٍ إلاّ في ذاكرةِ مَن عاشَها.

تبقى تلكَ المطاحن المائيّة لوحةً جميلة من تفاصيلِ الجزيرةِ السورية، حيثُ يعدُّها الأهالي عُنواناً من عناوينِ المحبّةِ والتآخي القائم فيما بينهُم حتى الآن.