كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سمّيعة "حلب".. مانِحو "عبد الوهاب" جوازَ الغِناءِ على مسرحِهم

 

زهير النعمة– حلب– فينكس

نالت مدينةُ "حلب" لقبَ عاصمةِ الطرب الأصيل "بالقُدود والمُوشَّحات"، وباحتضانِها كبارَ الفنّانينَ المحليّينَ والعرب الذينَ زاروها، ودرسوا وتعلّموا فيها أصولَ المُوشَّحاتِ، والقُدود، والموّال، والتواشيح والأذكار.

ونشطت المدينة بفترة الخمسينيّات والستينيّات كواحدةٍ من أشهرِ مراكزِ الغناءِ العربيّ الأصيل، بسببِ موقعِها الجغرافيّ المُهمّ كنُقطةِ التقاءِ الحضارات، ومركزِ اتّصالٍ بينَ الشرق والغرب، ومحطِّ رحالِ التجّارِ والسيّاح، ومن الدُّول المُجاورة والشُّعوب كافّة.

وللفنّ الحلبيّ التراثيّ أهميّته، وقد حافظَ على قيمةِ القدودِ والمُوشّحات، وقامَ السّمّيعة الحلبيّونَ في السّابق والزمن الحاليّ دوراً كبيراً في الحفاظِ على هذهِ النغماتِ والأوزان.

ويذكرُ التاريخ أنَّ أهالي مدينة "حلب" اشتُهِروا بغناءِ (الموّشحاتِ والقُدودِ والتواشيحِ الدينيّة والمولويّة) وإحيائها، كما برعوا بها، وقدّموها للفنّ العربيّ أحسنَ تقديم، واجتهدوا في الحفاظِ على هذا الموروثِ الفنيّ بقالبٍ وطابعٍ فنّي نظيف.

ويُعدُّ المُوشَّح من أهمِّ أنواعِ التراث الفنيّ الذي حافظَ عليهِ أهلُ "حلب"، ومن أرقى المُؤلَّفات الغنائيّة، ويقول عنه د. "فؤاد رجائي آغا القلعة" في كتاب "كنوزنا": «انتقلت موسيقا الأندلس إلى المشرِق عبرَ المُوشَّحات، لكنَّهُم لم يُغنّوها بطريقةَ نظمَها، بل اكتفوا بطريقةِ غنائِها، فقطّعوا الإيقاعَ الموسيقيّ على الشعرِ والأزجال، وجعلوا البيتَ الأول بمثابةِ قفلِ الموشّح، وأسمَوهُ "دَوراً"، والثاني "خانة"، وأطلقوا على البيتِ الأخير "غِطاء"».

ومنذُ القرن التاسع عشر أصبحت "حلب" مركزَ إشعاعٍ للموسيقا وفنونِها، ومَوطِنَ رجالِها الذينَ نالوا شُهرةً كبيرة في سائرِ البُلدانِ العربيّة، وكانَ المُطربونَ العرب يشعرونَ برهبةِ الغناء فوقَ مَسارحِ "حلب" وأمامَ جُمهورِها خِشيةَ وقوعهم في زلّةِ فنيّة سريعة تُحسَب عليهم، ولا يُمكنُ غُفرانُها.

ومن أهمِّ أعلامِ الغناء في الأربعينيّات برزَ اسمُ المُطرب "محمد خيري"، و"أحمد عقيل" الذي اشتُهِرَ بالغناءِ والموسيقا إلى جانب "عمر البطش"، و"علي الدرويش"، و"توفيق صالح"، و"كميل شمبير"، و" بكري الكردي"، و"فؤاد حسون"، و"مجدي العقيلي"، و"سامي الشوا"، وغيرهم الكثير.

وحضرَ إلى "حلب" فنّانو "مِصر" للغناء، ولاكتشافِ طبيعةِ هذا الكنز الفنّيّ الدفين الذي تحتويهِ هذهِ المدينة، ومنهُم "سيّد درويش"، و"صالح عبد الحي"، و"محمد عبد الوهاب"، و"سلامة حجازي".

وفي كتاب "حلبيّات" يقول الباحث "عبد الله يوركي حلاق" عن أهمّيّةِ الطرب الحلبيّ وعراقتِه، مُقتبِساً من رأي المُطرِبة الكبيرة "أم كلثوم": «أهلُ "حلب" لهُم آذان موسيقيّة سليمة تميّز النغمة الصحيحة منَ النشاز، فهُم فنّانونَ بالفِطرة، يُصغونَ إصغاءً تامّاً للصّوتِ الرخيم واللحنِ الجميل والأداءِ المُتقَن».

"أهلُ "حلب" سمّيعة بالفِطرة"

منذُ أربعينيّات القرن الماضي كانَ الحاجّ "صبحي زين العابدين" يجمعُ نجومَ الطّربِ الحلبيّ في منزله، واستمرَّ بذلك حتى وفاتِه في عام /١٩٧١/، واشتُهِرَت تلكَ السَّهَرات التي كانت تُقام كلَّ يومِ (سبت) باسمِ "السبتيّة"، وكانت سهراتٍ عامرة بحُضورِ كبارِ أهلِ الفنِّ والطربِ الحلبيّ أمثال "عمر البطش"، و"بكري الكردي" الذي لحّنَ أغنية "ابعتلي جواب وطمّنّي".

واستمرّت تلكَ السَّهرات بمُحتواها وقيمتِها الفنيّة حتى أوائل الثمانينيّات، وتابعَ ابنهُ "يحيى" إقامةَ هذه "السبتيّة" حتى بعدَ وفاةِ والده. وقد كانت تُقامُ صيفاً وشتاءً، وتبدأ منَ السّاعة /٩/ مساءً، وتمتدّ حتى موعدِ آذانِ الفجر. أمّا شتاءً فتكونُ في غُرَفِ البيت العربيّ المُغلَق، وكانَ يصلُ عددُ الحضور أحياناً لحوالي /٥٠/ شخصاً، والضيافة الرسميّة عادةً ما تقتصرً على كاساتِ الشاي.

وكانَ يحضرُ سهرات "السبتيّة" أعلامُ الطربِ الحلبيّ مثل "صباح فخري"، و"صبري مدلّل"، و"حمام خيري"، و"حسن الحفّار"، و"نهاد نجّار"، و"أبو سلمو"، و"أديب الدايخ" الذي برعَ بغناءِ القصائد، يُرافقهُم العازفون أمثال "محمد قدري دلال"، وعلى القانون الراحل "حسان تناري"، ويجتمع المطربونَ والموسيقيّون ليغنّوا ويَعزفوا بحضورِ السّمّيعة.

و "للسّمّيع الحلبيّ" مُواصفات مَحدّدة بأذنٍ موسيقيّة، وفهمه للمَقامات، ولأقسامٍ المغنى الحلبيّ السّبعة، وهيَ (القدّ، والطقطوقة، والمُوشَّح، والدَّور، والقصيدة، والأغنية، والارتجال)، كما أنَّ "السمّيع" يكون ذا إحساسٍ ومزاجٍ عالٍ.

وقد كانَ يحضرُ تلكَ السّهرات رجالُ الدين (مُسلمون ومسيحيّون)، وكِبارُ تجّارِ سوق المدينة، وعددٌ منَ الأطبّاء والمُهندسين والشُّعَراء. ومن أهمِّ الحضور الطبيب الراحل والباحث الموسيقيّ "إحسان الشيط"، وكذلك الطبيب "سمير أنطاكي"، و"عامر شيخوني"، و"رضوان حوكان"، ومنَ السيّدات "ندى بازرباشي"، و"أميّة الزعيم"، كذلكَ كانَ منَ الحضور الدكتور "سعد الله أغا القلعة"، و"مُنيب صائم الدهر"، والأديب الراحل "عبدالله يوركي حلاق"، أمّا من "دمشق" المُحامي والباحث "نجاة قصاب حسن"، ومنَ "الرقة" الطبيب الأديب "عبد السلام العجيلي". وكانت هذهِ السّهرات تُسجَّل على أشرطة "كاسيت"، ومن أهمّ السّمّيعة حينئذٍ ممّن ذاعَ صيتهُم "فاتح أبو زيد"، و"مهند علوان"، وقد كانَ الأخير من كبارِ التجّار في سوق المدينة.

الباحث د. "أيمن سيد وهبة" بيّنَ لمنصّة "فينكس" أنّهُ لا أحدَ يستطيع أن يُنكِر أو يتجاهل الدّورَ الذي قامَ بهِ فنّانو وسمّيعة "حلب" في حفظِ هذا التراث والكنز الفنّي الثمين منَ المُوشّحاتِ والقٌدود، والذي وصلَ إلى مَشارقِ الأرضِ ومغاربها، وتناقلهُ كِبارُ المُطربينَ العرب من "حلب" إلى بُلدانهِم، وغنّوهُ فوقَ مَسارحهِم، ليبقى هذا التراث في طليعةِ الفُنونِ والغناءِ المحلّي حتَى بعدَ مِئاتِ السّنين.

أمّا "عبد الخالق قلعة جي" الباحث الموسيقيّ ومُدير إذاعة "حلب" قالَ لمنصّة "فينكس": «لم تحظَ مدينةٌ في العالم كما حَظِيَت "حلب" من اهتمامٍ أدبيّ وموسيقيّ وتجاريّ وفكريّ، فهيَ منذُ آلافِ السنين كانت حاضنةً للغناءِ والموسيقا، من خلالِ مدرستهِا المُتفرّدة، فعندما تكونُ في "حلب" يعني أنّكَ معَ فنّان أو روح تجعلكَ تطرَب للفنّ. ومعَ هذهِ الخُصوصيّة أصحبت المدينة قُبلةً لكبارِ الفنّانينَ المحليّينَ والعرب، ومحطَةً وجوازَ عبورٍ إلى قُبولِ الجُمهورِ بهم، بعدَ أن تمنحَهُم شهادتَها وقُبولَها ورِضاها. ولا تزالُ الذاكرة حاضرةً تسترجعُ قصّةَ زيارةِ الموسيقار "محمّد عبد الوهاب" لمدينةِ "حلب" وغناءَهُ أمامَ ثُلّةٍ منَ الأسماءِ وأعلامِ "حلب" وسمّيعتِها، وكانَ عددهُم قليل لا يتجاوز أصابعَ اليد، وقد أبدى استغرابَهُ من ذلكَ مُتسائِلاً إن كانَ هذا هوَ جُمهورُ "حلب" الذي سَمِعَ عنهُ الكثير، ليكونَ الردّ والحُضور الحقيقيّ في اليوم التالي، وأثناءَ غنائهِ فوقَ خشبةِ المسرح، حيثُ امتلأَ المسرح عن بُكرةِ أبيه بعدَ أن أجازَ سمَيعة "حلب" للضّيفِ الغناء.

والسّمّيعُ الحلبيّ وفقَ "قلعه جي" يتّصف بكثيرٍ منَ الإصغاءِ العميق، والدّقّة، والحُكم القاسي، والتركيز على ما يُقدَّم، ولا يقبل إلا السويّة العالية، ليبدأ بعدَها بالتجارب معَ الغناء، مُمسِكاً للإيقاعاتِ، ومُستمتِعاً بالنغماتِ وتنقُّلاتِها وقفلاتِها، لتنطلقَ بعدَها الحناجر (زيد، عيد، ما سمعنا، هلّق جينا)، معَ حالةٍ منَ السَّلطَنة تأخذُ السمّيعَ إلى أجواءَ بعيدة منَ النشوةِ والاستمتاع.

ويُتابع "قلعه جي" واصِفاً سمّيعة "حلب" بأنّنا نجدهُم في صالاتِ المَسارحِ والأماكنِ التي تُقامُ فيها الحفلاتُ والبيوتُ الحلبيّة العتيقة، والتي كانت تُحيي السَّهَرات التراثيّة على مدارِ الأسبوع، وتُسمَّى "الزوايا" و"التكايا"، ويذكُر منهُم "الحفّار"، و"الصيّادي"، وبيت "مشمشان"، والهلاليّة المولويّة في أحياء "حلب" القديمة التي جاءَها الغيث، فسقى العِطَاش خمرةً للرّوح، ومالَ القلبُ فيها للجمال. سميعة2

أمّا الباحث الموسيقيّ "ماهر موقع" فقد قال: «مفهوم السمّيعة في مدينة "حلب" مفهومٌ تاريخيّ قديم، فقد كانَ يهتمُّ بالتراثِ الموسيقيّ من فنَّ الموشحات والقُدود التي كانت في غالبيّتِها ذاتَ طابَعٍ دينيّ نتيجةَ (الزوايا والتكايا)، والتي كان يتردّدُ عليها أغلبُ المُواطنين، لينشأَ جيلٌ منَ المُتعلّمينَ لهذهِ القُدودِ والتواشيحِ الدينيّة ممّن تعلَّموا المَقاماتِ والأوزان، والتمييزَ بينَ الصّوتِ الجيّد والرديء. ومن هُنا نشأَ تاريخيّاً في "حلب" ما يُسمَّى أنَّ أهلَها سمّيعةُ طربٍ منَ النوع المُرّ، وهُم منِ اختصَّ وبرعَ في القُدودِ والمُوشَّحات، وطوّرها منَ المعاني الدينيّة إلى العاطفيّة، عندما وضعوها على القدّ تماماً وفقَ أنماط موسيقيّة بمعانٍ جديدة وبالألحانِ نفسِها».

وأشارَ "موقع" إلى أنَّ "حلب" تعدُّ مركزَ تلاقٍ لكلِّ شُعوبِ المِنطقة، وجسراً تجاريّاً ربطَ "آسيا" معَ "أوروبا"، والشّرقَ معَ الغرب، واجتمعَ فيها التجّارُ والشُّعراءُ والمُطربونَ والمُوسيقيّون، وخُلِقَ جيلٌ كبيرٌ من أهلِها يستطيعُ التمييزَ بينَ الأدوارِ والمَقاماتِ والمُوشّحات، وبالتالي كانَ الحلبيّ سمّيعاً بالفِطرة، يستطيعُ تميزَ أداءِ وجودةِ غِناءِ المُطرب بسهولة.

ويرى "موقع" أنَّهُ حتّى بائعُ الخُضار في "حلب" يروّج لبضاعتهِ بأنغامٍ ومقاماتٍ تُطربُ السّامعين، وحتى يُمكنُ رفعُ الآذان بعدّةِ مقامات لا يختلُّ فيها الوزنُ الموسيقيّ. ويلفت إلى أنّهُ في "حلب" توجد جلساتٌ طربيّة تُسمّى "صبحيّة" و"عصريّة" و"مسويّة"، وجلَساتُ البساتين والمَقاهي أيضاً.

ويُضيف: «لا تغيبُ عنِ البال قصّةُ حضورِ الموسيقار الكبير "محمّد عبد الوهاب" إلى مدينةِ "حلب"، وكانَ لديه موعدٌ مُتّفقٌ عليه معَ المٌتعهّد لحفلتَين يومي (الخميس والأحد)، وفي السّهرة الأولى حضر /٤٠/ رجلاً من أهلِ الطرابيش، جالسينَ على كراسي القشّ العتيقة. وهُنا استغربَ "عبد الوهاب" من قلّةِ الحُضور ماسكينَ الوزنَ بأقدامهم، وحسبما روى ووصفَهُم "عبد الوهاب" بلسانه ماسكين (عالوحدة)، وردَّ عليهِ مُتعهّد الحفل (مثل ما اتفقنا أنت لك أجر حفلتين). ليشاهد الحُضور الحقيقيّ للجُمهور في الحلفة الثانية والعدد الكبير الذي لم يتّسع لهُ المسرح. وعندما عادَ بالسؤالِ عن تفاصيلِ الحفلة الأولى قالوا له (هؤلاء كانوا شيوخَ السمّيعة التي أعطتكَ صكَّ النجاحِ والغناءِ على المسرح في اليومِ الثاني)».

ومنَ العبارات التي تُردَّد على لسانِ السمّيعة (آه، يا عي، يا سلام، ما سمعنا شي ها).

ويعدُّ غالبيّةُ أهاليِ "حلب" سمّيعة بالفِطرة، ويُعرَف أنَّ الفنان الكبير "صباح فخري" كانَ لا يَطرَب إلّا بحضورِ سمّيعة "صبحيّة ماملي"، كما أنَّ كلَّ مشايخ "حلب" الفنيّين غالبيّتهُم مُنشدون، وأصبحوا بعدها مُلحّنين، من أمثال "علي الدرويش" و"عمر البطش".

وكانت وما تزالُ مدينةُ "حلب" عاصمةَ الطربِ والغناءِ العربيّ، تُخرّجُ أجيالاً فنيّةً أصيلةً مُتواصلة من معاهدِها ومدارسِها، قادرةً على الاستمرارِ، ورفدِ الفنِّ العربيّ بشلّالٍ فنّي وموسيقيّ لهُ مكانتهُ وقيمتُه.

ممّا سبقَ في التحقيقِ والبحثِ الذي أجرتهُ "فينكس"، وبعدَ سماعِ شهاداتِ أهلِ الكارِ والخِبرات بقيمةِ الفنّ والطّرب الحلبيّ وأهمّيتهِ من خلالِ القُدودِ والمُوشّحات كفنٍّ تراثيٍّ عريق، كلّ ذلكَ حدا بأعلى مُنظّمة تُعنى بشؤونِ التربية والتعليم والثقافة والفنون "اليونسكو" إدراج "القُدود الحلبيّة" على لائحةِ التراث الإنسانيّ اللامادّي، كجائزةٍ مُنصِفة ومُستحقّة لشيوخِ الفنَّ الحلبيّ وعمالقته.