كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أمثالُ شهر شُباط.. مَوروث تتناقلهُ الأجيال

فادية مجد – طرطوس – فينكس:

تُعدُّ الأمثال الشعبيّة مخزوناً تراثيّاً من أعرقِ فُنونِ القول لدى البشريّة جمعاء، وفيها تتراكمُ تجاربُ الشعوب وخبراتُها بكلّ تنوّعها وتناقُضاتِها. والأمثالُ فنٌّ قديم، يعدّهُ البعض حِكمةَ الشعوب ويُنبوعَها الذي لا ينضُب، وقد صِيغت انطلاقاً من تجاربَ وخِبراتٍ وحكمة رسّختها الشّفاه الشعبيّة نِتاجاً جماعيّاً يتناقلهُ الناس مُشافهةً أو كتابة، بعضُها أفرزتهُ حكايةٌ شعبيّة أو نكتة لا يُعرَف قائلُها، وبعضُها الآخر مُقتبس عن الفُصحى معَ ما يصحب هذا الاقتباسَ من تحريفٍ وتعديل. ولشهرِ شُباط حصّة في الأمثالِ الشعبيّة التي ما نزالُ نردّدُها حتى يومنا هذا.

منصّة "فينكس" تواصلت بتاريخ ٢٣/١/٢٠٢٢ مع أ. "نزيه عبد الحميد" الباحث في التراث الشعبيّ، والذي قالَ عنِ الأمثال بأنَّها جُمَلٌ مُفيدة قصيرة يغلبُ عليها السّجع، الأمر الذي يُعطيها جَرساً موسيقيّاً يُسهّلُ حفظَها وتداولَها بينَ الناس، نزيه عبد الحميد وقد عالجت موضوعاتُها مُختلفَ مناحي الحياة، فهيَ إجماعٌ للذاكرة الشعبيّة الجماعيّة. وفيما يخصّ شهرَ "شباط" والأمثال التي قِيلت فيه استعرضَ "عبد الحميد" بعضَها، ومِنها (شباط إن شبط أو لبط.. روايح الصّيف فيه)؛ ومعنى (شبط ولبط) وفقَ الباحث أنَّ الطقس أصبحَ سيّئاً، مُشيراً إلى أنّهُ خلالَ الانفراجات الطقسيّة التي تحدث في "شباط" يعتقد الناس أنَّ البرد قد ولّى، ويشمّونَ رائحةَ الصيف في شمسهِ التي غالباً ما تكونُ قويّة.

أيضاً منَ الأمثال (شباط ما على كلامه رباط)؛ حيثُ يتقلّبُ الطقس فيه بينَ أمطارٍ ورياح في بعضِ الأيام، وأجواء مُشمسة حادّة في أيّامَ أخرى، ثمَّ يعودُ البردُ والأمطارُ مجدداً، لذلك عدّوا أنَّ شهرَ "شباط" لا يلتزم بالكلمة التي يقولها. ومنَ الأمثال أيضاً (قلّو ليش يا شباط ما بتجي بآدار، قلّه كلّ شي بوقته حلو)؛ وهذا المثل يُقال لمَن يستعجل أمراً قبلَ أوانه، أو يطلب شيئاً لم يجهز بشكلٍ جيّد بعد.

ومَثلٌ آخر يقول (شمس شباط لكنيناتي وشمس نيسان إلي ولبناتي)؛ ويعني هذا المثل كما يوضح "عبد الحميد" أنَّ شمس شهر "نيسان" ألطف بحرارتِها من شمس الصيف، وهيَ لا تضرّ جسمَ الإنسان الذي يتعرّض لها، إذ يكون قد اعتادَ على حرارتها في شهري "شباط وآذار" السابقَين، لذلك تتمّناها المرأة لها ولبناتها، فيما تتمّنى شمس "شباط" لكنّتها التي تعاندُها وتستأثر بابنِها.

أمّا المُهندسة المُتقاعدة "سميّة حسن" والمُهتمّة بالتراث الشعبيّ، والتي تواصلت معها "فينكس" بتاريخ ٢٧/1/٢٠٢٢ قالت: «ارتبطت الأمثال الشعبيّة ارتباطاً وثيقاً بحياةِ الناسِ وأحوالهم وأعمالهم وعاداتهم، ولهذا كلّه كانت تقويماً لكلّ شهر من أشهُر السنة، وتذكرةً لما ينبغي القيامُ بهِ من أعمال زراعيّة، كموعد الزراعة أو الحصاد، أو كتنبيهٍ لأمرٍ مُناخيّ، أو التحدُّث عن ظواهر اجتماعيّة وعادات وتقاليد تُمارس فيه، وغيرها».

وأشارت "حسن" إلى أنّهُ وعلى الرغم من تقادُم السنين، مازالَ كبارُ السنّ يُولونَ أهميّةً كبيرة لكلّ شهر من شُهور السنة، ومازلنا نردّدُ الكثيرَ منَ الأمثال الشعبيّة التي حفظناها عن آبائنا، فهي تراثُنا الذي لا يموت. وفيما يخصّ شهر "شباط" والأمثال التي قيلت فيه قالت: «يتميّز هذا الشهر بتقلّبات الطقس فيه، وكان يُدعى عندَ عامّةِ الناس "بالشّهر الأعور" بسببِ عددِ أيّامه التي تقلّ عن /٣٠/ يوماً، وقد تناولَ التراث الشعبيّ في دول بلاد الشام شهر "شباط" من خلالِ العديدِ منَ الأمثال الشعبيّة».

وتُضيف: «منَ الأمثال الشهيرة التي تتحدّث عن تقلُّب أيّام شهر شُباط بينَ المُشمسة والماطرة والدافئة والباردة، وما يرافقُها من صفاتٍ تُميّز هذا الشهر بكثرةِ تقلّباتهِ عن بقيّةِ الأشهُر قولهم (راح العاقل كانون وإجا شباط المجنون)، و(شباط غيمو وهواه أحسن من شمسو وشتاه)، و(الصيت لشباط والفعل لآذار)، و(شباط أوعالو لا يغرّك اعتدالو)، و(مثل غيمة شباط كلّ ساعة عقلو شكل)، و(الصّيت للمربعانية والفعل لشباط)؛ والأخير يعني أنَّ فعلَهُ وتأثيرَهُ أشدّ وأبرد من أيّام المربعانيّة المعروفة بشدّة برودتِها».

من جهتهِ أشارَ الباحث "غسان القيّم" بتاريخ ١/٢/٢٠٢٢ إلى أنَّ تراثَنا الشفويّ بكلّ ما يملِك من أصالةٍ وجُذورٍ عريقة، وما طرأَ على حياتِنا من تغيُّراتٍ وتبدّلات، نراهُ اليوم معَ الأسف قد بدأ يهوي إلى قاعِ الذاكرة، وقد علاهُ الزمن وتقادمَ عهدُه وهدّدهُ النسيان،القيّم ولكن هناكَ مَن يُوقظهُ أحياناً من سُباته، حيثُ تطيبُ السّهرات معَ المُحبّين وتطول، وتزدادُ دفئاً وحنيناً باستحضارِ الأمسِ البعي. مُضيفاً أنَّ "شباط" من جذرِ "شبط" السّرياني الذي يُفيدُ الضّربَ والجَلدَ والسَّوط، وهوَ الشهر الثاني من شُهور السنة الميلاديّة وفقَ الأسماء العربيّة الفُصحى الواردة في المعاجم العربيّة. كما أنّهُ أقصرُ الشهور، والذي يبلغُ عددُ أيّامه (28) أو (29) يوماً، لافِتاً إلى أنّهُ يكونُ (29) يوماً في السّنة الكبيسة، وذلكَ في السنين التي يُمكن قسمتُها على /4/، ما عدا ذلك فإنَّ الشهر (28) يوماً. مُوضحاً أنّهُ يُسمّى "فبراير" في "مصر" و"السودان" و"المغرب" وبعض دُوَل الخليج، في حين يُسمّى "شباط" في "بلاد الشام" و"العراق" و"فيفري" في "تونس" و"الجزائر".

ولشهرِ "شُباط" في نفوسِ العجائز وقعٌ مٌخيف، ولهذا عندما يذهب شهر شباط يعبّرونَ عن فرحتهم بانتهائهِ دونَ موتهم، فيقولون (راح شباط ودقّينا خلفه بالمخباط)، فسمِعَهُم "شباط" وغضبَ من كلامهم، واستنجدَ بابن عمه آذار قائلاً (أربعتن منّي وتلاتن من ابن عمّي لخلّي العجوز بالمي تولّي). ويُتابع "القيّم": "ومنَ الأمثال الشعبيّة التي تُقال كنايةً عن انتهاءِ تقلُّبِ الطقس في هذا الشهر (راح شباط الغدّار وإجا آذار الهدّار)، وعن مُناسباته أشارَ إلى أنَّها كثيرة، منها الأوّل من شُباط، وهوَ بداية خمسينيّة الشتاء، والقسم الثاني من فصلِ الشتاء والتي تستمرّ (50) يوماً، أيضاً هناكَ (سعد ذابح)، ويستمرّ من /1/ شباط الى /13/ منه، أمّا تاريخ /2/ شباط فهوَ مٌناسبة دخول السيّد المسيح إلى الهيكل.

"حسن إسماعيل" الباحث في التراث الشعبيّ أشارَ بتاريخ ٢/٢/٢٠٢٢ إلى أنَّ حياةَ الناس في الريف مُرتبطة بالمُناخ، وبالتالي فإنَّ مواسمَ الزراعة ومواعيد الرّيّات لها أهميّةٌ كبيرة، فإذا اختلفت مواعيد الرّيّات وقعَ الناس في خسارةِ مَواسمهم. ولهذا كلّه اعتمدَ الناس على تأليفِ أمثال شعبيّة يحفظُها الجميع للتذكيرِ بمواعيدِ زراعتهم،حسين اسماعيل ومواعيدِ جني محاصيلهم على مدارِ السنة كزراعة البقول (الحمّص والعدس والبازلاء) التي تكون في أواخر شباط وأوائل آذار. وممَّا قيلَ في شهر "شباط" وفقَ "إسماعيل" (لمّا شباط إجاني تخبّيت بالقراني)، وهوَ كناية عن خوف العجائز منَ الموت في شهر شُباط، كما قالَ كِبار السنّ أيضاً (شباط بأيّامه القاصرة بيخوّف الختايرة)، وذلكَ لعدم قُدرتهم على تحمُّل برودته.

ومنَ الأمثال أيضاً (الشّغلة الفلانية .. أصعب من نقمة شباط)، حيثُ يرى الناس قديماً أنَّ هذا الشهر ينتقم منَ البشر والطّبيعة لأنّهم جعلوا أيّامهُ (٢٨) أو (٢٩) ليُصبحَ أقصرَ شُهور السنة.

بدورها المُعلّمة المُتقاعدة "جُمانة حرفوش" ذكرت بتاريخ ٣/٢/٢٠٢٢ ما تحفظهُ من أمثال شعبيّة عن شهر "شباط"، فقالت: «لكلّ شهرٍ من شُهور السنة أمثال قِيلت فيه وأصبحت جُزءاً من ذاكرتنا وتراثِنا الشعبيّ، ومن تلكَ الامثال (بشباط بنلمّ البيض عن البلاط)؛ والمقصود به يزدادُ إنتاجُ البيض بسببِ بدءِ الدفء وكثرةِ المرعى، وهُناكَ (شباط فروته مخزوقة) بمعنى أنَّ الغيمَ فيه ليسَ كثيفاً، و(غيمة شباط ولا صحوة كانون)؛ والمقصود به أنّ شباط غيمهُ مُتقطّع وليسَ مُخيفاً ومُباغتاً، و(بشباط الدَروة أحسن من الفروة)؛ ويُقصد بهِ أنّهم يستطيعونَ أن يجلسوا في ظلّ شجرة أو بناء دونَ حاجتهم لارتداءِ لباسٍ أو فرو. وأضافت "حرفوش": «منَ الأكلات الشعبيّة التي ارتبطت بشهرِ شُباط أكلة (الشّواف الشباطي) والذي يُقطَف بدءاً من شهر "تشرين" ويبقى حتى نهاية "شباط" من دونِ أن يُحفظَ في البرّاد، ويُصنع منهُ أكلاتٌ متنوّعة (كالبرغل بشوّاف وقراص بشوّاف ومحموسة».جمانة حرفوش كما ارتبطَ هذا الشهر بلُعبةٍ اسمُها (المَحدوب أو المشتك) فتقول: «كنّا نلعبُها تحديداً في شهر شباط، حيثُ تكونُ تربةُ الأرض طريّة بعدَ موسمِ الأمطار، ويختارُ كلُّ لاعب عصا لها رأس مُحدَّب، طولها حوالي نصف متر، وبثخانة /3 إلى 5/ سم، ويقومُ اللاعب الأوّل بضربِ عصاه في الأرض، بحيثُ تنغرس فيها، ثمَّ يضرب اللاعب الثاني ثمَّ الثالث، فإذا أوقعت العصا التي ضربها أحدَهُم دونَ أن تنغرس، أو إذا انغرست وأصابَها اللاعب الثاني أو الثالث بعصاه أثناءَ لَعِب أحدهما فهوَ الرابح».

إذاً، يبقى شهر "شباط" من الأشهُر المُميّزة في السنة، يتميّز بأجواءٍ نعيشُها بأملٍ وحُبٍّ به، وأمثالهُ الشعبيّة هيَ أكثرُ ما نحفَظ ونُردّد، تلكَ الأمثال الشعبيّة التي قدّمت لنا عُصارةَ مُختلفَ التجاربِ السابقة لآبائِنا وأجدادِنا، وكانت مُتنفَّسَهُم المُعبّر عن أحوالهِم وصورةِ حياتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة في ذلكَ الزمن، وقد تناقلَها الآباءُ عنِ الأجداد كتُراثٍ شفويّ، وسنبقى كجيل نُردّدهُ كموروثٍ شعبيّ وجُزءٍ من ذاكرتِنا وتُراثِنا الجميل وهُويّتنا التي نعتزّ بها.