كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"الساكينو"... الجماعات التي لعبت دوراً مميزاً في المجتمع الأوغاريتي

د. غسّان القيّم:
 
أفادتنا الوثائق الكتابية المتوفرة لدينا عن مكتشفات مدينة أوغاريت، أن ما أطلق عليهم اصطلاحاً (الساكينو) كانوا يمثلون مصالح المجتمع الاوغاريتي في العلاقات مع الدول الأخرى التي كانت تقيم معها اوغاريت أطيب العلاقات. وكانت لهم مراسلاتهم الخاصة مع حكام تلك الدول، و لهم مهمات قضائية وصلاحيات يحفظ النظام على أراضي أوغاريت.
من حيث الشكل كانت تحركات (الساكينو) تابعة للملك، وهذا ما يفسر توجّه ذوي الحاجة مباشرة إليهم متجاوزين سلطة الملك وإدارته. وهنا ينشأ تصور مفاده أن صلاحيات (الساكينو) كانت في أحيان كثيرة مماثلة لصلاحيات ملك أوغاريت، ويبدو بأن (الساكينو) كان مرتبطاً بمجلس «الآباء» وعليه أن يأخذ قرارات هذا المجلس وتوصياته بعين الحسبان وألا يتجاوزها.
و (مجلس الآباء) كما يبدو؛ قد تمتع بسمعة طيبة لدى مجتمع أوغاريت، وكان الجهة العليا التي لها القول الفيصل في حل المسائل القانونية، فهم حافظو التقاليد والأعراف الأوغاريتية وحكمهم مبرم ونهائي. كل هذا يجعلنا نرى في «آباء أوغاريت» مجلساً له سلطة داخل حدوده ويرجح أن يكون هذا المجلس مطابقاً لمجلس الشعب. و «آباء أوغاريت» في نفس الوقت كان مجلساً لرؤساء العشائر.
 نظام تأليف هذا المجلس وأشكال نشاطه لا زالت غير معروفة حتى الآن. لقد كان شيوخ القرى أو البلدات التي تتبع لسلطة أوغاريت عبارة عن جهاز للإدارة المحلية تم تنظيمه مثل مجلس «آباء أوغاريت»، وبحسب ما توفّر لنا من مصادر لهذه المسألة من خلال دراستنا لنشاط ذلك الموظف أو الموظفين الذين كانوا يسمون في أوغاريت «ساكينو» أو (شاكنو) (وهي كلمة آكادية نادراً ما استخدمت) وكانت كلمة «ساكينو منتشرة انتشاراً واسعاً في آسيا الأمامية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. والمصطلح الذي نحن بصدده ينحدرمن الفعل «SKN» (اهتم بـ) غدا نافعاً، ويصبح مغزى هذا الفعل جوهرياً على وجه الخصوص في الصيغة النفعية «يقوم بعمل ما» وفي اللغة الأوغاريتية الفعل «SKN» يعني «يصنع شيئاً ما» يبني منشأة «بناء» ومن كلمة «SKN» تمثال «نصب» ومن هنا يجب أن نستنتج أن مصلطح «SKN» كان يستخدم في البداية للدلالة على فئة ما من الموظفين اولئك الذين اهتموا بالشؤون العامة أو كانوا يمارسون مهنة ما.
وبما أن المصطلح الذي نحن بصدده له معانٍ عدة؛ فلا نستطيع أن نحدد الوضع الإجتماعي لحامله إلاّ عن طريق تحليل الحالة المعطاة بالذات، سنحاول إلقاء الضوء عليه من خلال دراستنا لبعض الوثائق الأوغاريتية المترجمة التي توجد فيها هذه الكلمة «الساكينو» ونشاط الذين ينتمون تحت لوائها. فيبدو أن علاقات معقدّة كانت قائمة بين «الساكينو» والملك خلال الحياة اليومية، منشأ هذا التعقيد على الأغلب هو ازدواجية السلطة. لقد كان رئيس السوق يخضع خضوعاً مباشراً للساكينو وكان هذا «رئيس السوق» يجمع الضرائب من التجار، وكانت الشؤون الاجتماعية كلها تُفصل في الساحة قرب بوابات مدينة أوغاريت. في غضون ذلك كان المسؤولون يجتمعون في ظل الشجرة المقدّسة.
وفي الوثيقة التالية استخدمت كلمة «ساكينو» كجزر من لقب «بعل سادوقو» أحد أفراد حاشية الملك الأوغاريتي «نقميبا». تقول هذه الوثيقة أن نقميبا بن نقماد ملك أوغاريت «بعل سادوقو» ساكينو بيت الملك (SKN.bt.mlk) وبوابة (tgr.mlk) قد بني بناءً على طلب الملك (k.lb.mlk)... وهنا بقية النص مشوه تماماً.
ولكن من خلال قراءتنا لعدة وثائق عن نشاط "الساكينو" تبيّن أنهم كانوا باستطاعتهم أن يمارسوا نوع من النشاط الدبلوماسي، ويراسل ملوك البلدان الأخرى. ويقبل سفراءهم وذلك من خلال وثيقة مرسلة من ملك بيروت إلى «ساكينو» أوغاريت مسمياً إياه ولده (mariya) ثم يخبره أنه يرسل إليه في أوغاريت سفيره (amilma r.sipriya) المفوض بتنفيذ الإدارة الملكية فيها، ويطلب أن يعامله بالحسنى.
اللافت للنظر أن الوثيقة لم تأتِ على ذكر ملك أوغاريت، إلاّ إذا افترضنا أن السفير لم يرسل من بيروت إلى الملك بل إلى «الساكينو» نفسه وأن هذه السفارة لم تكن تخضع لنشاط الإدارة الملكية، بالرغم من أن «الساكينو» في نص آخر يظهر أنه أخبر الملك بشأن هذه السفارة وتشاور معه بخصوص الخطوات الدبلوماسية الواجب اتخاذها.
أما الوثيقة التالية المثيرة للإهتمام ويبدو بأنها رسالة وجهها المدعو «حشميكو شوح» وكان ساكينو في بلدة ما أومدينة، وكان المرسل والمرسل إليه من مرتبة اجتماعية واحدة يقول فيها: أخي (ahi-ya) يسأل عن صحة صاحبه ويبدو هنا بأنه يحمل طابعاً شخصياً، ويدل على أن «حشميكو شوح» كان قريباً للساكينو. حيث يعلن أن «ايلتخمو.. شمسي» كان موفقاً عندما تقابل مع "حشميكو شوح" وهكذا فقد استقبل الملك الحثي هذا الأخير. الأمر الذي يشير إليه لقب «شمسي» إذ كان «حشميكو شوح» من عليّة القوم في أوغاريت ويختم رسالته بان واحداًَ من رجال أبي سوف يصل إليه كي يحلا معاً مسألة ما. ويرجو «حشميكو شوح» ألاّ يتعرّض أحد لهذا الرجل ويحظى بعطف الساكينو وإحسانه.
وأخيراً نقول: من خلال العرض الذي قدمناه أن مصطلح «الساكينو» لها معنى واحد في الوثائق الأوغاريتية. فمن المعروف أن ثمة وجهة نظر انتشرت في الأبحاث التاريخية انتشاراً واسعاً مؤداها أن «الساكينو» شغلا منصباً عالياً في الإدارة الملكية في أوغاريت، وكان يمكن أن تطلق على مختلف رجال الإدارة بصرف النظر عن المهام التي كانوا يقومون بها. لقد كانوا هؤلاء الناس تابعين للملك ينفذون المهام التي كلفوا بها وحصلوا لقاء خدماتهم هذه على مؤونتهم وأجورهم.

مهما تعمقنا في تاريخ أوغاريت تبقى معلومتنا عنها غير مكتملة الصورة من كثرة الأحداث التي مرت على هذه المملكة العظيمة، التي ستبقى تدهشنا بجديد أخبارها واخبار الحياة التي عاشها شعبها.