كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عشتر إله الري الصناعي في أوغاريت.. جلس على عرش بعل فلم تصل رأسه إلى قبته و لم تلمس قدماه الأرض

د. غسّان القيّم:
 
إن الصدفة المباركة التي أظهرت إلى العلن مدينة أوغاريت، التي قادت مكتشفاتها المدهشة إلى تحول جوهري في النظر إلى تاريخ الساحل السوري عامة وتاريخه الثقافي خاصة، وإن محراث الفلاح السوري ابن رأس الشمرة محمود ملا، الملقب بالزير لطول قامته، و الذي خلّد اسمه مع ملوك أوغاريت، و قد كان يحاول استدرار خصب الأرض لتأمين عيشه، قد أيقظ إله الخصب ذاته وعاد بعل في تألقه القديم– الجديد، يحتل مقام الصدارة في اهتمامات الباحثين في الفكر الديني والميثولوجي القديم.
فقد أعطتنا النصوص الميثولوجية الأوغاريتية صورة واضحة للبعل، فقدمت لنا صفاته ونشاطاته باعتباره كان يمثل الشخصية الأساسية والمركزية في قصائد الملحمة. إنه إله العاصفة والمطر. وكل سجاياه تتأتى عن علاقته بظواهر الطبيعة، حيث أنه كمسؤول عن المطر يسبب إخصاب الأرض والزرع، ويسمح للحياة أن تستمر وترمز العاصفة إلى شجاعة هذا الإله الشاب وإلى قوته، بينما يرمز المطر إلى صفة العناية الإلهية في شخصية بعل التي كتبنا عنها كثيراً وعن ملاحمه وصراعه مع بقية الآلهة كموت ويم في مقالات سابقة.أقنية
أما موضوع بحثنا اليوم الذي لم يسلط الضوء عليه، فهو الإله "عشتر" أو "عثتر" الذي صورته الأساطير الأوغاريتية بأنه إله الري الصناعي وإنه لازوجة له. أي لايزال قاصراً فلا يتمكن أن يملك على قوى الاخصاب، وعندما جلس على عرش بعل الذي خلا بعد نزوله إلى باطن الأرض، تجعل الربة عشيرة يم أم الارباب قرينة إيل رئيس مجمع الآلهة في أوغاريت أحد أبنائها مكان بعل، فيخاطب إيل عشيرة يم قائلا لها: "أيتها السيدة عشيرة يم اصغي لكلامي، هاتي ولدا من أولادك فأجعله ملكا فتجيبه السيدة عشيرة يم، اذن فليكن عشتر العاتي وتسلمه مقاليد الحكم مكان بعل" وللحال قام الاله عشتر فصعد إلى جبل صافون (جبل الأقرع اليوم) وجلس على عرش بعل، لكن رأسه لم تصل إلى قبته وقدماه لم تلمسا موطئ العرش فصاح عشتر لن أحكم في جبل صفون.
ثم نزل عن عرش بعل ليصير ملكا على الأرض.. هذا يفسر بأن الري الصناعي قديما كان لا يكفي لري المحصول الزراعي، لاعانة المجتمع خاصة في منطقة الساحل السوري الذي يجري الاعتماد في ارواء الزرع بالدرجة الأولى على المطر، الذي يأتي في أوانه ( عدانه)؛ أي أن الري بواسطة الأقنية من الانهر والينابيع ليس كافيا، لأن طبيعة الأرض في الغالب جبلية وانهار الساحل وكذلك نهري العاصي والليطاني ونهر الاردن تجري في مجاري عميقة وسريعة، وقبل أن يصل الانسان إلى مستوى تكنولوجي لبناء السدود لم تكن الأنهر في هذه المنطقة كما كانت في مجري نهر الدجلة والفرات، بالقرب من البحر أو مجرى نهر النيل في مصر حيث تمكن الإنسان من تحويلها في أقنية لسقاية المزروعات.
والإله عشتر في الأصل الأوغاريتي (ع. ث. ت. ر) ابن عشيرة وقد يكون اسم عشتر، كما ذكرنا مشتقا من كلمة تدل على الري الصناعي أي بواسطة الأقنية.. (العاثور في العربية يعني مجرى المياه في قناة) ولكن الاسم يأتي مع لقبه غالبا في النصوص الأوغاريتية بشكل (ع. ث. ت. ر. ع. ص) وأحيانا ( عرظ) وقد أثبتت ترجمة (ع. ر. ص) في كل المراجع التي استندنا اليها بمعنى (القوة والرهبة) وقد فسرت بمقارنتها مع الكلمة العبرانية (عرص) التي تعني التخويف والتهديد، التي يقابلها القاموس العبري مع الكلمة العربية (عرّاص) أي الرمح المهتز. ولكننا عندما عدنا إلى الإسطورة الأوغاريتية بعل وموت، لم نجد في سياق الأسطورة ما يبرر وصف عشتر بالقوة أو الرهبة أو العظمة؛ ووجدنا في كافة المعاجم العربية أن كلمة (عرص) تدل على البرق المضطرب (وليس الرمح المضطرب) مع ملاحظة عدم وجود المطر فيه. والشواهد النصية والتماثيل المكتشفة في أوغاريت التي تتعلق بالإله بعل، قد اجمعت أغلبها في تصوير بعل إله شاب قوي نزق يحمل الرمح في يده اليمنى وهي تمثل الصاعقة رمز القوة، وفي يده اليسرى شجرة الزيتون المورقة التي جسدت صفات بعل المحب للسلام والخير والخصب.خزان
وكما جاء في (القاموس المحيط) و (لسان العرب) وغيرهما بأن (السحاب العارص) هو الذي يكثر برقه وحركته، وهكذا نجد كيف أن هذا التفسير قد يؤدي الى فهم مغزى تقصير عشتر عن إملاء مركز بعل بعد نزوله الى العالم الأسفل، فقد كانت كرسي العرش أكبر من حجمه فلم تصل رجلاه إلى الأرض عندما جلس عليه؛ أي أن السحاب مهما كثر برقه وزادت حركته ولم يأت بالمطر فهو قاصر عن الاخصاب. قابل ذلك مع محاولة عشتر أن يملك بدلا من يم اله البحر فقد رفض لأنه كان قاصرا ولا زوجة له؛ أي أنه قاصر عن الانتاج. 
ونرى ذلك واضحا في اسطورة بعل ويم عندما نادت نور الآلهة شبش إلاهة الشمس،حيث ترفع صوتها لعشتر:
أبوك الثور إيل تقديم الأمير يم
يؤثر رفع القاضي بحر..
وإن يسمعك أبوك
ليهد من أركان بيتك
ليزيلن كرسي ملكك
ليحطمن صولجان سلطانك..
يجيبها عشتر:
الثور إيل أبي
وأنا لا بيت لي كما الآلهة
لباطن الأرض سأنزل
ليغسلني الصالحون..
للأمير يم بيت
وللقاضي بحر معبد
الثور إيل أبي
وأخيرا نقول: بأن هذه الظاهرة أي البرق والرعد بدون مطر ليست نادرة في سورية، وحركة السحاب مع البرق دون أمطار تحدث غالبا في بداية وأواخر موسم المطر، والإله بعل يظهر جليا في النصوص الأوغاريتية بأنه هو وحده إله العاصفة وسيد الغيوم التي تأتي بالمطر المحيي للزرع.
..أوغاريت ستبقى مالئة الدنيا وشاغلة الناس.

أوغاريت ستبقى أبداً تعيش مع كل فلاح يزرع أرضه، ينتظر المطر ويقول: بأن أرضه هي أرض بعل..