كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

دلف وعرجلة

كتب محمد عزوز:
صورته ترتسم أمام ناظري هذا الصباح الشتوي الممعن في قدموسيته، أعيش مع تفاصيلها بضع دقائق... أراه جالساً بلباس عمله الذي لا يختلف كثيراً عن أي لباس آخر له، يلف سيجارته الغليظة، يشعلها بقداحته الصدئة، تتلاحق نوبات سعاله التي اعتادها واعتدناها معه نحن أهل بيته.
الكل ينامون في غرفتنا الغربية لأنها الأكثر دفئاً، وأمي تمد فرش النوم كلها، وننام كيفما اتفق بمراعاة الابتعاد عن مواقع الدلف التي بتنا نعرفها جميعاً، ولم تعد تنفع معها كل نوبات العرجلة (1). وأمطار القدموس إذا بدأت لا تعرف كيف تنقطع.
تضع أمي وجبة الصباح أمام أبي، وأسمع أصوات اصطكاك فكيه وهما يتعاضدان لطحن البرغل المسخن، يسيل لعابي لأصوات الأكل، ولكنه البرغل، ستنشب معركتنا مع أمي لأننا لن نقبل به لفطورنا، أما أبي فهو ما أ محمد عزوزفتئ يردد أمامنا (البرغل مسامير الركب).. أحس به من جديد وهو يـتأهب للمغادرة مع بقراته لفلاحة أرضنا في السفوح المقابلة.
ومع دعاء أمي له بالسلامة أنهض وأخوتي استعداداً للمدرسة، وتعرف أمي أننا سنرفض طعام والدنا، فتجهز إبريق الزوفا على عجل، لأن الشاي لم تكن تزور بيتنا إلا نادراً، وعلى الصينية صحن فيه شنكليش وآخر زعتر تعده أمي في الصيف بنفسها، تطحن الكثير من الحبوب المحمصة مع السماق، ولأننا لم نكن نملك ثمن الزيت في ذلك الحين، كانت قطعة الخبز تبل بالماء أولاً ثم تعبر إلى صحن الزعتر.
أرقب بألم توزع صحون بأدوار أخرى في أرجاء البيت لجمع قطرات الدلف المشبعة بألوان تمنحها لها أخشاب السقف، وتعلق في ذاكرتي صوت ارتطامها بالصحن.. تراك.. تراك..
أنتبه لنفسي ، فأفيق من هذه التفاصيل في ذاكرتي القديمة ، لأسمع صوتاً في ذاكرتي القريبة، صوت أصغر أولادي قبل أيام، وهو يرفض في الصباح تناول أي من أنواع المشروبات المعتادة، ويسمي لي نوعاً لم تعرفه قواميسي، ولأنني لم أستطع حفظ الإسم ، اضطررت لتسجيل اسمه في ورقة صغيرة، وفي السوبر ماركت أخرجت الورقة خجلاً، ابتسم صاحبها وهو يحاول أن يصحح لي الاسم الذي لم أجد قراءته.
(1) العرجلة: عملية دحل الأسطح الترابية بحجر أسطواني أملس يسمى (معرجلانة) لمحاولة قطع الدلف فيها (الصورة).
محمد عزوز
كتبت عام 2012
(لوحات قصصية برسم الطبع)