كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مراجعة في التاريخ القديم للعرب والسوريين

د. إليان مسعد- فينكس

تعتبر سوريا تاريخياً أقدم الحضارات التي مرت على العالم. ففي هذا الإقليم عرفت البشرية بدايات تلمسها للاجتماع والزراعة و للمعرفة. وقد تطورت سوريا عبر الزمان حتى وصل نفوذ الآراميين السوريين شرقاً حتى الصين واسبانيا والهند، وامتد نفوذ الفينقيين، سكان البحر السوري، إلى كل المتوسط حتى قرطاجة والمغرب. في بيئة سوريا الآرامية ظهرت و تبلورت الديانتان اليهودية والمسيحية. ففي سوريا، وتحديداً تادف قرب حلب كتبت التوراة بنصها الذي نعرفه اليوم على يد عزرا الكاهن، واعتقادنا إن اليهود لم يكونوا غير آراميين سكنوا جبال فلسطين وكانت سمة البداوة واضحة عليهم، وعبدوا إلهاً خاصاً اسمه يهوه وكل التركيبة الانعزالية اللاحقة سببها السبي البابلي وفي الجنوب السوري تواجد الناصريون أو النصارى (وهم طائفة غير المسيحيون بالطبع) والذين أثروا بالعرب المسلمين الآوائل كما أن المسيحية ظهرت كتسمية للمرة الأولى في أنطاكية السورية.
وسوريا صدرت المبشرين المسيحيين لكل أنحاء العالم وغززت روما وفي قرون المسيحية الخمسة الأولى كانت سوريا لاهوتياً هي معيار القيم الروحية كما هي ألمانيا في قرون المسيحية الخمسة الأخيرة: في سوريا ظهرت كل التيارات المسيحية المعروفة- المونوتيلية والمونوفيزية والنسطورية وأساطين الخلقيدونية و عندما جاء العرب إلى سوريا كانوا والإسلام حضارياً أقرب إلى الثقافة الرعوية القمرية، لكنهم في سوريا بدأوا يتلمسون أولى خطواتهم باتجاه الحضارة. وهكذا، من دمشق معاوية وخلفائه وحلفائه السوريين وصلت قواتهم حتى إسبانيا وفرنسا.
وفي سوريا كان ابتكار الأرقام السورية المعروفة والمكتوبة في دير قنسرين (1234567890) وسبقه بدير بقة قرب الحيرة اختراع الخط العربي كما تم تنقيط الاحرف العربية بالكوفة وترتيب القرآن وتنقيطه ونشره وبداية كتابة التاريخ الإسلامي الزاهر وظهور التيارات الفكرية التي اغنت الاسلام و باختصار من سوريا خرجت طلائع الحضارة العربية و الإسلامية. هذا التاريخ الضارب في القدم، العميق في تنوعه، الغريب في تعدديته، قدّم لنا وطناً فريداً من نوعه في العالم كلّه.
لكن سوريا لم تعرف يوماً ذاتها لان بعض ابنائها لا يريدون ان يتصالحوا معها ومع تاريخها وحضارتها. حتى اليوم ما نزال نتنازعهم في مسألة الهوية بين العربية والسورية فمنهم من قلصها حتى الحدود المتعارف عليها ما بعد الانتداب الفرنسي، ومنهم من وسعها عبر القومية العربية لتمتد من المحيط إلى الخليج، ومنهم من وقف في الوسط فقال بحدودها الطبيعية التي تعني الهلال الخصيب او ما يعرف بسوريا الكبرى. و مع ذلك فسوريا هي سوريا والشعب السوري له تلك الخصوصية كحامل حقيقي لتراث معرفي لا يسبر غور قدمه. الشعب السوري هو وريث حضارة سومر وبابل وآشور وآرام وكنعان و الشعب السوري هو من قدم للهلينية اليونانية كوكبة من أهم فلاسفتها و مفكريها والشعب السوري هو الذي قدّم الرسل والمبشرين والجنرالات والأباطرة لروما والقديسين والباباوات للفاتيكان والشعب السوري هو من استقبل عرب الجزيرة وامتزج بهم فأمد الإسلام بأهم طلائع مفكريه والشعب السوري هو هذا المزيج كله وأي اختزال لعنصر من هذه العناصر التكوينية، كما حاول بعضهم أن يفعل، هو تشويه للهوية السورية والعربية.
العرب آراميون سوريون استوطنوا الجزيرة العربية باستخدام الجمل الذي دجنوه بسوريا ولولاه ما كان بالامكان العيش ولا حتى الوصول الى هناك ولقد نشأوا في سوريا الجنوبية والبادية الشامية العراقية وكانوا جزءا من أول تحالف آرامي بقيادة ملك دمشق ضد الآشوريين في معركة قرقر في القرن التاسع قبل الميلاد، ومحو اثر حقيقة ان العروبة ماهي الا حالة اجتماعية واقتصادية وحضارية لسكان سوريا الاراميون بالبادية بمواجهة تحديين وعنفين الاول تعسف الايكولوجيا الجافة للمنطقة والمناخ المتقلب القاسي والثاني عسف الجغرافيا في توسطهم سرة العالم القديم وقصة تاريخهم ما هي إلا الرد الحضاري الفذ على عسف الجغرافيا بالمشاريع المقاومة وردهم على تحدي عنف الطبيعة بالعروبة الحضارية او الاستعراب الاجتماعي للآراميين السوريين وتعريب اوسورنت كما تشاؤون كل المشرق حضارة ودينا ولغة وان الامعان بمحو الحقيقة السورية لمنشأ العروبة الحضارية واسقاط الحضارة الآرامية منذ عصر الحديد الذي استمرينا نعيشه حتى مابعد الحرب العالمية الثانية لندخل عصر الاتصالات والمعلوماتية والاعتراف بأن تدجين الجمل السوري فاتح الجزيرة العربية سمح بنقل البشر واللغة والحضارة من الشمال الى الجنوب وليس العكس وحتى الآن ان نكران الحقائق العلمية هذه هو المازوشية المتبوعة بذهان سادي وتطرف حدي بين عقدة نقص وشعور بالدونية ويقابله الجنوح لذهان عظمة وتمجيد الذات وهو ما نراه الان وان مثل هذه الرؤية السطحية التي تتماشى مع جوّ عالمي محموم، تختلط مفاهيمه بصورة هستيرية، وجدت بعض المصفقين ممن يمكن أن نسميهم كارهي ذواتهم، من أبناء الشام والعراق الضائعين بين مشاريع الاسلام السياسي العنصري والشوفينية القومية المتوهمة التي لن تؤدي إلّا لسقوطنا وتفتيتنا ونجاح التهويد، وما نراه من أزمة هوية كان بطانة فوضى الربيع العربي ولذلك أؤكد على أن السوريين القدماء (الآراميين) انساحوا آتين من الشمال الشرقي من سوريا بفترة انهيار منظومة عصر البرونز المتأخر وموجة الطاعون الكبير وغزوة شعوب البحر واستوطنوا هذا المشرق مبتكرين حضارة فريدة جرى تعميمها عالمياً وبشكل سلمي على العالم حاملين المشعل بالمقدمة من 1200 قبل الميلاد وحتى سقوط بغداد بيد هولاكو.
والعرب الشماليون، شعب آرامي انبثق عن الأسرة الآرامية الكبرى ولغته آرامية (أكد ذلك الرسول وابن عمه علي وعمه العباس وابنه عبدالله) الذين أكدوا أنهم وقريش نبط من كوثا قرب بابل هربوا الى مكة، ومن المعلوم ان الفرس ازدشير وابنه شابور دمروا كل الحواضر العربية التجارية الزاهرة الناطقة بالأرامية بالقرن الثالث ميلادي مثل كوثا والحضر وحيداب ونصيبين واديابين وميسان دوشت. وهذا ما نجده في تطور الآرامية وريثة الابلائية والاكادية والكنعانية الى اللغة العربية والنبطية و المندائية التي تكلم بها عرب الشام بمن فيهم التدمريون.
أما لغة قريش فهي لغة آرامية نبطية داخلتها القليل من تأثيرات حميرية يمنية بحكم الجوار.نعم العرب نشأوا في سوريا الجنوبية وكانوا جزءاً من أول تحالف آرامي ضد الآشوريين في معركة قرقر في القرن التاسع قبل الميلاد. ولكن العرب قوم من الحضر السوري أنشأوا مدناً وممالك عديدة منها مملكة الأنباط، ومملكة تدمر، ومملكة الحضر والرها،ومن ثم مملكتي الغساسنة والمناذرة وكانت لهم مقاطعات متحضرة مثل أيطوريا وأدوم والبثنية وغيرها.
أما البدو فهم جزء صغير من السوريين المستعربين امتهنوا هذه الحياة الخاصة بقصد المهنة لحماية القوافل التجارية التي كانت تقطع الفيافي والبلاد الصحراوية فاتحة الخطوط التجارية واصلة البحار الخمسة مع المحيطين الهندي والهادي. و كانت منطقة حوران الكبرى المغرقة بآراميتها والتي تضم معظم سوريا الجنوبية يطلق عليها في العصر الروماني ولاية سوريا العربية أو سوريا الصخرية العربية (سيريا ارابيكا او ارابيا روكا). ومن هذه الولاية خرج الكثير من الفلاسفة والشعراء الذين كتبوا باللغة اليونانية وخرج منها إمبراطور يدعى فيليب العربي وإليها التجا بولس الرسول.وأسرة جوليا دومنا الحمصية عربية، وكانت عائلة كهنوتية ترتكز عبادتها يا للصدفة السعيدة على الحجر الأسود. الركن الأساسي من أركان الديانة العربية القديمة و الحجر الأسود رمز من رموز الاسلام. وشقيقات جوليا دمنا وبنات شقيقاتها جميعهن يحملن أسماء آرامية عربية ميساء وسمية وسحيمة وأمية. وملك الرها أبجر وأسرته كان اجتماعياً عربي ولم يتكلم بحياته إلّا الآرامية والايطورين وأيطوريا التي كانت تضم معظم لبنان وفلسطين حتى سيناء وجبل الشيخ والجولان كانت مقاطعة عربية تبنت الثقافة الهلنستية وتتكلم الأرامية وعاصمتها عنجر أو سوق وادي بردى شتاء ومعلولا صيفا.
كل النقوش والكتابات لتطور العربية من الارامية والعربية قبل الإسلام عثر عليها فقط في سوريا الرومانية والبيزنطية. كل آلهة العرب قبل الإسلام هي آلهة سورية. والآلهة اللات التي تعد الرمز القومي للعرب لم يعثر على أيّ تمثال لها خارج سوريا.
عندما نشأت الكنيسة الآرامية باسم الكنيسة السريانية انضمّ إليها العرب، ولم يؤسسوا كنيسة مستقلة كما فعل الأرمن والأقباط. بل ظلوا جزءا من الكنيسة السريانية وفي اندماج كامل. وهذا يفسر تساؤلات الكثيرين مثل باتريشيا كرونه بكتابها الهاجريون حول لماذا هناك فارسي مسلم و تركي مسلم ولا نرى سورياً مسلماً، وانما لم نعد نجد إلّا عربي ويتحول لعربي فور اسلامه وتشحب سوريته؟ والسبب اننا نتكلم عن أهل البيت وذات المعنى والمغزى واصحاب المشروع وهذا دليل على وحدة الشعب الآرامي بشقيه الشمالي السوري والجنوبي، وأن العروبة حالة حضارية سورية وليست عرقاً أو ديناً.
وأخيراً كان عرب الشام يتكلمون لغة آرامية نبطية تشبه السريانية إلى حدّ كبير، وكذلك الآرامية الفلسطينية لغة المسيح، وكان العربي الشامي-العراقي يفهم السريانية كما يفهم الحلبي لهجة حوران. ونحن مدينون للعلامة ابن حزم الأندلسي الذي أثبت العلاقة التطورية بين الأرامية السريانية وتطورها عبر النبطية الى مختلف لهجات العربية وإحداها الفصحى القرشية لغة القرآن معرياً الطمس الشعوبي الفارسي برعاية عباسية ولأسباب سياسية باخفاء تلك الحقيقة والتأكيد الكاذب على ان أغلب الكلمات الهجينة بالقرآن من منشأ فارسي، وأشهر هؤلاء اللغويين الشعوبيين ابن المثنى.
ختاماً: ما علاقة ما سبق بالعروبة الحضارية؟ نشأت بسوريا شمالا وفتحت الجزيرة العربية طوال ألف عام و آخر ملك آرامي بابلي للامبراطورية الكلدانية، نابونيد الذي نقل العاصمة في بابل إلى تيماء بالحجاز و أسس كل المدن المعروفة مؤتة وتيماء ؤدومة الجندل والحجر وفدك وخيبر ويثرب ومكة وباستخدام التجارة والجمل و استقروا بالجنوب العربي مطورين اللغة والمقدس، لقد نشأت مفاهيم مغلوطة حول العرب والعروبة، يصل بعضها الى وصف العرب بأنهم غرباء عن سوريا. ولذلك أوضح بعض الحقائق المستندة إلى البحوث التاريخية والآثارية الجدية.
- العرب شعب آرامي انبثق عن الاسرة الآرامية الكبرى، ولغته آرامية وهذا ما نجده في اللغة العربية النبطية التي تكلم بها عرب الشام بما فيهم التدمريون. أما لغة قريش فهي تطوير للغة آرامية نبطية داخلها تأثيرات حميرية يمنية بحكم الجوار.
- العرب نشأوا كحالة اجتماعية اقتصادية تعتمد على الجمل الذي تحول لأهم عامل للتجارة والتنقل، ظهروا في البادية الرافدية الشامية وسوريا الجنوبية وكانوا جزءا من أول تحالف آرامي ضد الآشوريين في معركة قرقر في القرن التاسع قبل الميلاد أما اليمنيون فلم يعرفوا أنفسهم كعرب إلا بعد الاسلام عندما تبنوا لغة قريش كحل لاختلاف لهجاتهم ولغاتهم.
- العرب في العصور الهلنستي والروماني والبيزنطي كانوا قوم من الحضر انشأوا مدناً وممالك عديدة منها مملكة الأنباط ومملكة تدمر ومملكة الحضر وكانت لهم مقاطعات متحضرة مثل ايطوريا وادوم والبثنية وغيرها أما البدو فهم جزء صغير من العرب امتهنوا تربية الجمل هذه المهنة لحماية القوافل والتجارة.
- كانت منطقة حوران الكبرى والتي تضم معظم سوريا الجنوبية يطلق عليها في العصر الروماني الولاية العربية (ارابيا بروفنسا)، أو سوريا الصخرية العربية. ومن هذه الولاية خرج الكثير من الفلاسفة والشعراء الذين كتبوا باللغة اليونانية وخرج امبراطور يدعى فيليب العربي.
- أسرة جوليا دمنا الحمصية عربية وكانت عائلة كهنوتية ترتكز عبادتها على الحجر الأسود. والحجر الاسود ركن اساسي من أركان الديانة العربية القديمة وشقيقات جوليا دمنة وبنات شقيقاتها جميعهن يحملن أسماء عربية ميسا وسمية وسحيمة وأمية. - ملك الرها أبجر واسرته الاسروينية كان عربيا.
- ايطوريا التي كانت تضم معظم لبنان وشمال فلسطين وجبل الشيخ والجولان كانت مقاطعة عربية تبنت الثقافة الهلنستية.
- كل النقوش والكتابات العربية قبل الاسلام عثر عليها في سوريا.
- آلهة العرب قبل الاسلام هي آلهة سورية. والآلهة اللات التي تعد الرمز القومي للعرب لم يعثر على أي تمثال لها خارج سوريا ومملكة الحضر في الجزيرة السورية.
-عندما نشات الكنيسة السريانية وانفصلت عن الكنيسة الرسمية انضم لها العرب ولم يؤسسوا كنيسة مستقلة كما فعل الأرمن والأقباط. بل ظلوا جزءاً من الكنيسة السريانية وباندماج كامل. وهذا دليل على وحدة الشعب السوري الآرامي (العربي) بشقية الشمالي والجنوبي.
-كان عرب الشام يتكلمون ارامية نبطية تشبه السريانية إلى حد كبير وكذلك الآرامية الفلسطينية وكان العربي الشامي يفهم السريانية كما يفهم الحلبي لهجة حوران.
- الشعوب العربية الحالية هي الشعوب التي تعيش في المنطقة بغض النظر عن انتمائها العرقي والديني والسياسي. من هذه الشعوب الآراميون (الآشوريون والسريان والكلدان) و الأكراد و السوريون اليهود والأرمن والتركمان والشركس والأمازيغ... الخ ومن أطلق عليهم في الماضي عرب من القبائل المتفرقة في سوريا الكبرى (والتي تضم سوريا ولبنان والعراق وفلسطين والأردن وسيناء وحتى وادي السرحان).
والسعودية واليمن وبقية دول الخليج وكل من يحمل جنسية بلد في المنطقة كلها من يحدد التسمية هي الحاجة والظروف التي يعيشها الإنسان، وليس التاريخ والعرق والدين طالما ان هولاكو وتيمورلنك لم يتركا رجلا إلا وقتلوه.
كلمة عرب يجب ألا يكون لها علاقة بالعرق أو بالدين أو بالسياسة أو التاريخ بل بالمنطقة الجغرافية التي يعيش فيها الإنسان حيث امتدت الحضارة السورية الرافدية والتعريف حسب العرق هو تعريف باطل وسخيف يضر ويفرق ولا فائدة منه وعلى هذا الأساس يمكن أن نطلق على الشرق الأدنى والأوسط ووادي النيل وشمال افريقيا كلمة عربية وكل سكانها عرب فكما نقول أوروبي لساكني أوروبا. نقول عربي ونقصد أنه يعيش في العربية. والعربية تصبح جزءاً من آسيا وجزء من إفريقيا.
فالعربي ليس عرقا وإنما جغرافيا وحضارة ولغة بمنطقة جغرافية.