كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فارس قوس قزح (سلطان باشا الأطرش)

حسن م. يوسف*.
على بعدِ مئةِ كيلومترٍ جنوبيَّ العاصمةِ السوريةِ دمشق، يقع جبلُ العربِ، وهو مجموعةٌ من الجبالِ البركانيَّةِ الخامدةِ، يرتفع أعلاها إلى 1850 متراً عن سطحِ البحر. خلال عام 1888 كان جبلُ العربِ،ككلِّ بلادِ الشَّامِ، يرزحُ تحتَ نيرِ العثمانيِّينَ. في شتاءِ ذلك العامِ،حملتْ شيخةُ بنتُ منصورٍ بن إسماعيل الثاني من زوجِها ذوقان بن مصطفى إسماعيل الثاني لأوَّلِ مرَّة. وخلالَ الأشهرِ الأخيرةِ من حمل شيخة، رأتْ في الحُلمِ أنَّها تمتطي قوسَ قزحٍ يطيرُ بها كما لو أنَّهُ فرسٌ من الألوانِ. ولما قصَّتْ حُلمَها على أحدِ الشيوخِ الأجلاَّءِ، فسَّرَهُ لها بأنَّها ستنجب ولداً يخلِّده التاريخ.
في ليلةِ القدرِ، من عام 1208 للهجرة، الموافقة للرابعِ من آذارَ عام 1889، شَهِدَتْ قرية (القريَّا) مولدَ سلطان باشا الأطرش.
منذ طفولتِهِ بَدَا الشَّبهُ واضحاً بين سلطان وجَدِّهِ إسماعيلَ الذي زَارَهُ الرَّحَّالةُ الإنجليزيُّ (بورتر) أثناءَ جولتهِ في المنطقةِ عامَ 1853 ووَصَفَهُ بأنَّه "أشْجَعَ رجلٍ في شعبٍ شُجاع".
بَعْدَ ولادةِ سلطان بخمسِ سنواتٍ، ثارَ سكَّانُ جبلِ العربِ ثأراً للشَّرفِ، بسببِ فسْقِ بعضِ القادةِ العثمانيِّينَ وطلباتِهمْ غيرِ المعقولةِ، فَأفْنَى الثُّوارُ فرقةً عثمانيةً في (عرمان)، وحملةً كبرى في (عيون).
* * *
عندما بلغَ سلطان التاسعةَ من العمرِ، جرَّبَهُ عمُّهُ فايز في مواجهةٍ مَعَ ثمانيةِ أولادٍ في مثلِ عمرهِ، فانهزموا منْ أمامِهِ ولحقَ بهم. عندَها طلبَ منهُ عمُّهُ أنْ يرجعَ وقالَ في نَفْسِهِ: "إذا كانَ اليومَ صغيراً وهذهِ فعالهُ، فكيفَ يكونُ عندما يشبُّ ويكبُر؟" وقد صَدَقَتْ نبوءةُ العمِّ فايز إذْ دَخَلَ سلطانُ ساحَ الوغى باكراً وقاتَلَ في إحدى المعاركِ إلى جانبِ والده ذوقان.
عندما جاءَ سامي باشا الفاروقي في عام 1910، نَزَعَ سكَّانُ جبلِ العربِ للسِّلم، إذ توقَّعوا أنْ يعاملَهُم بعدلٍ وإنصافٍ، نظراً لأنَّه ضابط ٌعربيٌ حَسَنُ السِّمعةِ، وقد اسْتَغَلَّ الفاروقي حُسْنَ ظنِّ الأهالي بهِ، فباشرَ بإحصاءِ السكانِ لسوقِ الشُّبَّانِ إلى السَّفَرْ بَرْلِكْ. ورغمَ أنَّه كان قدْ أعطى الأمانَ للزعماءِ اللاجئينَ إلى (الصفا)، إلاَّ أنَّهُ نَكَثَ بِوَعْدِهِ وألقى القبضَ عليهِمْ، وحوَّلَ بعضَهم إلى المجلسِ العسكريِّ في دمشق.
اقتيد سلطان إلى السَّفَرْ بَرْلِكْ، وتمَّ ترحيلُه بالقطارِ إلى (سالونيك) ثم إلى (الرومللي) في اليونان. وفي نفسِ الوقتِ، نُقِلَ والِدُهُ معَ عددٍ من وجهاءِ الجبلِ إلى دمشق. وبعدَ شهرينِ من سَوْقِ سلطانَ إلى الجنديَّةِ، أصْدَرَ المجلسُ العسكريُّ بدمشقَ حُكْمَهُ بالإعدامِ على ستَّةٍ من زعماءِ الجبلِ، وعلى رأسهم، ذوقانُ والدُ سلطان.
عادَ سلطانُ من السَّفَرْ بَرْلِكْ، وهو في الحاديةِ والعشرينَ من عمرِهِ، وقد تعلم القراءةَ والكتابةَ وغَدَا رجلاً مَهيبَ الطَّلعةِ، حادَّ النظراتِ، متوسِّط َ القامةِ، عريضَ الكتفينِ، ذا بشرةٍ حنطيَّةٍ لوَّحَتْها الشَّمسُ، عيناهُ زرقاوانِ، وشارباهُ عريضانِ.
صُدِمَ سلطانُ عندَمَا عَلِمَ أنَّ والدَهُ قد نُفِّذَ فيهِ حُكمُ الإعدامِ أثناءَ غيابهِ، ممَّا ولَّدَ في داخِلهِ غضباً دفيناً أشْبَهَ ببركانٍ يمكنُ أنْ يثورَ في أيَّةِ لحظةٍ!
* * *
بَعْدَ دخولِ تركيَّا الحربَ العالميَّةَ الأولى إلى جانبِ ألمانيا، تَمَّ تعيينُ أحمد جمال باشا قائداً عاماً للقواتِ العثمانيةِ في بلادِ الشامِ، وحاكماً عسكرياً عليها. وعملاً بسياسةِ "فرِّقْ تَسُدْ "، سَمَحَ جمال باشا لأبناء الجبلِ بحملِ السِّلاحِ، وأعفاهُمْ من الجنديَّةِ، واتَّخَذَ حَرَسَهُ الخاصَّ منهم، بينما نفَّذَ أحكامَ الإعدامِ شنقاً بخيرةِ أحرارِ العربِ في السَّادسِ من أيَّار، في كلٍّ من بيروتَ ودمشقَ. وعندما سمعَ سلطانُ نبأ تلك المأساة، قامَ برفعِ العَلَمِ العربيِّ فوقَ دارهِ بالقريَّا، بحضورِ نسيب البكري، وعددٍ كبيرٍ من وجهاءِ جبلِ العربِ والشَّبابِ الوطنيِّ.
زارَ جمال باشا الذي لُقِّبَ بالسَّفاحِ، جَبَلَ العربِ. وقد كان سلطان الأطرش واحداً من القلائلِ الّذينَ لم يذهبُوا للقائِهِ. لكنَّ جمال باشا، رغم ذلك، أرسَلَ لهُ بذلةً ووساماً وَلَقَبَ باشا. غيْرَ أنَّ سلطان أعطى البذْلَة لمرافقِهِ، وعلَّقَ الوسامَ في رقبةِ الكلبِ الَّذي يرافقُهُ في الصَّيْدِ، ورفضَ أن يُنَادى بالباشويَّةِ إلاَّ بعدَ أنْ مَنَحَتْهُ هذا اللَّقبَ حكومةُ دَمشقَ العربيةُ بعد زوالِ الحُكمِ العُثْمانيِّ.
كانَ سلطان باشا في طليعةِ ثوَّارِ جبلِ العربِ الذينَ هُمْ أوَّلُ مَنْ دَخَلوا إلى دمشقَ، في الثلاثينَ من أيلولَ عام 1918، ورفعوا العَلَمَ العربيَّ لأوَّلِ مرةٍ فَوقَ مبنَى البَلَدِيَّةِ، وفي ساحةِ المرجةِ بدمشق، وحرَّروها من العثمانيينَ، بعد حكمٍ دامَ أربعةَ قرونٍ.
يَومَها قامَ الثائر (صالح طربيَّة) برفعِ العلَم بعدَ أن وَقَفَ على كتفيْ علي الأطرش شقيق سلطان، بينما كان الشَّاعرُ الثائرُ معذِّىالمغوِّش يهزجُ قائلاً:
عَرْش المَظَالِمِ انْهَدَمْ والعزّ طَبّ دِيارْنا
راحتْ عليكمْ يا عَجَمْ خَوض المعاركْ دَابْنَا
نِحْنَا حماتَكْ يا عَلَمْ بأرْواحْنا وأكبادْنا.
بعد تحرير دمشق، اعتذرَ سلطان باشا عن قبولِ أيِّ منصبٍ حكوميِّ وعاد إلى (القريَّا) ليواصلَ حياتهُ كمواطنٍ عاديّ.
كان الثَّائرُ (أدهم خنجر العاملي) يقاتلُ الفرنسيِّينَ تحتَ قيادةِ الثَّائرِ أحمد مريود. وأثْناءَ عبورهِ لجبلِ العربِ في طريقِهِ إلى جبلِ عامل بلبنان،تعرَّفَ عليهِ الفرنسيُّونَ، فشَرَعوا في مطاردتهِ. وفي السابعَ عشرَ من تموز عام 1922 لجأ أدهم خنجر إلى دار سلطان باشا بالقريَّا، مُسْتَجِيْراً بهِ، لكنَّ الفرنسييِّنَ ألقوا القبضَ عليهِ واقتادُوهُ إلى السِّجنِ.
* * *
اعتبرَ سلطان إلقاءَ القبضِ على ضيفهِ استهانةً بهِ وبعاداتِ الجبلِ وتقاليدِهِ. لذا حاولَ بكلِّ الوسائلِ أنْ يفكَّ أسْرَ ضيفِهِ، دون جَدْوى. وبعدَ أيامٍ جاءتْ ثلاثُ مصفَّحاتٍ لنقلِ السَّجينِ إلى دمشقَ، فتصَدَّى لها سلطان ورجالُهُ قُرْبَ قريةِ "الأصلحة"، فقتلوا قائدَهَا وأربعةً من جنودِهِ ودمَّروا عربتين. ولما أدْرَكَ الفرنسيونَ استحالَةَ نقلِ أدهم خنجر عن طريق البرِّ، نقلوهُ جواً إلى بيروتَ حيثُ نفِّذَ فيهِ حُكْمُ الإعدام. كما أصْدَرَ المجلسُ العرفيُّ الفرنسيُّ بدمشق في 16 تشرين الأول عام 1922 حكماً بإعدامِ سلطان باشا الأطرش لتمرُّدهِ بالسلاحِ.
لَجَأَ سلطانُ ورفاقُهُ إلى إمارة شرقيِّ الأردن. وفي تلك الأثناءِ قصفَ الفرنسيُّونَ دَارَهُ بالطائراتِ، ودمَّرُوها.
بعدَ حوالى نصفِ عامٍ من الحياةِ في المنفى، أصْدرتْ السّلطاتُ الفرنسيَّةُ، تحتَ ضغطِ القوى الوطنيَّةِ، عفواً عن سلطان ورفاقِهِ الثوارِ، فعادَ إلى دارهِ بالقريَّا.
إثْرَ عودتِهِ عرَضَ عليه الجنرال كاترو ألفَ ليرةٍ ذهبيةٍ، كتعويضٍ عن بيتهِ الذي هدَّمتْهُ قنابلُ الطائراتِ، وكانَ من أجملِ البيوتِ الأثريَّةِ في جبلِ العربِ، لكن سلطان باشا رفضَ المالَ، وخَرَجَ من الاجتماعِ غاضباً، ليسْكنَ خيمةً من الشَّعْرِ إلى جَانِبِ بيته. وقد علَّقَ سلطان على عَرْضِ كاترو قائلاً: " إن داراً تعجَزُ عن حمايةِ ضيوفها، ليسَتْ جديرةً بأنْ تظلَّ قائمةً". ومع اقتراب الشِّتاء، أصلح سلطان غرفتين لسَكَنِ عائلته، وتركَ باقي بيته مهدَّماً قائلاً: إنه لن يعمِّر بيتَهُ إلا بعد أن تُعَمَّرَ البلادُ كلُّها.
استفردَ الجنرال كاربيه بالسلطةِ بشكلٍ كاملٍ، بعد تعيينهِ حاكماً للجبلِ، فراحَ يعملُ لتمزيقِ صفوفِ الوطنيينَ، والدَّسِّ بين الشيوخِ والوجهاءِ. كما حاولَ ضرْبَ بعضِ عاداتِ الجبلِ وتقاليدهِ الراسخةِ، فقدْ أنذرَ أصحابَ المضافاتِ، بإنزالِ أشدِّ العقوباتِ بهمْ إذا لم يُغلقوها في وجوهِ الضّيوف والزوَّار. كما أصدرَ قراراً بمنعِ زيارةِ آل الأطرشِ في السويداء وحَرَّمَ حضورَ مآتمِهِم وأفراحِهِم. وكان يعبِّرُ عن احتقارهِ لشيوخِ الجبلِ ووجهائهِ، بسجنِهِم دون محاكمةٍ في مستودعٍ للفحمِ، يقعُ تحت درجِ سراي الحكومةِ، حيثُ يمنعُ الاتصالَ بهم، ولا يُسْمَحُ بخروجِهِم للتنفُّس، كما كان يجلدُهُمْ بالكرباجِ أمامَ المارَّةِ حتى تسيلَ الدماءُ من جراحِهِم البليغةِ.
* * *
أيقظتِ الإهانةُ بركانَ الغضبِ الكامنِ في صدرِ سلطان، فَعَزَمَ أن يثورَ في وجهِ الظّلم. في السابع عشر من تموز عام 1925، استيقظت القريَّا على صهيلِ الخيولِ. غادرَ الثّوارُ القريَّا يقودُهُمْ سلطان باشا الأطرش باتجاه الجنوبِ، وطافوا بقُرى جبلِ العربِ يدعونَها للثَّورة. أرسلتْ فرنسا طائرتينِ لبثِّ الرُّعبِ في نفوسِ النَّاس، وقصفتا قرية "أمّ الرمان", حيث كان سلطان مجتمعاً مع رفيقه الثائر حمد البربور وثوّاراً آخرين، فأسْقَطَ الثوارُ إحدى الطائرتين بأسلحتِهِم الخفيفة، وألقوا القبضَ على الطيَّار جنوبَ قرية "امتان".
تحتَ ضغطِ الثوارِ، التَجَأَ القومندان تومي مارتان، في الثامنِ والعشرينَ من تموز، إلى قلعةِ السويداءِ، فحاصَرَهُ سلطانُ ورجالُهُ. بدأتْ فرنسا تزوِّد جنودَها المحاصرين بالغذاءِ والذَّخيرةِ، بواسطةِ الطائراتِ، فأخذَ الثوارُ يَتَصَدُّونَ للطائراتِ بأسلحتِهِم الخفيفة، وأسقطوا أربعاً منها.
بلغتِ الهزيمةُ أسماعَ الجنرال ساراي المندوب السَّامي الفرنسي والقائدِ العامِّ في بيروتَ، فَأَعَدَّ حملةً من خمسةِ آلافِ جنديٍّ بقيادةِ الجنرال ميشو. تجمَّعتِ الحملةُ في إزرع، وانطلقتْ في أوَّل آب باتِّجاهِ الجبل.
وقَفَتِ الحملةُ لترتاحَ قربَ نبعٍ يدعى المزرعة، فهاجَمَهَا الثّوار تحتَ جُنْحِ الظَّلام، واستولوا على كمياتٍ من عتادِها.
في الصَّباحِ التَّالي، هَجَمَ الثّوارُ على معسكرِ الفرنسييِّنَ، فاخترقُوا صفوفَهُمْ واشتبكُوا معهم بالسِّلاحِ الأبيضِ. كانَ الثائرُ يقفز من فوقِ حصانِهِ، لِيَعْتَلِي ظَهْرَ العَربة المصفَّحة أو الدبابة، فينزلُ في برجِها ويقتلُ قائدَها.
يَوْمَهَا اندحرت الحملةُ الفرنسيَّةُ، وتَبَعْثَرَتْ جُثَثُ قتْلاهَا وهياكلُ مصفحاتِها ومدرعاتِها وأسلحتِها في السُّهولِ المُمْتَدَّةِ من المزرعة شرقاً إلى قرية الدرور ومشارف بصرى الحرير، غرباً، وهربَ بقيَّةُ رجالِ الحملةِ إلى إزرع.
استشهد في معركة المزرعةِ ثلاثمائة وستة وعشرون ثائراً منهم سليمان العقبانيّ، الذي قَتَل بسيفهِ أكثرَ من خمسةَ عشرَ جندياً فرنسياً قبل أن يسقط شهيداً.
* * *
في الخامس والعشرين من آب عام 1925 أعلن سلطان باشا الثَّورةَ رسمياً بالبلاغ التالي: "إلى السّلاح...إلى السّلاح يا أحفادَ العربِ الأمجاد، هذا يومٌ ينفعُ فيهِ المجاهدينَ جهادُهُمْ، والعاملينَ في سبيلِ الحريَّةِ والاستقلالِ عملُهُمْ. هذا يومُ انتباهِ الأممِ والشعوبِ، فَلْنَنْهَضْ من رقادِنَا لنبدِّدَ ظلامَ التَّحَكُّمِ الأجنبيِّ عن سماءِ بلادنا “...” لقد مضى علينا عشراتُ السنينَ ونحنُ نجاهِدُ في سبيلِ الحريَّةِ والاستقلالِ، فَلْنَسْتَأْنِفْ جهادَنَا المشروعَ بالسيفِ، بعدَ أنْ سَكَتَ القلمُ. ولا يضيعُ حقٌ وراءَهُ مطالبٌ.
أيُّها السوريونَ: لقد أثبتَتِ التَّجاربُ أنَّ الحقَّ يؤخَذُ ولا يُعْطَى. فَلْنَأخُذْ حقَّنَا بحدِّ السيوفِ، ولْنَطْلُبِ الموتَ، تُوْهَبْ لنا الحياةُ. “...”إلى السِّلاح تأييداً لسيادةِ الشَّعْبِ وحريةِ الأمةِ. إلى السلاح، بعدما سَبَى الأجنبيُّ حقوقَكُمْ واستعْبَدَ بلادَكُم، ونقضَ عهودَكُم، ولم يُحافظْ على شرفِ الوعودِ الرَّسمية وتناسَى الأماني القوميَّة.
إن حربَنَا اليومَ حربٌ مقدسةٌ، ومطالبُنا هي:
1-وحدةُ البلادِ السوريةِ، ساحِلِها وداخِلِها، والاعترافُ بدولةٍ سوريَّةٍ عربيَّةٍ موحَّدةٍ مستقلةٍ استقلالاً تاماً.
2- قيامُ حكومةٍ شعبيةٍ تجمعُ المجلسَ التَّأسِيسيَّ لوضْعِ قانونٍ أساسيٍّ على مبدأ سيادةِ الأمةِ سيادةً مستقلةً.
3- تأييدُ مبدأ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان في الحريَّة والمساواةِ والإخاء.
إلى السلاح... ولنكتبْ مطالبَنَا المشروعةَ هذه بدمائِنا الطاهرة، كما كتَبَها أجدادُنَا من قبلِنَا. إلى السلاح، والله مَعَنَا، والإنسانية معنا، وَلْتَحْيَى سوريةُ حرةً مستقلة".
انتقلَ سلطانُ إلى السويداءِ لتشديدِ الحصارِ على القلعةِ التي كانتْ مدفعيتُها الثَّقيلةُ مصوَّبَةً على أحياءِ المدينةِ. كانَ الثوارُ قد استَوْلَوا على خمسةِ مدافعَ سليمةٍ أثناءَ معركةِ المزرعةِ، فوزَّعَهَا سلطانُ حولَ القلعةِلقصفِها وإحداثِ ثغراتٍ في سورِها. وبسببِ نقصِ الذَّخيرةِ كانَ الثوارُ يعيدونَ حَشْوَ قذائفِ المدافعِ الفارغةِ بالموادِ المتفجرةِ التي كانوا يستخرجونَها من قنابلِ الطائراتِ التي لم تنفجرْ. وكان يساعدُهُم في هذا الأمرِ بعضُ الأسْرى من الجنودِ المغاربةِ الذينَ انضمُّوا للثورةِ.
في السابع عشر من أيلول، وصلتْ إلى سلطان باشا رسالةٌ تُعْلِمُهُ أنَّ حملةً من الجيشِ الفرنسيِّ بقيادةِ غاملان،قد تمركزتْ في قرية "المسيفرة". كان سلطان يدركُ خطورةَ خوضِ المعركةِ في تلكَ المنطقةِ السَّهليَّةِ، لذا رأى أنْ يُبَاغِتَ معسكَر العدوِّ بهجومٍ ليلي، قبلَ أن يستقرَّ في الموقع. وقد وافقَ على هذا الرأيِ الدكتور عبد الرحمن الشَّهبندر ونسيب البكري ونزيه المؤيد العظم وعُقلة القطامي وفؤاد سليم. لكن قواتِ العدو كانتْ قد تهيَّأتْ لهذا الاحتمال، فراحتْ تُطْلق القنابلَ المضيئةَ التي حوَّلتِ الليَّلَ إلى نهار، فانقلبتِ المفاجأةُ لصالح جنودِ العدوِّ. وقد استشهِدَ في هذه المعركة مئتان وخمسون ثائراً، من بينهِم الثائرئن عطا الله العودة وإبراهيم علي العاقل، من قرية أمِّ الرّمان.
اتَّخَذَ سلطانُ مقرَّهُ على هضبةٍ مرتفعة،جنوبيَّ مدينةِ السويداء، كي يُشرِفَ من فوقِها على ميدانِ المعركة. في الرابعِ والعشرين من أيلول، شنَّ الفرنسيونَ هجوماً مركَّزاً على الجبهةِ الشمالية الغربية للثّوار، فَخَرَقوها وتقدَّموا ليتمركزوا في قلعة السويداء الحصينة والهضابِ المحيطةِ بها، وقد نهبُوا البيوتَ والحوانيتَ والمقاماتِ وأضْرموا فيها النيرانَ.
بعد أن قام ثوار جبل العرب بإحراق دار البعثة الفرنسية في بلدة صلخد، أمر الجنرال سول SOULE قائد المنطقة العسكرية الجنوبية التي تضم دمشق وحوران وجبل العرب، حامية السويداء، بتسيير حملة تأديبية إلى جنوب الجبل لتعيد هيبة السلطة الفرنسية من جهة، وللقبض على سلطان باشا الأطرش وجلبه مخفوراً إلى دمشق من جهة ثانية.
* **
معركة الكفر
وفي يوم 20 تموز 1925، تم تعيين حملة تضم 180 رجلاً (7 ضباط و173 جندياً وصف ضابط)، بقيادة الكابيتين نورمان NORMAND، وهي تضم الوحدات التالية:
*) 111 جندياً من الفوج الثاني في (الفرقة السورية LA LEGION SYRIENNE)، بقيادة الليوتنان «هيلمجيزونHELME GUIZON».
*) 54 خيالاً من السباهيين من ملاك الفوج الثاني للسباهيين التوانسة، بإمرة الكابيتين «ماي MAILLE» ويساعده الليوتنان «كارييرCARRIERE».
*) ثمانية جنود خيالة من الكوكبة الدرزية بإمرة ضابط.
*) الطبيب الأول «فورنييه FOURNIER».
*) الضابط المترجم جوزيف صايغ.
ووصل هذا الرتل صباح 20 تموز إلى قرية (الكفر)، فقام بالتفتيش عليه هناك الكومندان «تومي مارتان TOMMMY MARTIN» حاكم جبل الدروز بالوكالة، ثم عاد هذا إلى السويداء في اليوم نفسه، فوجد هناك الطبيب «فيربوزييه VERBEIZIER»، وكلفه فوراً بالالتحاق برتل الكابيتين «نورمان» برفقة سيارة صحية.
أقام الكابيتين نورمان مخيمه قرب نبع قرية «الكفر»، ونقله بعد الظهر إلى أرض مجاورة مرتفعة نسبياً تسيطر على السهل المجاور لها، إلا أن هذه الأرض كانت مقسمة إلى عدة قطاعات، بينها جدران قليلة الارتفاع، يمكن استخدامها كسواتر، وتم وضع الخيالة السباهيين في مكان، وجنود الفرقة السورية من المشاة في مكان ثان، ومركز القيادة مع بغال النقل وذخيرة الحملة في مكان ثالث.
وفي صباح يوم 21 تموز 1925 مرّ الكابيتين الطيار «بواسون BOYSSON» بطائرته في طيران استطلاعي فوق طريق السويداء - الكفر - صلخد، ولم يسترع انتباهه ما يثير الريبة، فعاد وحطّ في مطار السويداء حوالي الساعة 10,30 من صباح ذلك اليوم، ويبدو أن سلطان الأطرش كان يتتبع الحملة منذ انطلاقها من السويداء، وبما أنه كان يعرف منطقة الكفر، التي تمركزت فيها الحملة، معرفة جيدة، فقد قام بتقسيم المجاهدين الذين كانوا معه وفق طبيعة الأرض وحجم القوة المعادية وكيفية تمركزها، وكانت خطته الهجومية بسيطة ولكنها فعّالة، حيث قسم عناصره إلى ثلاث مفارز، مفرزة مشاة (رجّالة) ومفرزتي فرسان (خيالة)، وقد كلف سلطان مفرزة المشاة بالتسرب بحذر، والتقرب ما أمكن من الناحية الجنوبية الغربية للمعسكر، وهي منطقة وعرة يسهل الاحتماء بها، للقضاء على الجنود الذين سيحاولون اتخاذ أماكن مناسبة لهم للقتال فيها، وأما مفرزتا الخيالة فقد كلفهما بالتقدم من الشرق على جبهة واسعة بغية مهاجمة المخيم من الشمال الشرقي والجنوب الشرقي بالتتابع، وهي مناطق مفتوحة نسبياً وتسهل حركة الخيالة فيها.
وفي الساعة 12.30 من يوم 21 تموز، وبعد أن تناول الجنود الفرنسيون طعام الغداء، فكّوا سروج خيولهم لإراحتها، وهجعوا في قيلولة قصيرة، أيقظهم منها هجوم فجائي شرس شنّه عليهم حوالي 700 مجاهد (500 خيال و200 راجل) كمنوا خلف الجدران القصيرة وبدؤوا بإطلاق النار، وكان أول ما فعله الثوار هو السيطرة على الرشاش والاستيلاء عليه كغنيمة، بينما تم إسكات الرشاش الثاني في الجهة المقابلة.
وقد أحس قائد الحملة بضغط الثوار على موقعه في الساعة الثانية بعد الظهر، فطلب النجدة من الكومندان «تومي مارتان» فأرسل هذا له ثلاثة رشاشات آلية ورعيلاً من السباهيين كلّفه بتغطية انسحاب مفرزة الكابيتين نورمان بكاملها إذا لزم الأمر.
وكان هجوم الثّوّار بقيادة سلطان الأطرش على الجيش الفرنسي محكماً وعنيفاً بشكل لم يتمكن الجنود من تنظيم أنفسهم في المعركة كما يجب، ونفدت الذخيرة خلال ساعة من القتال العنيف، وجُرح الكابيتين "نورمان" في فخذه الأيمن، ولما يئس من إمكانية متابعة المقاومة في ذلك المكان نفسه، أمر جنده بتركيب حرابهم ومحاولة شق طريق لهم، ولكن الانسحاب كان صعباً في تلك الظروف. وبكثير من الصعوبة، تمكنت مجموعة الضباط (الكابيتين نورمان - الكابيتين ماي – الليوتنان هيلمجيزون ـ الليوتنان كاريير)، ومعهم جماعة من السباهيين، من اللجوء إلى أرض مرتفعة نسبياً ومتابعة المقاومة لمدة عشرين دقيقة أخرى، قبل أن يتلقى الليوتن انهيلمجيزون رصاصة في رأسه، وأُجبر الباقون على محاولة التسلل والنجاة بأنفسهم، ولكن تم تطويقهم من جديد، وسقطوا جميعاً بين قتيل وجريح أو مفقود ، وكانت الجماعة الوحيدة التي تمكنت من النجاة سليمة هي جماعة السيرجان «كابيولادشيCAPIOLADCHY»، وكانت نجاتها بفعل الحظ، إذ كان أفرادها مكلفين بمهمة سخرة في قرية الكفر نفسها لما نشبت المعركة، فاستجار أفرادها بمختار القرية الذي أجارهم، ثم أطلق سراحهم لكي يذهبوا إلى السويداء ويخبروا قائد حاميتها بما حدث.
ومن أصل تعداد حملة «نورمان»، التي كانت تضم سبعة ضباط و173 جندياً، لم يَعُدْ من المعركة سليماً إلا:
*) رقيبان و47 جندياً من أفراد الفرقة السورية، منهم 13 جريحاً.
*) عريف فرنسي (دو كار DU CARRE) ومعه 17 جندياً من الخيالة السباهيين، بينهم 6 جرحى.
*) رام من الرماة الشمال أفريقيين.
وقُتل الباقون جميعاً وهم 7 ضباط و62 جندياً من أفراد (الفرقة السورية LA LEGION SYRIENNE)، و36 جندياً من السباهيين (بينهم ثمانية صف ضباط من الفرنسيين) وسائق سيارة فرنسي (المجموع 106 قتلى).
وسقط من الثوار حوالي عشرين شهيداً كان على رأسهم مصطفى الأطرش، شقيق سلطان، وإسماعيل الأطرش نجل جاد الله الأطرش، ونصار البربور، وشكيب غزالة.
وتعتبر معركة الكفر (21 تموز 1925) مثلاً ناجحاً عن الإغارة الحربية النموذجية، فقد توفّرت عوامل النجاح من خلال بُعد نظر القائد، والتحضير الجيد، ومعرفة أرض المعركة مسبقاً بصورة دقيقة، والمهارة في استخدام الأرض من حيث التضاريس والسواتر، والسرعة والفعالية في التنفيذ، وبسالة المنفذين في أدائهم لمهامهم، والتنسيق الجيد بين مختلف العناصر القائمة بالإغارة وقيادتها.
* **
امتداد الثورة
امتَدَّت الثورةُ فشَمَلَتْ جنوبَ سوريَّةَ بأكملِهِ، كما انتقلتْ إلى غوطةِ دمشقَ وحماه وحمص والقلمون والبقاع الغربيِّ. وقد لاحَظَ الثوارُ في معاركِ الغوطةِ وبعضِ معاركِ الجبلِ أنَّ الجنودَ المغاربة في الجيشِ الفرنسيِّ، كانوا يتحاشَوْنَ إطلاقَ الرَّصاصِ على مواقعِ الثوار، وقد جازَفَ بعضُهُم بحياتِهِم وتعاونوا سراً مع رجالِ الثورة، ليساهموا في معركةِ الاستقلال بدافعٍ من شعورِهِم العربيِّ الأصيلِ، وعلى رأسِ هؤلاءِ ضابطٌ جزائريٌ كبيرٌ يدعى عكَّاف الجزائري، الذي كان يحذِّرُ الثوارَ من الحملاتِ الفرنسيةِ قبلَ تحرُّكِها، ويأمرُ جنودَهُ الذين يعرفونَ سرَّهُ بتركِ الأسلحةِ وصناديقِ الذخيرةِ والقنابلِ اليدوية للثوارِ قبلَ انسحابِهِم.
* * *
استمرَّتِ المعاركُ بينَ الثوار وجنودِ الاحتلالِ. لم يكنْ من السَّهلِ على الثوار تعويضُ خسائرِهِم في المعارك، في الوقتِ الذي استطاعَ الفرنسيون أن يدعموا جيشَهُم بإمداداتٍ عسكريةٍ كبيرة جاؤوا بها من المغرب عقبَ استسلامِ بطلِ ثورةِ الريفِ الأميرِ عبد الكريم الخطابي، هناك.
في السابعِ والعشرينَ من أيار عام 1926، حُكِمَ على سلطان باشا مرةً ثانيةً بالإعدامِ من قِبَلِ المجلسِ العرفيِّ الفرنسيِّ بدمشق. وبدأت القواتُ الفرنسيةُ تُضَيِّقُ الخناقَ على الثوار، وراحت طائراتُها ومدافِعُها تقصفُ مخيماتِهم ومراكزَ تجمُّعِهِم، ممَّا جعلَ سلطانَ يقرِّرُ النّزوحَ مع الأوفياءِ من رجالهِ إلى شرقيِّ الأردن، حيثُ استقرَّ في واحة الأزرق. لم تَطُلْ إقامةُ سلطان ورفاقه الثوار طويلاً في الأزرق، بسبب مضايقاتِ السلطاتِ الإنجليزيةِ له، فَنَزَحوا إلى السعوديةِ، وأقامُوا في الصحراء أكثرَ من عشرِ سنواتٍ، تحمَّلوا خلالها أشدَّ أنواعِ الصِّعاب.
رافقَ سلطانَ في منفاه شقيقُهُ زيد. وقد قالَ زيدٌ أثناءَ غربتِهِ أبياتاً مؤثِّرةً من الشِّعرِ الشَّعبيِّ غَنَّتْهَا أسمهان فيما بعد:
"يا ديرتي مالك علينا لومْ
لا تعْتبي لومكْ على من خَانْ
إحْنا روينا سيوفنا من القومْ
مثلَ الرَّدى ما نرخصك بأثمانْ!"
* * *
أثناءَ وجودِ الثائرِ سلطان مع رفاقهِ في السعوديةِ، التقتْ به كاتبةٌ فرنسيةٌ وطرحتْ عليهِ الأسئلةَ التالية:
-"عطوفةَ القائدِ العام: هل تريدُ سوريةَ ملكيَّةً أم جمهوريةً، بعد نيل الاستقلال؟"
أجابَها قائلاً:
- "المهمُّ تحريرُ البلادِ من المحتلِّ أولاً، وبعْدَها فالشعبُ هو الذي يقرِّرُ نظام حكمِهِ الجمهوري...الشَّعبُ وحدَهُ يقرّر."
في لقاءٍ آخرَ، سُئِلَ سلطان الأطرش: "مَنْ قاتلَ من بني معروف في الثورة، يا باشا؟"
قال: "كلُّ الجبل قاتلَ فرنسا."
سُئِلَ: "وَمَنْ قَاَتَل من سوريةَ في الثورةِ، يا باشا؟"
قال:"كلُّ سورية قاتلتْ فرنسا."
سئل: "ألمْ يكنْ هناك عملاء سوريون مع فرنسا؟"
قال: "نعم كان هناكَ عملاءُ، إلا أنهم ليسُوا سوريين!"
خلالَ المفاوضاتِ التي جَرَتْ في باريس بينَ الوفد الوطنيِّ السوري، وحكومةِ الانتداب، كان من بين مطالبِ الوفدِ السوري المفاوض، العفوُ عن قائدِ الثورة السورية الكُبرى وَمَنْ مَعَهُ. وهكذا عاد سلطان إلى عرينِهِ بالقريَّا بعد نحو عشرِ سنين في المنفى!
بعد عودتِهِ من المنفى، قِيْلَ لهُ: إن بعضَ الأهالي حصلوا على ألقاب ونياشين، فسأل المتكلمَ: "من أعطاهم تلك الألقابَ والنياشينَ؟"
أجابَه: "الفرنسيون“.
عندئذٍ أشارَ سلطانُ إلى فردةِ حذائِهِ وقال:"إنها لا تساوي هذه“.
كان القائدُ سلطانُ يردِّدُ دائماً: "ليس عندنا أقليةٌ أو أكثريةٌ، كلُّنا أخوانٌ في الوطنيةِ".
وهو يكادُ يكونُ قائدَ الثورةِ الوحيد في العالم، الذي انتصرتْ مبادئُ ثورتِهِ وحقَّقَت استقلالَ البلادِ، ثم تنحَّى بعد تحقق الهدفِ الذي قاتلَ من أجله، وعاد إلى قريتهِ، ليتابعَ حياتَهُ كفلاحٍ بسيطٍ.
* * *
يروي شهودٌ عيان أنَّ أديب الشيشكلي، الذي نصَّبَ نفسَهُ رئيساً للجمهورية بعد انقلابٍ عسكريٍّ، قد حضرَ إلى بستان سلطان باشا في (حُزحُز) قرب القريا. كان سلطانُ كأي فلاح جالساً على الأرض يرتاح من العمل. وقد احتارَ الشيشكلي أين يجلس، إذ لا يوجد هناك كرسيّ. فقال له سلطان:
"اقعدْ على الأرض يا أديب! نحن افترشْناها اثنتي عشرة سنة. أنت الآن رئيس دولةٍ نالتِ استقلالَها بفضلِ نضالِ المجاهدين والوطنيين ودماء الشهداء، فعليكَ تكريم أحرارِ البلاد، والمحافظة على الأمانةِ، وعدم استغلالِ السلطة."
عقبَ وفاتِهِ، عام 1982، تلا ابنُهُ منصور وصيتَهُ وقد جاءَ فيها:
"أخوتي وأبنائي العرب:
"عزمْتُ، وأنا في أيَّامي الأخيرةِ أنتظرُ الموتَ الحقَّ، أن أخاطبَكُم مودِّعاً وموصياً. لقد أولَتْني هذه الأمةُ قيادةَ الثورةِ السوريةِ الكُبرى ضدَّ الاحتلالِ الفرنسيِّ الغادر، فقمتُ بأمانةِ القيادة وطلبتُ الشهادةَ وأدَّيْتُ الأمانة. انطلقت الثورةُ من الجبل الأشمِّ، جبلِ العرب، لتشْمَلَ وتعمَّ، وكان شعارُها: "الدِّينُ لله، والوطن للجميع"، وأعتقدُ أنها قد حققتْ لكم عزةً وفخاراً، وللاستعمارِ ذلاً وانكساراً. وصيَّتي لكم إخوتي وأبنائي العرب، هي أن أمامكم طريقاً طويلة، ومشقاتٍ شديدة تحتاجُ إلى جهادٍ وجهاد: جهادٍ مع النَّفسِ، وجهادٍ مع العدوِّ. فاصْبروا صَبْرَ الأحرار، ولْتَكُن وحدتُكُم الوطنيَّةُ، وقوَّةُ إيمانِكم وتراصُّ صفوفِكم هي سبيلُكُم لردِّ كيدِ الأعداءِ وطردِ الغاصبينَ وتحريرِ الأرض.
واعلموا أن الحفاظَ على الاستقلالِ أمانةٌ في أعناقِكم بعد أن ماتَ من أجلهِ العديدُ من الشهداءِ، وسال للوصول إليه الكثيرُ من الدماءِ.
واعْلموا أن وحدةَ العربِ هي المنعةُ والقوةُ، وأنَّها حلُمُ الأجيالِ وطريقُ الخلاصِ. واعلموا أنَّ ما أُخِذَ بالسَّيْفِ، بالسيفِ يؤخَذُ. وأنَّ الإيمانَ أقوى من كلِّ سلاحٍ، وأنَّ كأسَ الحنظلِ بالعزِّ، أشْهى من ماءِ الحياةِ مع الذّلِ، وأن الإيمانَ يُشْحَذُ بالصَّبْرِ ويعزَّزُ باليَقِيْنِ ويُقَوَّى بالجهادِ.
عودوا إلى تاريخِكم الحافلِ بالبطولاتِ، الزَّاخرِ بالأمجادِ.
إنِّي لم أرَ أقْوى تأثيراً في النفوس من قراءةِ التاريخِ، لتنبيهِ الشُّعور وإيقاظِ الهمم، لاستنهاضِ الشعوبِ لتظفرَ بحرِّيتِها وتحقِّقَ وحدتَها وعزَّتَها وكرَامَتَها وترفعَ أعلامَ النصر ...".

* بتصرّفٍ واسعٍ.

نقلاً عن صفحة صالح العاقل