كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مؤسس الصهيونية هرتزل وموقف كل من البلاطين الألماني والعثماني من مشروعه

د. عبد الله حنا- فينكس

الصهيونية، حركة سياسية يهودية هدفها إقامة دولة يهودية في فلسطين، وتشجيع هجرة اليهود في أنحاء العالم للإستيطان في فلسطين. وتعود بدايات الفكر الصهيوني إلى القرن التاسع عشر عندما نادت الأوساط البروتستانتية المتطرفة بالعقيدة الإسترجاعية، أي ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين لتحقيق الخلاص وعودة المسيح. وفي منتصف القرن التاسع عشر أخذت تتبلور في أوساط بعض المثقفين اليهود فكرة "العودة" إلى فلسطين والاستيطان فيها. وتزامنت هذه الفكرة مع صعود الإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية، وهيمنة البورجوازية اليهودية على كثير من مفاصلها.
كان مركز الحركة الصهيونية في البدء في ألمانيا، وفي تلك المرحلة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين نشط مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل لكسب إمبراطور ألمانيا لتحقيق المطامع الصهيونية في الاستيطان في فلسطين، وهذا محور بحثنا في هذا الفصل. ومع صعود الإمبريالية البريطانية وهيمنتها على أقسام واسعة من العالم نقلت الحركة الصهيونية مركز نشاطها من ألمانيا إلى بريطانيا في الحرب العالمية الأولى وتسنى لها عام 1917 إعلان وعد بلفور بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود. وبعد تبوء الإمبريالية الأميركية المركز المتقدم في العالم نقلت الحركة الصهيونية مركز نشاطها من بريطانيا إلى أمريكا وتسنى لها عام 1948 إقامة الدولة الإسرائيلية على الأرض العربية.
تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ولد في بودابست عام 1860 وتوفي في النمسا عام 1904. حصل على دكتوراه في القانون وعمل في فيينا محامياً لفترة من الزمن، ثمّ توجه إلى الأدب والتأليف وعمل في الصحافة، وهو مؤلف كتاب "الدولة اليهودية" المنشور عام 1896 واضعاً فيه حجر الأساس للحركة الصهيونية التي قادها حتى وفاته. [129]
اُنتخب هرتزل رئيسا للمؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في مدينة بازل السويسرية في آب 1897. قابل القيصر الألماني فيلهلم الثاني مرتين، وقابل السلطان عبد الحميد 1901 محاولاً كسبه، دون نجاح، إلى جانب المشروع الصهيوني. [130]
عام 1934 صدر في فيينا كتاب ألكس باين: تيودور هرتزل (بيوغرافي) تناول في فصله التاسع علاقة هرتزل بالسلطان عبد الحميد، أو بالأصح مساعي هرتزل الفاشلة لانتزاع اعتراف من السلطان بالموافقة على حرية الصهيونية في إستعمار فلسطين.
أشار الكاتب النمساوي بأن هرتزل سعى منذ بداية نشاطه لكسب قيصر ألمانيا إلى جانب سياسته اليهودية. وأدرك أن موافقة القيصر على مشروعه تسهّل عمله في إستنبول. فالسياسة الألمانية دعمت إلى حد بعيد الموقف العثماني في المسألة الأرمنية وقضية كريت 1896، وكذلك في الحرب اليونانية التركية. ولم تكن السياسة الألمانية تطمح في اقتطاع أقسام من الدولة العثمانية بل كان همها منصبّاً على تأمين الأسواق الإقتصادية لمنتجاتها الصناعية. ولهذه الأسباب حازت الدبلوماسية الألمانية على ثقة حكومة إستنبول. ومن هذا الدهليز طرق هرتزل باب القيصر الألماني لوصل ما انقطع من اتصال مع إستنبول عن طريق ألمانيا. [131]
وعندما تناقلت الأخبار في صيف 1897 عزم القيصر غليوم زيارة القدس وافتتاح كنيسة المخلص الأنكليكانية، أخذ هرتزل يكثف اتصالاته مع الدوائر النافذة في القصر الإمبراطوري بغية اللقاء بالقيصر، كي يشرح له القضية الصهيونية واضعاً إياها في خدمة المصالح الألمانية، لا سيما أن أغلبية اليهود يرضعون من لُبان الثقافة الألمانية. ولم ينس هرتزل الإشارة إلى أن المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في بازل كانت اللغة الرسمية فيه هي الألمانية. فإذا اقتنع القيصر، صديق السلطان عبد الحميد برأي هرتزل ومهّد له أمر اللقاء مع السلطان عبد الحميد، فسيكون من السهل على هرتزل، كما اعتقد، شرح مشروعه الصهيوني أمام السلطان العثماني كي يفتح له الطريق لاستيطان اليهود في فلسطين. [132]
ولم يكن جميع من اتصل بهم هرتزل من الألمان محبذين لمشروعه الصهيوني، ولهذا كان يُذَكّرهم خلال لقاءاته بهم أن الصهيونية معادية للإشتراكية حتى العظم، وهذا مما يخدم السياسة القيصرية اليمينية، التي كانت تحارب الحزب الاشتراكي الألماني ذي النفوذ الواسع في ألمانيا. [133]
في لقائه السري الذي دام ساعة مع القيصر، تحدث هرتزل عن مشاريعه الاقتصادية التي ستصبّ في صالح الألمان. وقد أدرك القيصر غليوم مراميه فقال له: "قل لي بكلمة واحدة ماذا عليّ أن أطلب من السلطان"، أجاب هرتزل: "شركة قانونية company chartered تحت الحماية الألمانية". [134]
بعد مراسلات متعددة استقبل السلطان عبد الحميد يوم الجمعة بتاريخ 17 أيار 1901 هرتزل بعد الإحتفال الأسبوعي للسلاملك. وقبل اللقاء أخبره مدير التشريفات إبراهيم بك أن السلطان منحه وسام المجيدي من الدرجة الثانية. دام اللقاء مع السلطان أكثر من ساعتين. وخلافاً لإرادة هرتزل استقبله السلطان كمحرر (وليس مدير تحرير ) "الصحافة الحرة الجديدة". وأُُعلم قبل اللقاء بأن عليه ألا يتحدث عن الصهيونية، وقام بالترجمة من التركية إلى الفرنسية وبالعكس إبراهيم بك. [135]
بدأ السلطان حديثه مع هرتزل عن مجلته "الصحافة الحرة الجديدة". وحسب رواية هرتزل قال السلطان له إنه يقرأ المجلة دائما، منوها بعلاقة الصداقة بين تركيا والنمسا، وبعدها ناول السلطان هرتزل سيكارة قائلا: إنه صديق اليهود وأنه يعتمد على المسلمين واليهود. فعلق هرتزل بأن اليهود لم يعاملوا بالعدل. فأجابه السلطان بأن دولته فتحت أبوابها للمهاجرين اليهود القادمين من رومانيا. ثم انتقل الحديث إلى مسألة الديون المترتبة على الدولة العثمانية وأفاض هرتزل في الحديث عن المشاريع المنوي إقامتها. [136]
لم يقابل هرتزل السلطان عبد الحميد إلا مرة واحدة من أصل زياراته الخمس إلى إستنبول بين عامي 1896 و 1902. وقد تبيّن هرتزل أن السلطان كان ضد خلق دولة يهودية في فلسطين. وللوصول إلى هدفه سعى للتأثير على العثمانيين عن طريق تزويدهم بمنافع مادية مقابل الإذعان لطلباته، وبعد أن اكتشف عام 1901 حماس عبد الحميد إلى استعادة إدارة الدين العام الذي كان تحت إدارة الدول العظمى، التي حاولت الاستغلال الواسع للإمتيازات الأجنبية. وهذه الإمتيازات اكتسبت مميزات القانون وأصبحت حقوقاً للدول العظمى تمارس من خلالها السياسة الداخلية التركية لصالحها الإمتيازات قادت إلى نظام الحماية وهو نوع من التنظيم الذي يخول للرعايا العثمانيين إما الحصول على الجنسية الأجنبية وإما طلب الحماية. [137]، ومن هنا يمكن فهم تحفظ عبد الحميد من ناحية إقامة مستوطنة يهودية في فلسطين، ولم تكن الحكومة العثمانية ساذجة للقبول بالوطن اليهودي في فلسطين.
قبل 1892 لم تكن الحكومة العثمانية تفرض على اليهود العثمانيين أية قيود في شراء أو بيع الأراضي وانجاز الصفقات مع الملاك العرب في شراء الأرض بأسعار غالية وتسجيلها باسم اليهود. ولمنع هذه الصفقات صدرت الأوامر من إدارة تسجيل الأراضي في نوفمبر 1892 إلى متصرف القدس إبراهيم حاجي باشا أن يوقف بيع الأرض الأميرية لليهود حتى ولو كانوا رعايا عثمانيين. [138]
وعلى الرغم من الممانعة تمكن الصهيونيون أن يخترقوا القوانين بألاعيبهم ويوطنوا آلاف اليهود في فلسطين. وبحلول عام 1908 كان عدد اليهود في فلسطين قد زاد على ثمانين ألفا وهو ما يبلغ ثلاثة أضعاف عددهم في عام 1882، عندما فرضت القيود الأولى على دخولهم للبلاد. ومع ذلك تمكن اليهود حتى عام 1908 من إقامة ست وعشرين مستعمرة [139].