كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

السلفية

د. عبد الله حنا- فينكس

السلفية تيارات متعددة تختلف في الزمان والمكان. وسنقتصر في هذا الفصل على البحث في السلفية النهضوية التي ظهرت نتيجة عصر النهضة في آواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين. وسنترك الحديث عن السلفيات الأخرى الى فصل لاحق.
السلف في اللغة هو كلُّ زمن مضى. وعصرُنا اليوم سيصبح سلفاً بالنسبة للأجيال الماضية. وكل تيار من التيارات الفكرية السياسية له ماض وحاضر ومستقبل. والماضي هو سلف كل تيار وكل تكتل فكري او سياسي. وبهذا المعنى فالسلفيون لا يعيشون فقط في التيارات الدينية، كما هو شائع، بل إن حضورهم يُشاهد في كل مكان وحتى الماركسية أصبح لها سلفية. وعلى الرغم من ذلك فإن مصطلح السلفية مرتبط بالاسلام وبخاصة في عصوره الحالية.
والسلف كلمة اكتسبت عند التقليديين من رجال الدين معنى اصطلاحيا يُراد به القرون الهجرية الثلاثة الأولى. يضم الرعيل الأول منهم من عاصر الرسول، ويمثّل الرعيل الثاني التابعين والثالث تابعي التابعين.
والسلفية في معناها الاسلامي العام تُطلق على كل دعوة للإقتداء بالسلف الصالح والتمثل به في العبادات والمعاملات. وكانت مدرسة المنار لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا الممثلة الكلاسيكية للسلفية، التي أطلقنا عليها "السلفية التنويرية"، التي أسسها جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وسار على نهجهما رشيد رضا في مناره. مع الأخذ بعين الاعتبار أن المنار مرت بمراحل متعددة تراوحت بين السير على هدى الافغاني ومحمد عبده أو اتخاذ نهج محافظ تخلله الإنغلاق أحيانا أو الجمع بين منزلتين. والسلفية التنويرية كايديولوجية أصولية اسلامية تقوم بإعادة تقييم وتنشيط ماض السلف الصالح وقوامها الفكري يتموضع حول قضيتين رئيسيتين متلازمتين: إبطال التقليد وإعادة فتح باب الاجتهاد. وكان هذا التيار يعني عند محمد عبده تحرير الفكر من ربقة التقليد..
وتعني السلفية عموما العودة إلى ينابيع الإسلام الأولى، ورفض كل ما يرون أنه أُلصِقِ بالاسلام وليس من بين تعاليمه في شيء... وهذه الفكرة ذو حدين: إذ يمكن للفكر السلفي الرجعي أن يستند إليها لرفض كل جديد من الاجتهادات الهادفة إلى جعل الشرائع الدينية تتمشى مع حركة تطور المجتمع. كما يمكن للفكر المتحرر في إطار الدين نفسه، أن يستند إلى هذه الفكرة لرفض كل ما راكمته الطبقات الحاكمة والفئات الرجعية من أعراف وممارسات تَنشر الخرافات وتدعم الاستبداد وتبرر الظلم وتعمل على تأييد الاستثمار وتجميله وتغذي التعصب الطائفي.
والسلفية ليست موحدة في تفكيرها عبر التاريخ. فثمة سلفية متحررة من الخرافة يقابلها سلفية جامدة محافظة. وهناك سلفية تعزز سلطان العقل ويقف في وجهها سلفية تتنكر للعقل.. ونحن نستخدم تعبير السلفية التنويرية أو النهضوية التي تدعو إلى تحرير العقل من ظلمات الجمود ويأتي في طليعة هذه السلفية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد رشيد رضا في كثير من كتاباته.
والعقل عند عبده هو "قوة القوى الانسانية وعمادها، والكون جميعه هو صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه". ويرى عبده أن على الذين يريدون تفسير القرآن تفسيراٍ حديثا مستنيرا أن يطرحوا جانبا رؤية السابقين من المفسرين.
ولا يخفى أن شعار الرجوع الى السلف المتبنَى بقوة وحماس من طرف الاصلاحيين الاسلاميين أو السلفيين التنويرين هو تعبير عن ارادتهم في التغيير بما يتناسب مع العصر، وفي الوقت نفسه هو دعوة الى استيعاب ايجابيات الآخر وهو الغرب بتياريه البورجوازي والاشتراكي. والاسلام من وجهة نظر هذه السلفية معارض للحكم الاستبدادي وليس هو سبب تخلف المسلمين بل إن السبب الحقيقي يكمن في سلوك المسلمين أنفسهم وعدم تبنيهم للمنجزات البورجوازية التي حققها تطور الرأسمالية والحركة المناهضة للإقطاعية وعصر التنوير وما تلاه من منجزات حضارية.
والسلفية التنويرية في خطها العام تسعى لإبراز الجانب العقلاني في الدين الاسلامي وفتح باب الاجتهاد في تفسير أحكام الدين للتلاؤم مع احتياجات العصر وضروراته... إنها محاولة للتوفيق بين النقل والعقل واصلاح أمر المسلمين بإعادتهم إلى الاسلام الصحيح النقي من الخرافات والأوهام وإطلاق الاسلام من عزلته التي فرضها الشيوخ المتحجرون.
والسلفيون النهضويون الأوائل لجؤا إلى محاولة خلق توازن بين "التحديث" والمحافظة على الهوية في مواجهة التحدي البورجوازي , الذي دفع بالحضارة الأوروبية صعدا نحو التقدم والرقي.
ونشير هنا إلى أن دعاة السلفية في بلاد الشام في اواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، تحديدا في عصر السلطان عبد الحميد لعبوا دورا تنويريا واضحا ضد الطغيان والاستبداد السلطاني ووقفوا في وجه دعاة التقليد والجمود وإبقاء البلاد غارقة في بحر الخرافات والأساطير. ومرة أخرى نؤكد أن سلفية بلاد الشام في تلك المرحلة كانت خطوة أسهمت في التقدم والتحرر. أما سلفية هذه الأيام فهي تختلف اختلافا جذريا عن السلفية التنويرية المتاثرة بعصر النهضة في البلدين المتقدمين مصر وبلاد الشام.
وعلى أرضية هاتين السلفيتين نبتت حركة الإخوان المسلمين. مع الإشارة إلى ان حركة الإخوان المسلمين في مصر نهلت من سلفية صحراء نجد، في حين اتكأت حركة الإخوان المسلمين في سورية على "السلفية النهضوية الشامية"، التي تلقفت افكار محمد عبده وسارت على خطاها.