كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

لقاء وحديث طويل مع المناضل الراحل الفريق عفيف البزري

لقاء وحديث طويل هام جداً مع المناضل العربي الكبير الراحل الفريق عفيف البزري (1914-1994) أجرته مجلة "المنابر" في بيروت - في آذار/مارس 1989- وقد شارك في الحديث: معن بشور- منصور هنود- حسين عبد الله- رحاب مكحل، وسجل الحديث وكتبه: سمير رباح:
و إذ تعيد فينكس نشره، فلاعتقادها بأهميته، و أهمية الأفكار و الرؤى التي طرحها و قدمها الفريق عفيف البزري، و مدى راهنية بعضها، ناهيك عن كشفه الأضواء عن جانب من التاريخ -تاريخ منطقتنا- كان هو أحد صنّاعه.
ليس في قبضة يده وهي تصافحك، ولا في روحه الحارة وهي تحاورك، ولا في جسمه المتماسك وهو يواجهك، ولا في حماسته المندفعة وهي تغمرك ما يشير الى أنك أمام رجل جاوز الخامسة والسبعين من عمره.. الفريق عفيف البزري اسم برز في حياة سوريا عشية الوحدة.. لقب بـ"الجنرال الأحمر" بهدف دفع سوريا جيشاً وشعباً في الانحياز للشيوعية تبريراً لتطويقها من قبل دول حلف بغداد.. ورغم أنه كان قائداً للجيش السوري عشية الوحدة مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر، إلّا أنه كان أول الخارجين من (الجيش الأول) الذي عُين قائداً له لفترة بسيطة بعد خلاف مع القيادة ما لبث أن تطور واحتد وساده شيء من "الانفعال وقلّة الصبر" كما عبّر عن ذلك الفريق عفيف البزري وهو يؤكد إعجابه بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ويشير الى أنه كان مختلفاً مع تيار في النظام المصري أوصل مصر الى حكم أنور السادات..
ولادته في صيدا، ونشأته وحياته في دمشق، وقتاله في حرب فلسطين عام 1948، ودوره في الوحدة المصرية-السورية عام 1958، كلها أمور تجعل منه قومياً في نظرته وتكوينه، وشديد الثقة بحيوية هذه الأمة وقدرتها.. ما عدا نزعته التقدمية الواضحة، وعداءه الشديد للامبريالية والصهيونية، وهو ما يشترك فيه مع العديد من الوحدويين والوطنيين العرب..
من الصعب أن تلمس في آرائه ومواقفه أثراً لتلك التهمة التي لازمته طيلة سنوات بروزه على واجهة الأحداث في سوريا وهي تهمة الجنرال الأحمر.. ومع ذلك فإن أفضل من يحدثنا عن عفيف البزري هو عفيف البزري نفسه في هذا الحوار:
- الفريق عفيف البزري، ولادتك اللبنانية ونشأتك السورية تطرحان مسألتين: فهل تعطينا لمحة عن حياتك ومسؤولياتك وفكرة عن العلاقات بين لبنان وسوريا؟
ج - السؤال يعود بنا الى الأصل في أن سوريا هي سوريا الطبيعية وليست سوريا المقسمة بين سوريا وفلسطين ولبنان والأردن كما هي الحال الآن.. وسوريا هي واحدة من حدود مصر وكانت كذلك عبر التاريخ.. وكان من الطبيعي أن ينشأ المرء في لبنان ويعيش في بلده سوريا أو فلسطين.. أنا ولدت في صيدا في لبنان وقد عمل والدي في لبنان وفلسطين وسوريا أي في سوريا الطبيعية الحقيقية، وليس كما أراد لها المستعمرون كما هي الحال الآن.. وقد تنقلت مع والدي -بحكم عمله كقاض- بين مختلف المدن والمناطق السورية ثم عدنا أخيراً الى دمشق. وقد تفتح إدراك جيلي على الثورة السورية الكبرى في العشرينات ونما روحنا وفكرنا على أخبار تلك الثورة المجيدة، وكان أبطال هذه الثورة أمثال نظير النشواتي وفوزي القاوقجي وسعيد العاص وسلطان الأطرش وغيرهم فرسان أحلامنا في طفولتنا وفي مراهقتنا. وفي الثلاثينات انتميت إلى "عصبة العمل القومي" ثم بعد المعاهدة السورية-الفرنسية التي عقدت سنة 1936 كنت من أول الأفواج التي انتسبت الى الكلية العسكرية بعد أن أنهيت دراستي الثانوية في المدارس السورية. وفي سنة 1941 التحقت بصفوف ثورة العراق التي كان يقودها رشيد عالي الكيلاني ضد الاستعمار الانكليزي، وقد كلفني ذلك حكماً بالاعدام وملاحقات دامت حوالي السنة، إلى أن توسط لي المرحوم اللواء فؤاد شهاب الذي كان يومها في قيادة جيوش الشرق، وعدت إلى بيروت بعد صدور عفو عني.
وفي 1945 أوقفت وجيء بي الى سجن بيروت، فلم أطق السجن طويلاً، ففررت والتحقت بالحكومة الوطنية السورية بدمشق.
- هل تروي لنا قصة فرارك من السجن؟
ج -بعد توقيفي بأيام رحت أسمع عن حوادث دمشق وهجوم الفرنسيين عليها، وقصف أحياء دمشق وتدمير البرلمان بالمدافع والطيران، فلم أصبر على سجني وهاج بي الشوق لأن ألتحق بقومي فأقدمت على الفرار في ليلة الخامس من حزيران سنة 1945 في تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل منتهزاً فرصة تبديل الحرس حول السجن، وبعد ابتعادي بأمتار صادفت مواطنين لبنانيين ساعداني في التعرف على عائلة كريمة وهي من آل العيتاني التي كانت تقطن في حي الروشة في بيروت. وقد ساعدني شابان من أبناء هذه العائلة في الوصول الى دمشق والدفاع عني طوال هذه الرحلة. بعدها عدت إلى بيروت لاستلام قطعات الجيش التي كانت بإمرة القيادة الفرنسية مع وفد سوري. وفي عام 1948 التحقت بجيش الإنقاذ كقائد لكتيبة المدفعية الوحيدة في هذا الجيش، واشتركت في معارك نابلس وطولكرم وجنين والقدس وباب الواد، ثم عدت إلى الحدود اللبنانية الفلسطينية وخضت مع الجيش اللبناني معركة المالكية الشهيرة، وتقدمنا إلى الجليل ثم إلى الناصرة حيث سيطرنا على عدد من المدن الفلسطينية العربية.
- وفي نهاية المطاف تشرفت بقيادة عملية الوحدة السورية- المصرية العربية. عشية ذكرى الوحدة كنتم في موقع بارز في سوريا، هل لكم أن تعطونا فكرة عن كيفية تطور الأحداث باتجاه الوحدة؟
ج- الحقيقة أن سوريا كانت دوماً هي سوريا الطبيعية، أما الحدود الموجودة الآن فقد فرضها الاستعمار. إن الشعب السوري طالما غنى بلاد العرب أوطاني، وكانت له مدنية واحدة و لو كان لها عدة أوجه، امتدت من سوريا إلى شمال العراق ولبنان وفلسطين والجزيرة العربية وكل بلاد العرب، لذلك عندما نقول إن الشعب السوري كان يشعر على الدوام أنه جزء من كل، فلا يكون هناك أي مجال للتساؤل عن سبب قيام الوحدة بين سوريا ومصر، فهذا شيء طبيعي وحتمي. وهذا ما ربينا عليه وتربى عليه شعبنا. واذا كانت الوحدة قد قامت فذلك يعود إلى شعبنا وجماهيرنا، وهذا السبب يجب أن يثبت في أذهاننا ولا يجب أن ندير آذاننا للأشخاص الذين يرجعون أسباب عروبتنا ووحدتنا إلى أشخاص وأفراد. فالوحدة من عمل الجماهير العربية التي جاهدت وضحت وبذلت دماءها وهناءها وسعادتها. إنها من عمل أولئك الأبطال الذين استشهدوا في مصر والجزائر والمغرب وليبيا وغيرها من بلاد العرب، ولا يمكن أن نذكر قطراً عربياً واحداً لم يشهد ثورة ضد الاستعمار وفي سبيل تحقيق كيان يخلصنا من الضياع ويعيدنا إلى موقعنا المميز بين الأمم الذي احتلته أمتنا على الدوام.
- كان يقال أن سوريا كانت في ذلك الوقت تعاني من مشاكل داخلية صعبة، فاعتبرت قيادتها أن الحل هو في الوحدة فلجأت الى مصر، أي أن سوريا آنذاك هربت من مشاكلها الى الوحدة.
إلى أي مدى يعتبر هذا الكلام دقيقاً؟ وهل لك أن تحدثنا عن القيادة الوطنية التي لعبت دوراً في تحقيق الوحدة؟
ج- إن قرار الوحدة كان تنفيذاً لبند وقعناه في ميثاق الجبهة الوطنية العسكرية في الجيش عام 1955. والبند الأول من الميثاق يقول بأن وظيفة الجيش السوري الأساسية، إلى جانب دفاعه عن الوطن، هي العمل على تحقيق الوحدة العربية، وكان هذا رداً على حركة الانقلابات السابقة. وقد سُلّم هذا الميثاق في احتفال رسمي إلى الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق عندما زارنا في قيادة الجيش لأنه من تلك الساعة فصاعداً أصبح مسؤولاً عن تنفيذ ما جاء في الميثاق.
- من هم الضباط الذين وقعوا على هذا الميثاق؟ الضباط المشاركون في الجبهة الوطنية؟ وهل يعني ذلك الضباط المنتمين للأحزاب المشاركة في هذه الجبهة؟
ج- في الواقع لم يكن هناك ضباط في الجيش منتمون إلى أي حزب بشكل رسمي، وانما كان هناك اتجاهات في الجيش وتيارات فكرية. فكان هناك من يحبذ الفكر الماركسي، وكان هناك من يحبذ الفكر البعثي، وكان هناك أيضا من يلتزم بالفكر القومي. لم يكن هناك حزبيون داخل الجيش السوري، و انما العدو الأميركي بالدرجة الأولى هو الذي كان يتهم هؤلاء الوطنيين بأنهم كانوا ينتمون إلى هذه الجهة أو تلك، وأقول هذا الكلام بصفتي أحد مؤسسي الجيش السوري وأحد قادته سابقاً. وأعطي مثلاً عدنان المالكي، الذي لم يكن بعثياً و إنما كان يحبذ البعث نظراً لكون شقيقه رياض أحد زعماء البعث في ذلك الوقت. وأنا نفسي كانوا يطلقون عليّ اسم "الجنرال الأحمر" و وكيل موسكو بدمشق وذلك بوصفي كنت اشتراكياً. لكن كان هناك ضباط أحرار في الجيش يعملون على تحرير بلدهم وكنت أحدهم خلال الاحتلال الفرنسي. أما عندما تحقق الاستقلال فقد كانت هناك تيارات واتجاهات فكرية في الجيش وحسب.
- هل تضعنا في أجواء المرحلة التي سبقت الوحدة؟
ج- يعود الى شعبنا وجيشنا السوري، وعندما تشكلت الجبهة الوطنية فيه في العام 1955 وضع ميثاق، البند الأول فيه يدعو الى تحقيق الوحدة جاء تنفيذاً لهذا البند. وهنالك مرحلتان في مسألة الوحدة: المرحلة الأولى هي مرحلة محاولات تحقيق الوحدة التي استمرت منذ سقوط نظام الشيشكلي وحتى قيام الوحدة. وكانت هذه المحاولات في البدء تنطلق من سوريا وحدها. وعندما وضعت مصر في برامجها بعد معركة السويس، تحقيق الوحدة وأن الشعب المصري هو جزء من الشعب العربي، أصبح السعي إلى الوحدة من قبل الطرفين. وقامت هناك محاولات عديدة لايجاد صيغة تربط سوريا بمصر، إلّا أنه كانت هناك عوائق عديدة أهمها العوائق الدستورية، ومسألة توحيد الجيشين وقضايا الميزانيات والمصروفات له والقضايا الاقتصادية وغيرها من القضايا التي كانت تعيق تحقيق الوحدة.
وخلال هذه المرحلة كان هناك من يقول بالإستعجال في إقامة الوحدة، وكان هناك من يدعو الى عدم الاستعجال ودراسة الموضوع بدقة، وكان هناك جماعات ضد الوحدة. وكانت هذه جماعات صغيرة لا قيمة لها لأن شعب سوريا شعب وحدوي بكل فئاته من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. أما المرحلة الثانية في تحقيق الوحدة فكانت سريعة وحاسمة قادها عسكريو الجيش السوري، انطلاقا من بديهيات بأنه في تلك الظروف لم يكن هناك إطلاقاً، لا من جانب المسؤولين ولا من جانب أمتنا العربية من يقول لا للوحدة، خاصة في ظل التهاب الشعور الوطني والقومي من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه. في هذه الظروف رأينا نحن عسكريو الجيش السوري أن لا يكون هناك أي معارضة لعملية الوحدة في حال دعينا إليها بشكل حاسم. وفي حوالي منتصف كانون الثاني من عام 1957 دعوت قيادة الجبهة الوطنية العسكرية في الجيش للاجتماع وطلبت إليهم العمل لتحقيق الوحدة تنفيذاً للبند الأول من ميثاقنا، وبعد مناقشة قصيرة خرجنا بقرار وهو أن يتألف من الجبهة وفدان، واحد يذهب إلى مصر ليطلب إلى رجال الثورة المصرية العمل على تحقيق الوحدة، وكان هذا الوفد برئاستي، و وفد آخر يترأسه المرحوم اللواء أمين النفوري ليتقدم إلى السلطات السورية بالطلب عينه. والقضية لم تكن قضية انقلاب بقدر ما كانت قضية وحدة عربية، وهذه النقطة بالذات يغفلها كثيرون للأسف.
- السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا أنتم العسكريون عملتم على تحقيق الوحدة طالما هناك سلطة سياسية يفترض أن تتولى الأمر بنفسها؟
ج - من أجل عدم إفساح المجال أمام التدخلات الخارجية والداخلية، وبغية الحفاظ على السرية قررنا أن يذهب الوفد العسكري إلى القاهرة في الليلة نفسها، وفي اليوم الثاني اجتمعنا الى الرئيس عبد الناصر، وكان إلى جانبه كامل هيئة الضباط الأحرار في مصر وذلك في منزله، وتقدمنا إليه بطلب تنفيذ الوحدة فوراً. ومما قلته في نهاية المناقشات: ياسيادة الرئيس أمتنا انتظرت هذه الساعة أكثر من ألف عام وهي تتوجه اليكم الآن لتستجيبوا لهذا النداء. فكان جوابه بالآتي: هذا اليوم هو يوم ميلادي الأربعين، واحتفالاً به سأستجيب لهذا الأمر.
- قيل أن الرئيس عبد الناصر وضع شروطاً من أجل تحقيق الوحدة من بينها إلغاء الأحزاب في سوريا؟
ج - كان الوفد السوري إلى مباحثات الوحدة برئاسة الرئيس شكري القوتلي وعدد من أعضاء مجلس الوزراء والنواب السوريين، وكنت أنا في عداد هذا الوفد. الإخوة المصريون كانوا متحفظين تجاه الأحزاب وذلك بناء على تجربتهم الداخلية، إذ أن الوضع في مصر ما كان ليتلاءم مع الأحزاب. واستجابة لنداء الوحدة وافق الجانب السوري على إلغاء الأحزاب في سوريا لكي تنسجم الأوضاع بين البلدين. وكان هذا من الأخطاء التي ارتكبت خلال إقامة الوحدة، إذ أن الجبهة الوطنية في سوريا التي كانت تتألف من الأحزاب الأساسية في البلد كانت جبهة ثورة وكان لها الدور الأساسي في تحرير سوريا، وقد قلت للرئيس عبد الناصر إن الذي حمى سوريا وأفشل كل المؤامرات الأميركية هو الذي يجب أن يحمي الوحدة بين مصر وسوريا. بعدما قامت حكومة الوحدة بمحاولات عديدة لتشكيل الأحزاب، كانت في كثير من الأوقات تضم من هم أعداء الوحدة وأعداء الحكم، وهم الذين قاموا بالانفصال. وكان هناك من يتزعم الاتحاد القومي وغيره من التشكيلات، التي عملت ضد الوحدة.
- الجبهة الوطنية في سوريا كان لها الدور البارز إن على الصعيد الوطني وإن على الصعيد القومي، كيف تقيم هذه التجربة؟ ولاسيما تجربة المقاومة الشعبية التي قادتها الجبهة رداً على الحشود التركية باتجاه الحدود مع سوريا في ذلك الوقت؟
ج - عندما قلت للرئيس عبد الناصر بأن الجبهة التي حمت استقلال سوريا هي التي يجب أن تحمي دولة الوحدة إنما كان ذلك انطلاقا من تجربتي الشخصية في سوريا. الشعب كله كان معبأ نفسياً ضد الاستعمار ومؤامراته. قبل الوحدة مثلاً وبعد إقامة الجبهة الوطنية تمكنا من تنظيم المقاومة الشعبية وأقمنا على الأرض السورية مثلث الكتائب للدفاع عن استقلال الوطن فوزعنا 250 ألف قطعة سلاح على الشعب السوري بينها 7 آلاف قطعة دفاع ضد الدبابات .r.b.j وذلك أثناء الحشود التركية بمواجهة الأراضي السورية، وهذا في الوقت الذي لم يكن تعداد الجيش أكثر من 60 ألفاً، وكان هذا الجيش بمثابة طليعة ثورية للمقاومة الشعبية.
- مادمنا في هذا السياق، كان يقال عنك وبصفتك قائداً للجيش السوري أنك الرجل القوي الذي تتحكم بسوريا من وراء الستار، وذلك قبل الوحدة طبعاً. وهناك من كان يصفك بالديكتاتور، هل هذه مجرد تهم أم هو الواقع؟
ج -أتاني مرة مراسل صحفي نمساوي وسألني السؤال عينه وقال لي "انك الرجل القوي الذي تتحكم بسوريا من وراء الستار وبشكل ديكتاتوري، وقال بأن ذلك حسب كلام رئيس وزراء تركيا حينذاك عدنان مندريس"، فطلبت منه أن يقوم بجولة في سوريا ويعود إليّ، ووضعت تحت تصرفه كل الوسائل الضرورية لإنجاح مهمته. وبعد أن اطلع على أحوالنا عاد إليّ بعد أسبوعين، وقال أنه مقتنع تماماً بأن هذا الشعب إنما يدافع عن حقه واستقلاله بملء إرادته، وليس هناك من يجبره على حمل السلاح أو يضغط عليه بشكل ديكتاتوري. وبعد ذلك طلبت اليه أن ينقل رسالة الى مندريس كان مضمونها: "سلّح شعبك كما نسلح شعبنا لنرى كم يوماً ستبقى في السلطة".. ووعدني الصحفي بإبلاغ الرسالة. وبعد عودته إلى بلاده نشر في جريدته خبراً على مساحة صفحتين: "الجنرال البزري يقول لمندريس: سلّح شعبك كما سلحنا شعبنا لنرى كم يوماً تبقى في الحكم".. وأستطيع القول هنا إن سوريا في ذلك الوقت تعرضت لحملة افتراءات وإشاعات باطلة للنيل من صمود أبنائها، وأقل ما يقال في هذه الاتهامات أنها فاجرة وكاذبة.
- قيل الكثير عن أسباب فشل الوحدة بين مصر وسوريا، بما أنك ممن صنعوا هذه الوحدة، كيف تنظر الى هذه الأسباب؟
ج -بالدرجة الأولى يجب أن لا نركز كثيراً على الأخطاء التي أعثرت مسيرة الوحدة وان كانت هذه الأخطاء قد ساعدت المستعمرين في ضرب الوحدة. الذين ضربوا الوحدة هم المستعمرون الأميركيون بواسطة عملائهم في المنطقة المحيطين بسوريا والمندسّين في نظام الوحدة. وأولى الأخطاء التي ارتكبت بحق الوحدة هي الخلافات ما بين قوى اليسار وبين قيادات الوحدة. فمثلاً لم يكن هناك أي سبب للهجوم على الشيوعيين بذلك الشكل الشرس، كما أنه كان على الشيوعيين أن يتحمسوا للوحدة بالشكل عينه الذي تحمست له الجماهير العربية، وكان ذلك ممكناً لو أن كل جهة راعت ظروف الجهة الأخرى.
الأمر الثاني الذي ساعد العدو على ضرب الوحدة هو عدم التوازن في الفكرين السوري والمصري، فسوريا مثلاً تخلصت من الاستعمار ومن القواعد الأجنبية قبل الوحدة باثني عشر عاماً أي في العام 1946. في ذلك الوقت تحقق الجلاء الكامل لقوات الاستعمار عن سوريا ولبنان، فكانا أول بلدين في العالم الثالث تحققان جلاء الجيوش الأجنبية عن أراضيهما، واستقلالهما السياسي الكامل عن المستعمرين القدامى. أما مشاكل مصر مع الاستعمار فكانت لاتزال قائمة حتى قبيل تأميم قناة السويس، فكان هناك قاعدة بريطانية في السويس، وكان الشعب المصري يجاهدجهاده العظيم لإجلاء هؤلاء المستعمرين عن أراضيه فكانت أنظار الاخوة في مصر تتجه بشكل أساسي للكفاح ضد الاستعمار القديم بينما أنظارنا نحن في سوريا كانت تتجه بشكل أساسي للكفاح ضد الاستعمار الجديد الذي كانت تبنيه الولايات المتحدةالأميركية في العالم. وقيادة الوحدة بعد قيامها لم تعط الانتباه الكافي لهذا الأمر، وحصلت أولى الخلافات ما بين كثير من الوطنيين في سوريا وبين الإخوة المصريين حول هذا الموضوع بالذات. وبينما كنا نقول أن العدو الأخطر هو الولايات المتحدة الأميركية كان المصريون يقولون أنهم الانجليز، وكان هذا السبب هو الذي باعد بين ركني الوحدة وهو اليسار في دولتي الوحدة، وعلى الأقل في سوريا وما بين الأخوة في مصر.
- اليسار الذي تتحدث عنه من كان يشمل؟
ج - اليسار يشمل الشيوعيين وغير الشيوعيين، ثم شمل البعث فيما بعد.
- بعد هذه السنوات الطويلة كيف تقيمون الآن قيادة الرئيس جمال عبد الناصر؟
ج - مما لا ريب فيه أن الرئيس عبد الناصر هو أحد الأبطال في تاريخ أمتنا المجيدة، وقد ناضل وكافح ضد الاستعمار بشكل مطلق، واستشهد في ساحات الكفاح. وإن كنت قد عارضت حكمه في يوم من الأيام فما كانت معارضة لشخصه الذي كنت أعجب به دوماً، وإنما كنت أعارض التيار الذي انتهى به الأمر إلى السيطرة على مصر بالسادات وأعوانه وأوقعوا بأمتنا تلك الكارثة في كامب ديفيد. هؤلاء كنت أعارضهم، أما الرئيس عبد الناصر فكان دوماً بالنسبة لي قائداً كبيراً. و إن كنت قد اختلفت واياه، فأنا أقول الآن بأنني كنت قليل الصبر وكان عليّ أن أبقى معه و إلى جانبه، أما موقفه بالنسبة إليّ فأتركه لتقديرات التاريخ.
- بالعودة الى حرب فلسطين لعام 1948، هذه الحرب التي خضتم غمارها، هل لكم أن تبرزوا لنا أهم دروسها المستفادة؟
ج - حرب عام 1948 كان العرب فيها بكل أسف مقيدين في علاقاتهم مع المستعمرين. فهي حرب قادتها الأنظمة العربية، وكان خطأ الثورة العربية هو استسلامها لتلك الأنظمة. كانت حرب تحرير في قفص المستعمرين المتمثل بارتباطات أمتنا من خلال أنظمتنا بالنظام الاستعماري العالمي؛ ومع ذلك فعندما قاتل العربي كمجاهد في جيش الإنقاذ تمكّن من حماية أرضه وايقاع الخسائر الفادحة بالصهاينة فاحتفظ بمعظم الأرض التي أوكل الدفاع عنها إليه كما حدث في حصار القدس اليهودية وباب الواد، ومعارك نابلس وجنين وطولكرم والمالكية وغيرها، إلّا أنه عند دخول الجيوش العربية رأينا أن هذه الجيوش رغم تضحيات أفرادها الكبيرة لم تستطع أن تحارب بالمعنى الصحيح للحرب لأنها كانت مقيدة بنظم حكوماتها، ولعل ما شاع في تلك الأيام من شعارات كشعار "ماكو أوامر" يبيّن تماما بكل جلاء ما كان يجري في تلك الأيام.
- وبالنسبة للجيش السوري في حرب 1948؟
ج - كان جيشنا السوري صغيراً وناشئاً، ومع ذلك فقد حقق انتصارات هامة ضد الصهاينة، وحافظ على شرفه العسكري كجيش عربي. وقد ضحى بعشر ضباطه في المعركة.
- كنت ضابطاً في الجيش السوري واشتركت في القتال في فلسطين في صفوف جيش الإنقاذ، كيف تنظر إلى هذا الجيش؟
ج - الحرب في فلسطين مرت بمرحلتين، مرحلة جيش الإنقاذ التي بدأت في مطلع 1948 وحتى 15 أيار من العام نفسه، ثم مرحلة الجيوش العربية النظامية التي ابتدأت بعد 15 أيار ولم تدم سوى شهرين تقريباً. ومن العبث أن يناقش الإنسان الأخطاء العسكرية في هذه الحرب لأن هذه الحرب بحد ذاتها لم تكن جدية. كلها أغلاط من أولها الى آخرها.
- هل يمكن أن تعطينا لمحة عن تركيبة جيش الإنقاذ؟
ج - تألف الجيش من لواء كان يقوده البطل المجاهد فوزي القاوقجي، ومن حاميات المدن مثل القدس وحيفا ويافا وصفد وغزة وغيرها، وقوات متفرقة أخرى تأتي في مقدمتها قوات الجهاد المقدس التي كانت في القدس واللد والرملة بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني؛ وهذه القوات المتفرقة لجيش الإنقاذ كانت بقيادة اللواء صفوت وهو قائد عراقي وتحت إشراف المشير طه الهاشمي الذي كان لقبه آنذاك المفتش العام لقوات الإنقاذ. أما ما كان يقال عن أن القاوقجي كان قائد جيش الإنقاذ فهذا خطأ شائع، وهو كان يقود لواء مقسماً الى قسمين: قسم يتألف من كتيبة متطوعين بقيادة أديب الشيشكلي في الجليل وكتيبة واحدة في جنين وأخرى في طولكرم وكتيبة مدفعية وكنت أقودها أنا. وكانت قيادتها في مقر القاوقجي. وكان هناك بضع سرايا كسرية المرحوم غسان جديد وسرية شركسية وسرية سعودية وسرية اسماعيلية، وهذه السرايا كانت تابعة لمقر القيادة كاحتياطي عام. والقيادة كان مقرها في جبع قرب نابلس ثم انتقلت الى عيترون في جنوب لبنان بعد دخول الجيوش العربية.. والكتائب كانت تضم عراقيين ومصريين وكان على رأسهم أحمد حسين زعيم مصر الفتاة، وكانت تضم سوريين ولبنانيين وغيرهم.
أما قيادة جيش الإنقاذ فكان مقرها دمشق وليس ميدان المعركة، وكانت مؤلفة من اللواء إسماعيل صفوت والمشير طه الهاشمي والأركان. أما القيادة الميدانية فكانت في كل مدينة على حدة وتابعة للقيادة العامة في دمشق.
- هل كان هناك متطوعون من الأحزاب الوطنية؟
ج - كان هناك في الشمال كتيبة على رأسها أكرم الحوراني وعبد الكريم زهور وخليل كلاس. وكان هناك كتيبة أفرادها من المتطوعين البعثيين، وكان اسمها كتيبة البعث وكان في هذه الكتيبة صلاح البيطار وميشال عفلق. وفي المعركة الكبيرة التي خضناها ضد الصهاينة في اللطرون كان إلى جانبي المرحوم صلاح البيطار وميشال عفلق وقد انفجرت قنبلة هاون بين قدميه وكانت نجاته أعجوبة من الأعاجيب.
- من حرب 1948 إلى انتفاضة 1988 هل هي تطور في النضال الفلسطيني برأيك؟
ج -الأمة التي أنجبت ظاهرة أطفال الحجارة هي أمة لاتموت، وهي ظاهرة عظيمة في أمتنا التي تشرفت بالتصدي للترسانة الأميركية، وهي أكبر وأشرس ترسانة عرفها الانسان، تصدت بأطفالها بالإضافة الى رجالها الذين يقاومون في جميع أنحاء الوطن العربي وعلى رأسهم الإخوة المجاهدون الفلسطينيون. كنا نتحدث، وباعتزاز، عن اليابانيين الذين يرمون بأنفسهم على الطائرات الأميركية فلماذا نكون أقل منهم، وهؤلاء الذين استشهدوا أليسوا من أمتنا؟
- ماهي آفاق هذه الانتفاضة برأيك؟
ج - هي ظاهرة دائمة في أمتنا ولا يخشى عليها من الانطفاء لأنها ستبقى مشتعلة الى أن ننال حقوقنا حتى ولو ظهر أن جذوتها نزلت تحت الرماد. والانتفاضة هي تحصيل حاصل لما يختلج في صدور أمتنا.
- ركزتم في حديثكم على الاستعمار الجديد. ماهي أبرز سمات مرحلة الاستعمار الجديد؟
ج - أبرز ملامح الاستعمار الجديد أنه يقوم على الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، وعلى ارتباطات الربا العالمي والأحلاف السياسية والعسكرية للمستعمرين، وقيام نظام استعماري عالمي موحد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يشبه "الهيدرا" وهي أفعى بسبعة رؤوس، الرأس الأساسي فيها هو الولايات المتحدة، أما بقية الرؤوس فهي بقية المستعمرين. وهنا نلاحظ أن الحروب ما بين المستعمرين توقفت دون أن يتوقف التنافس في نهب الشعوب، عكس الاستعمار القديم الذي كان يتسم بامبراطوريتين متعاديتين كانتا السبب دوماً في الحروب العالمية فيما بينهما وفيما بينهما وبين الآخرين. أما الآن فقد ربطت الشركات الإحتكارية الأميركية المستعمرين بنظام استعماري عالمي جديد يشبه الشركة الاحتكارية فيها، المساهمون الكبار والمساهمون الصغار. وقد سمح المستعمرون لبقية أمم العالم بالدخول الى هذه الشركة ولكن بأسهم قليلة وضعيفة فيجلس مثلاً مندوب ليبريا إلى جانب مندوب أميركا في الجمعية العامة للأمم المتحدة كشريكين متساويين، ولكن الفيتو الأميركي يميّز الأميركي في هذه الشركة العالمية.
- ماهو موقع اسرائيل في النظام الاستعماري الجديد؟
ج - لأميركا في العالم 2500 قاعدة عسكرية منها 300 قاعدة على شكل مدن، مثلاً قاعدة ديغوغارسيا في المحيط الهندي التي تقوم فيها القيادة العامة لقوات التدخل السريع في الشرق والشرق الأوسط التي كلفت الخزينة الأميركية 10 مليارات دولار، ولأميركا بالاضافة إلى ذلك أيضاً الدول القواعد التي منها الكيان الصهيوني، وهذا وأشباهه يشكل الهيكل الاستعماري الجديد الذي تقوده أميركا، وعلى هذا الهيكل يتحشى بقية أعضاء جسم الاستعمار الجديد من رجعيين وانتهازيين وجواسيس وعملاء وغيرهم.
- سؤال أخير سيادة الفريق يتعلق بأمر خاص، وهو: هل هناك شعور خاص تجاه لبنان البلد الذي نشأتم فيه؟

- ج- لبنان مسقط رأسي ولا يمكن أن أكون حيادياً في الشهادة بلبنان. أهلي هنا في لبنان كما أهلي هناك في سوريا. أنا معجب بكل شيء أراه في لبنان حتى في زحمة السيارات التي تدل على حيوية هذا البلد، أحب هذا البلد بكل مافيه. والشعب اللبناني حقيقة دفع ثمن الهجمة الاستعمارية باهظاً وهو ثمن لم يدفعه أي قطر عربي، ولا شك أن جماهير أمتنا تدرك هذا، وأنا واثق بأنه أحد قواعد تحرير أمتنا العربية، ويبقى لبنان موئل التفاؤل والتطلع الى الآفاق الانسانية الكبرى. وهناك مزايا كثيرة أخرى يجب أن أقول عنها أنها عظيمة، وإن بدا بعض الإشارات السلبية فهذا أمر طبيعي في المجتمعات الانسانية. ويبقى أن أسجل صبر هذا الشعب العظيم الذي هو الشعب اللبناني.

عن صفحة الأستاذ نصر شمالي