كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

البعث والقيادة القومية

كتب مروان حبش- فينكس: 

   ليس الهدف هو التأريخ للقيادة القومية كأعلى قيادة في تنظيم حزب البعث العربي الاشتراكي، إلا بما تستدعيه الحاجة. ويبقى الهدف الرئيس هو معرفة الضرورة التي قادت الحزب لتكوين هذه القيادة ومسؤوليتها في تحقيق الانسجام بين مؤسسات الحزب ومبادئه، وفي ترسيخ العمل المبدئي بالنضال الحزبي، والمحافظة على وحدة الحزب ككيان وكتوجيه، ورسم سياسة واحدة للحزب تزيل كل تناقض بين القطري والقومي تجاه القضايا القومية والعالمية. 
   إن عقيدة البعث كحزب عربي وحدوي اشتراكي هي الأساس الذي يجب أن يبنى عليه التنظيم، وأسس التنظيم يجب أن تنبثق من نظامه، وأسس النظام يجب أن تنبثق من عقيدته.أ مروان حبش
   يؤمن حزب البعث بقضية واحدة هي إعداد الشعب العربي في جميع أقطاره للنضال من أجل الوحدة والحرية والاشتراكية، ونقطة البداية في هذا الإعداد هي خلق الوعي الثوري في نفوس الجماهير، أي إيقاظ روح التمرد على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة التي تتناقض وأهداف الحزب، وتحول دون نهضة الأمة العربية وتقدمها.  
   ويؤمن حزب البعث بقضية واحدة ووطن واحد للشعب العربي، ويجب أن يجسد في تكوينه هذه النظرة، وهذا يوجب أن يكون تنظيمه وفق منهج نضالي واحد، وأن تكون ثقافته الفكرية والنضالية ومواقفه السياسية وسلوكيات أعضائه صادرة عن إرادة واحدة وعن مركزية في التنظيم والتوجيه تُنَسِّقُ بموجبها كل منظمات الحزب وقياداته في مختلف البلدان الموجودة فيها.
   وحرص البعث منذ بداية تكوينه على أن تكون لوائحه وأنظمته الداخلية تجسيداً لإيمانه، وأن إيمانه بالوحدة العربية يجب أن يتبلور عملياً في تنظيمه وفي انتشار هذا التنظيم في كل الأقطار العربية وعلى طبع كل تنظيمات الحزب ومؤسساته وأجهزته بالطابع القومي.
   مع بداية تكوين البعث العربي، ومن ثم بعد مؤتمره التأسيسي كانت "اللجنة التنفيذية" هي قيادة للحزب في سورية وفي بقية الأقطار العربية التي للحزب فيها وجود، واستمرت هذه الصيغة حتى حزيران 1954 حيث اقتضت الضرورة تكوين قيادة قومية قائمة على تمثيل منظمات الحزب في أقطار سورية، الأردن، العراق، لبنان، وكان ذلك على خلفية الرسالة التالية "لم تنشر من قبل" من تنظيم الحزب في العراق والموجهة من الأمين القطري فؤاد الركابي إلى الأستاذ صلاح البيطار برقم 2 وتاريخ 17أيار 1954.
حضرة الأستاذ صلاح
   تحية عربية.
   في رسالتي هذه أود أن أضع نظرة القيادة القطرية في العراق إلى النتائج التي سببها أو التي سيسببها استمرار انعدام قيادة قومية في الحزب.
   في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وامتدت حتى يومنا هذا، وُلدت في أجزاء عديدة من الوطن العربي أحزاب قومية واجهت مشكلتنا من الخارج وتلمستها تلمساً خفيفاً من السطح نتيجة لطبيعة تكوين وطريقة هذه الأحزاب ونوعية العاملين فيها، وتركت جوهر المشكلة مطمئناً في مكانه بعيداً عن التشريح العلمي والفحص الدقيق. ولذلك تعرضت هذه الأحزاب لهزّات متلاحقة أماتت البعض منها، بينما عاشت البقية الباقية هزيلة لا تحظى بتأييد المناسبات حينما تتحرك عواطف الجماهير، فلا تجد متنفساً في غيرها فتتجه إليها مضطرة مجبرة.
   هكذا ظلت الجماهير العربية تتلاقفها الأمواج الحزبية بين مد وجزر، وترتفع إلى القمة، وإلى لحظات معدودة تارة، ثم تعود فتهبط إلى القعر تارة أخرى، وظلت الجماهير العربية تائهة حائرة تتألم من الفساد وتغضب أو تتمرد عليه في مرات متلاحقة ولفترات تطول أو تقصر، ولكنها تعود فتجد نفسها في نهاية كل تمرد، أنها في حاجة إلى البدء من جديد لأنها لم تحقق شيئاً، حتى ولدت حركة البعث فنفذت إلى أعماق المشكلة وتلمستها من الداخل فاستطاعت أن تضع يدها على الحلول الجذرية المنقذة.
   وُلدت حركة البعث العربي، وكان في مقدمة ما وجدته فيها جماهير الشعب "النظرية القومية الجديدة" المعبرة عن المرحلة التاريخية التي تجتازها الأمة العربية.
   ولكن العمل الحزبي  العربي في تنظيمه وتفكيره ونضاله حظي بالتأييد الأعظم، لأن الجماهير وجدت في هذا النوع من العمل الحزبي ضالتها المنشودة، وجدت فيه ما كانت تفتش عنه طوال هذه الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى فلم تجده واضح المعالم كما جاء في حركة البعث.
   سعى الحزب في سنوات الطفولة الأولى إلى الانتشار، فبنى له ركائز صغيرة في أجزاء عديدة من الوطن اتصلت القيادة العليا بهذه الركائز وساعدتها على النمو والرسوخ، ولمّا كانت هذه الركائز صغيرة فقد كانت أعمالها النضالية والفكرية محدودة وضيقة وبالتالي كانت حاجاتها للتوجيه والاتصال بالقيادة العليا محدودة وضيقة أيضاً. كانت الرسائل التوجيهية على قلتها تكفي لربط هذه الركائز بالقيادة وبالتالي تضمن سير الحزب إلى حدٍ ما في اتجاه قوميٍ سليم.
   ثم تنامت هذه الركائز وبلغ البعض منها درجة الأحزاب الكاملة القوية، فتوسعت أعمال القيادات القطرية فيها سواءً في داخل الحزب أم في خارجه في الوسط السياسي، حتى إن بعض هذه الفروع استطاعت أن تصل درجة تصبح فيها أقوى الأحزاب المحلية نضالياً، وتحملت مهمة القيادة الشعبية واستطاعت النفوذ إلى المجالس النيابية.
    ولا بد لحفظ الاتجاه القومي في الحزب، ذلك الاتجاه الذي نحرص عليه أشد الحرص، من تطور القيادات القطرية بما يتلاءم والاتساع الجديد.
   قلتُ إن الرسائل التوجيهية كانت تكفي قبل سنوات ليس لنمو الفروع فحسب، بل لإبعاد تأثير التيارات الإقليمية الخطرة على القيادات القطرية أيضاً، ولكن هذه القيادات أصبحت عليها متطلبات واسعة، فهي تنظم الحزب، وترعى وتراقب وتوجه انتشاره ونموه، وهي تمثل مواقفه السياسية أمام الأحزاب والمنظمات، وتشعر بوجوب اتخاذ مواقف حزبية واضحة من كل حدثٍ قطري وعربي وعالمي، لأنها لا تستطيع أن تترك حزباً له قوته في المحيط السياسي دون رأي أو موقفٍ واضح.
   ونتيجة لانشغال القيادة العليا بحوادث سورية القطرية قبل عهد الشيشكلي، أو في عهده الأسود الذي استمر عدة سنوات، أصبح إشراف القيادة العليا ضعيفاً ثم انقطعت الصلة تماماً في عهد الشيشكلي، ولذلك زاولت القيادات القطرية جميع المهام الحزبية صغيرة وكبيرة، قيادية أو توجيهية أو تنفيذية.
   إن ترك القيادات القطرية تعمل على تسيير فروع الحزب بصورة كاملة ودونما مراقبة أو توجيه، سيبلور لدى هذه القيادات بعد فترة زمنية اتجاهاً إقليمياً خطيراً.
   إن خطر نفوذ الاتجاهات الإقليمية إلى داخل الحزب يجب أن يُقضى عليه بأسرع وقت.
   إن تكوين القيادة القومية ضرورة عاجلة وملحة ليس من المصلحة التساهل فيها، والآن وبعد انهيار الدكتاتورية العسكرية في سورية أصبح في مقدور الحزب العمل على تثبيت الحزب وتركيز اتجاهه القومي.
    ولكن ما نلاحظه اليوم ما هو إلّا تكرار لما سبق أن لاحظناه في عهد الدكتاتورية، فالقيادة العليا ما زالت كما كانت وتشغلها حوادث سورية عن كل شيء. وحزبنا كحزب انقلابي يجب أن لا يلهيه النضال في جبهة عن نضاله في الجبهات الأخرى، يجب أن لا يلهيه نضاله ضد الرجعية في سورية مثلاً عن الانتباه إلى تركيز تنظيماته الحزبية وتركها مبعثرة لا يربطها رابط.
   إن جميع فروع الحزب تعاني هذه المشكلة، فكل فرع تشغله حوادثه القطرية عن كل شيءٍ تقريباً، وهي جميعها تريد الإسراع بتكوين قيادة قومية تشرف على أعمال الحزب إشرافاً جدياً.
   لقد لاحظت ذلك بوضوح في زيارتي الأخيرة إلى سورية ولبنان والأردن، ولذلك نرجو أن تضعوا التفكير الجدي في تكوين القيادة القومية موضع البحث.
   أترك الآن هذه النقطة لأنتقل إلى نقطة جديدة تهم فرع الحزب في العراق. إن القيادة القطرية العراقية في العراق تشعر بوجود هبوط عام في المستوى الفكري بجميع تشكيلات الفرع. إنّ مرد هذا الهبوط يعود بالدرجة الأولى إلى ارتباط متين بين المسؤولين في العراق والمسؤولين في الفروع الأخرى، مما جعل فرع العراق يعتمد في توجيهه الفكري اعتماداً كلياً على نشراتٍ قديمة معدودة، ولو كان هذا الارتباط منظماً بالزيارات والرسائل والصحف والنشرات لاستطعنا الارتقاء بمستوى الأعضاء الفكري عن المستوى الحالي.
   لقد وجدت القيادة القطرية في العراق أن الصلة المباشرة والاتصال المستمر مع أعضاء القيادة العليا يضمن إلى حدٍ كبيرٍ مواكبة فرع العراق للنمو الحزبي فكرياً ونضالياً في جميع الفروع الأخرى.
   وجدت القيادة القطرية أن أفضل طريقة لتنظيم الصلة المباشرة في الوقت الحاضر هو تنظيم سفر المسؤولين في العراق بفترات متعاقبة للمكوث في سورية والأردن مدةً تكفيهم للإطلاع والدرس، وقررنا بدء هذا المشروع بإرسال عضو القيادة القطرية المحامي فيصل حبيب الخيزران ليمكث في سورية مدة لا تقل عن الشهر الواحد، يكون خلالها على صلةٍ دائمة ووثيقة مع أعضاء القيادة العليا، ونرجو أن تنظموا له الاتصال بالمسؤولين في جميع فروع سورية لأننا نرغب أن يكون إطلاعه واسعاً لينقل ما يكسبه من خبراتٍ في العمل السياسي والتنظيمي والفكري إلى العراق.
   نود أن نؤكد مرةً أخرى على ضرورة الاتصال به طوال فترة بقائه، لأن هذه السفرة سفرة حزبية للدرس والإطلاع وسنوالي سفر المسئولين في العراق إلى سورية بين فترة وأخرى.
   ملاحظات عامة:
1- سبق أن أرسلت بيد السيد يوسف الرويسي"1" رسالة ضمنتها بعض العناوين إلى المكتب القومي
2– استلمنا رسالة من المكتب الإداري العام في سورية ولم نجبه حتى الآن على رسائله لأنه لم يذكر لنا عنواناً للمراسلة أولاً، ولأن صلتنا كما نعرف هي مع المكتب القومي، فقد سبق للمكتب القومي أن طلب إلينا عدم الاتصال بأية تشكيلة حزبية غيره. نرجو أن تنتظم صلتنا مع تشكيلة حزبية واحدة معينة، ونرجو تنبيه المكتب الإداري العام إلى ضرورة عدم إرسال الرسائل الحزبية إلّا بالعناوين التي سبق وأن زودنا بها المكتب القومي والتي أرسلتها مع السيد الرويسي. كما وأننا نحبذ إرسال الرسائل الحزبية والنشرات والبيانات الداخلية بواسطة الشيخ دهام، إلّا في الحالات الاضطرارية المستعجلة حيث يمكنكم المراسلة بواسطة البريد.
 3- استلمنا رسالة من المكتب الإداري العام حول إرسالنا النشرات الحزبية إلى الكويت داخل رزم الجرائد. نود أن نخبر المكتب بأن هذه الطريقة هي الأسلم بالنسبة إلينا لأن وضعها في مظاريف يعرضها للفتح من قبل الجهاز البوليسي في العراق، كما أن إرسالها بيد المسافرين إلى الكويت صعبٌ أيضاً لعدم معرفتنا أشخاص وأوقات الغالبية الساحقة من المسافرين. سبق أن استلمت من السيد عوني فرسخ"2" رسالة بهذا المفهوم وقد تأخرت عن الإجابة عليها حتى الآن بسبب انشغالنا الشديد في العمل الحزبي خلال هذه الفترة.
4 - نود أن ينتظم إرسال جريدة البعث والاشتراكية"3" بما أن البعث يومية ووصولها إلى العراق بصورة منتظمة ودون تأخر أمر صعب. لذلك ارتأينا أن يكون وصول البعث عن طريق الاشتراكات، إلى أن نجمع أكبر عدد ممكن من المشتركين في جميع أنحاء العراق تصلهم الجريدة بالبريد الجوي. أما الاشتراكية فيمكن تنظيم وصولها لأنها أسبوعية، ولذلك نحبذ وصول عددٍ كبير منها لتوزيعه في جميع الأسواق في العراق.
5 - سيطلعكم الأستاذ فيصل على حقيقة الوضع السياسي في العراق والحياة الحزبية فيه.
   وختاماً تقبلوا أسمى تحياتي ودمتم للنضال
                                                                                   فؤاد
   ولمّا لم تحقق هذه الصيغة التمثيلية الهدف الذي من أجله تكونت القيادة القومية، بسبب تواجد ممثلي المنظمات في أقطارهم، وانصرافهم إلى العمل التنظيمي والسياسي القطري، كان من نتائجه: عجزٌ عن تأمين الارتباط بين المنظمات القطرية، وعجزٌ عن تخطيط سياسة واحدة للحزب.
   أصبحت الحاجة ملحة لتلافي هذا الخلل وذلك بانتخاب قيادة قومية من مؤتمر قومي تقود الحزب وفق مقررات المؤتمر وتوصياته وتكون مسؤولة أمامه. 
   وأصبحت الحاجة لمؤسسة القيادة القومية أكثر إلحاحاً بعد استلام الحزب الحكم في قطري العراق وسورية، وإلى جانب مسؤوليتها في قيادة التنظيم الحزبي، أصبحت مسؤولة عن إدارة الحكم في الحدود التي قررها المؤتمر القومي السادس 1963.
   ورغم كل الاتهامات التي وجهها بعض الحزبيين للقيادة القومية أو لبعض أعضائها عن مسؤولية سقوط حكم الحزب في العراق، ورغم التناقض الذي حدث بعد ذلك بينها وبين القيادة القطرية في سورية وقاد إلى حركة 23شباط 1966. إنما ضرورة مؤسسة القيادة القومية، ولذات الأسباب المذكورة في البداية، بقيت قائمة، ولتلافي التناقض السابق تكوّن ما عُرف بالاجتماع المشترك للقيادتين وهو مسؤول عن تخطيط  وقيادة سياسة الحكم ومواقفه في كل المجالات الداخلية والخارجية،  هذا إضافة إلى مسؤولية القيادة القومية، وحدها، في قيادة الحزب القومي.
    ولمّا تقرّر في نيسان 1969 تشكيل مكتب سياسي من سبعة أعضاء، ينتخبهم الاجتماع المشترك لمتابعة تنفيذ قراراته، كان من بين المرشحين السبعة الذين فازوا بالتزكية، ثلاثة من أعضاء القيادة القومية من خارج القطر.
من كتاب البعث وثورة آذار 
 مروان حبش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  1 - من تونس، رئيس مكتب المغرب العربي في سورية، وهو صديق شخصي لقادة الحزب ويلازمهم باستمرار، كما أن طلاب الجامعة من البعثيين كانوا يناوبون في المكتب ويساهمون بمتابعة طباعة جريدة "كفاح  المغرب العربي" التي يصدرها المكتب وبتوزيعها وتأمين المشتركين بها في كافة محافظات القطر.  
2 - أحد مسؤولي الحزب في الكويت.
3 - جريدة الحزب الاشتراكي العربي قبل الدمج، واستمرت بالصدور بعد دمج الحزبين.