كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

خالد بكداش الشخصية الوطنية الشيوعية في منتصف القرن العشرين ح2

د. عبد الله حنا- فينكس:

في منتصف ستينيات القرن العشرين تعرّضت قيادة بكداش لهزة عنيفة بانفصال الحزب الشيوعي اللبناني وإعلان استقلاله الفعلي عن قيادة خالد بكداش. وفي الوقت نفسه بدأت أصوات الانتقاد لسياسة ”الرفيق خالد” تتعاظم داخل الحزب الشيوعي السوري حتى بلغت أوجها في المؤتمر الثالث عام 1969. ولأسباب متنوعة داخلية وخارجية جرت في المؤتمر الثالث عملية تسوية، وأُعيد انتخاب خالد بكداش أميناً عاماً وإلى جانبه في المكتب السياسي أكثرية غير راضية عن أساليب قيادة بكداش السابقة في القيادة وراغبة في التغيير. وما لبثت بذور الخلاف بين بكداش ومنتقديه أن طفت على السطح وقادت في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته إلى الانقسامات المتتالية داخل الحزب الشيوعي.
في الوقت الذي قاد فيه خالد بكداش الحزب بحنكة واتبع سياسة جلبت الأنظار إليه وزادت من شعبيته سواء داخل الحزب أو في صفوف الناس العاديين، الذين كانوا ينظرون إلى هذه الشخصية، التي تقود حزباً نصف ممنوع، نظرة إعجاب واحترام. وكانت هذه الظاهرة أحد العوامل، التي أسهمت في نجاح خالد بكداش المدوّي في الانتخابات النيابية لعام 1954. وزاد من شعبية بكداش والتفاف ”الرفاق” حوله وإعجاب الجماهير بشخصيته: مواقفه الرصينة وخطبه الرنانة في المجلس النيابي، ومقدرته في عقد التحالفات وتجنب الاصطدام في المنعطفات، إضافة إلى سرعة بديهته وسيره في سياسة وطنية لفتت الأنظار إليه. كما أنّ التعاطف الجماهيري مع سياسة الاتحاد السوفيتي المؤيدة للعرب أسهمت في ارتفاع شعبية بكداش المنادي منذ زمن طويل بالصداقة مع الاتحاد السوفيتي وطن الاشتراكية الأول والمناصر للشعوب. ولكن الوحدة بين مصر وسورية وسعيْ القوى المعادية والمباحث السلطانية بالتعاون مع المخابرات الأميركية قطعت الطريق على تطور سورية الديموقراطي وأجهضت اندفاعة المجتمع المدني وسير سورية في طريق التقدم والازدهار. وهذا هو السبب، الذي دفع خالد بكداش إلى عدم المشاركة في التصويت في جلسة المجلس النيابي على قيام الجمهورية العربية المتحدة محذّراً من سوء العاقبة. وهذا ما جرى فيما بعد. فالحزب الشيوعي السوري لم يكن معادياً للوحدة العربية الديموقراطية ولكنه كان مناوئاً للوحدة القائمة على الهيمنة والاستبداد.أ عبد الله حنا
أدت الحملة الشعواء ضد الحزب الشيوعي أيام الجمهورية العربية المتحدة بحجة أنه ”حزب شعوبي” معاد للقومية العربية، وغياب خالد بكداش بعيداً عن مسرح الأحداث ومنعه من دخول سورية بصورة شرعية أيام الانفصال، إلى إضعاف مواقعه القيادية، في وقت أخذت تظهر فيه قيادات جديدة شابة ناضلت بشجاعة أيام الإرهاب المباحثي السلطاني أو صمدت في السجون. ولم يعد من الممكن قيادة الحزب بالأساليب السابقة، لا سيما وأن رياح التغيير في الاتحاد السوفيتي بدءاً من المؤتمر العشرين وانتقاد السياسة الستالينية الحديدية التي كان خالد يكداش يسير على هداها أضعفت من مواقعه. وكانت ثالثة الأسافي إعلان الحزب الشيوعي اللبناني في مؤتمره استقلاليته الفعلية عن قيادة خالد بكداش وتوجيه سلسلة من الانتقادات للماضي، المسؤول عنه خالد بكداش حسب قولهم.
محطتان حرجتان
من المحطات الحرجة، التي واجهت قيادة ”الأمين العام” خالد بكداش للحزب الشيوعي هي:
الأولى قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وموافقة الاتحاد السوفييتي على القرار وإعلان بكداش باسم الحزب تأييده للقرار السوفيتي من تقسيم فلسطين. هذا الموقف أدى إلى تصدّع في صفوف الحزب استطاع بكداش بما يملك من مؤهلات القيادة من رأبه. وكان الأخطر في هذا الموقف، الذي اتخذه بكداش ومن ذيوله، أن القوى المعادية للحزب الشيوعي استطاعت دون عناء تأليب الجماهير ودفعها لمهاجمة مكتب الحزب الشيوعي ونشوب معركة غير متكافئة مع ثلة من الشباب الشيوعيين، الذين دافعوا عن ”شرف حزبهم” ببسالة وجرأة لا توصف، في وقت كان خالد بكداش قد غادر دمشق إلى بيروت محاولاً قيادة معركة الهجوم على المكتب عن طريق الهاتف.
ليس هدفنا هنا الدخول في تفاصيل اتخاذ ذلك القرار، و إنما نريد الإشارة إلى أن ذلك القرار وجّه ضربة أليمة للحزب الشيوعي وأفقده لسنوات عديدة القدرة على كسب أعداد غفيرة إلى صفوفه. فقد أصبح في نظر جمهور واسع مُداناً، وكأنه هو الذي قسّم فلسطين. وعملت القوى المعادية بنشاط وذكاء في إلقاء الشبهات حول وطنية الحزب الشيوعي.
المحطة الثانية: قضية الموقف من الجمهورية العربية المتحدة: إن كنا نرى بأن قيادة خالد بكداش قد أخطأت في الموقف الذي اتخذته من قرار التقسيم، إلّا أننا لا نراها مسؤولة عن الحملة الظالمة، التي شنّتها قوى المباحث السلطانية وبدعم من ”الأميركان” للقضاء على الحزب الشيوعي بحجة أنه معاد للجمهورية العربية المتحدة. ونرى بأن قيادة الحزب الشيوعي سارت وفق سياسة قومية عربية ذات محتوى ديموقراطي لا يُشقّ لها غبار. وتبقى إشكالية غياب خالد بكداش عن حضور جلسة المجلس النيابي وقول كلمته في موقف الحزب الشيوعي وتأييده للوحدة الاتحادية الديموقراطية ومعارضته للوحدة الاندماجية ذات الطابع الاستبدادي. ويتبيّن من ذكريات شاهد العيان مصطفى أمين أن خالد بكداش خاف سوء العاقبة والاعتقال إذا ما ألقى كلمته أو حتى منعه من إتمامها فآثر السلامة ومغادرة البلاد على جناح السرعة. والواقع أن إشكالية الانسحاب أو المواجهة بحاجة إلى دراسة متأنية وانتظار ما يُكشف من وثائق أو يُكتب من مذكرات. وربما تظهر مذكرات لبكداش تلقي الأضواء على هذا الأمر.
غياب خالد بكداش عن أرض الوطن والضربات الأليمة، التي تلقاها الحزب الشيوعي على يد المباحث السلطانية والشعور الشعبي المعادي للحزب الشيوعي بسب عدم حضور نائبه بكداش جلسة المجلس النيابي، خلق بذور الانتقاد لسياسة ”الرفيق خالد”… ذلك النقد، الذي بدأ همساً ثمّ سرعان ما ظهر على السطح.
تصدع الزعامة والانقسامات
ليس هدفنا هنا تناول سياسة خالد بكداش بدقائقها، بل عرض لمحة عامة عن هذه الشخصية الهامة في إطار البحث عن صعود الحركة الشيوعية السورية وهبوطها. أما دوره في عمليتي الصعود والهبوط فهو بحاجة إلى كتاب مستقل. وسنكتفي هنا بعرض موجز لدوره في الصعود والهبوط دون أن ننسى العوامل الداخلية والخارجية في هذه العملية.
انتسب خالد بكداش للحزب الشيوعي عام 1930 وانتُخب بالإجماع أميناً عاماً للحزب في اجتماع كوادره عام 1937. كما جُدد انتخابه بالإجماع في المؤتمر الوطني (وهو ما اصطلح على تسميته بالمؤتمر الثاني) أوائل كانون الثاني 1943). وفي المؤتمر الثالث عام 1969 جرى انتخابه بالإجماع أميناً عاماً. ولكن الإجماع هذه المرة كان إجماعاً أعرجاً، إذ أن قوى وازنة داخل المؤتمر وفي صفوف الحزب كانت ترغب في التجديد والحد من سلطات الأمين العام وإجراء نقلة نوعية في سياسة الحزب تجاه عدد من القضايا. ولا ندري هل لمس خالد بكداش هذا التيار الجارف آنذاك، أم أنه قدّر أن باستطاعته التغلب على المنادين بالتغيير. ولم تكن الانقسامات التي جرت بصورة متتالية إلّا تعبير عن الأمور التالية:
- فوات زمن الأساليب القديمة في السياسة وظهور قوى داخل الحزب أصبحت على مستوى من النضج مما يؤهلها للوقوف في وجه السياسة القديمة التي ولّى زمانها.
- الاستياء المتنامي من أسلوب الأمين العام في قيادة الحزب وطريقته في معاملة الكادر المحيط به من ”تقريب أو إبعاد” حسب رأي الأمين العام. وهذا الاستياء خلق حقداً دفيناً لدى الكوادر، التي رأت بأنها أُهينت في فترة من الفترات، وسكتت على الضيم. وبعد أن ضعُفت القيادة بدأت تلك الكوادر ترفع صوتها محتجة بأساليب مختلفة.
- التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجارية في سورية بعجرها وبجرها كان لها دور في هذا المجال.
- التغيرات الجارية في الاتحاد السوفيتي وسيره في طريق الانهيار في ثمانينيات القرن العشرين ومن ثمّ انهياره السريع كان لها دور أساسي في كثرة الانقسامات وضعف مواقف خالد بكداش وفوات زمن الطروحات السابقة
*** .
وهكذا انفضّت الأكثرية الساحقة من قيادات الحزب الفاعلة والوازنة من حول قائدها السابق، وبعضها شرع في توجيه الهجمات للقائد المحبوب في الأيام الخوالي.
وبسبب تلك الأجواء، وانفضاض معظم الكوادر الفاعلة والمؤثرة وذات مستوى من النضج الثقافي مما أدى إلى حدوث فراغ في القيادة وضعف الكوادر المتحلِّقة حول الأمين العام، هذا بغض النظر عن إخلاصها. كما أن الفراغ الحاصل في القيادة الضعيفة المحيطة ببكداش، وتقدم السن لدى ”الأمين العام” و وزحف الشيخوخة وما يرافقها من ضعف أمام ”أهل البيت”، مع أسباب أخرى نجهلها، انفتح باب التوريث على مصراعيه لزوجته وصال فرحة، وبالتالي لابنه عمّار.
***
وهكذا أخذ ذلك النجم الساطع في منتصف القرن العشرين، مرحلة صعود الحركة الشيوعية، يفقد تدريجياً بريقه نتيجة عوامل داخلية وخارجية خارجة عن إرادته. ولكننا لا يمكن أن نغضّ الطرف عن العوامل الذاتية ومنها زحف الشيخوخة، التي أفقدت ”الأمين العام” القدرة على معالجة الأمور ووصول الأوضاع إلى ما هو معروف.