كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

خالد بكداش الشخصية الوطنية الشيوعية في منتصف القرن العشرين ح1

عبد الله حنا- فينكس:

مرحلة التكوين
ولد خالد بكداش قي دمشق عام 1912. كان والده البمباشي بكداش بك ضابطاً في الجيش العثماني. وبعد انهيار الدولة العثمانية خدم في الجيش العربي زمن الملك فيصل، ثم أُحيل إلى التقاعد في أيام الانتداب.
تلقى خالد بكداش تعليمه الابتدائي في مدرسة التطبيقات النموذجية الابتدائية وتخرج منها حاملاً شهادة السرتفيكا بتفوق في حزيران 1925. وبسبب تفوقه قُبل طالباً داخلياً مجانياً في مكتب عنبر، مدرسة التجهيز الوحيدة في دمشق آنذاك. فخفف بذلك عبء النفقات المدرسية، التي كانت باهظة، عن والده، الذي لم يكن ميسور الحال.أ عبد الله حنا
برز خالد بكداش في مكتب عنبر طالباً مُجِداً نبيهاً متفوقاً، وتميّز بشخصية قوية وقدرة فائقة على الخطابة. صوت جهوري ونطق واضح, قامة مديدة فرعاء ووجه تشعّ منه الرجولة والذكاء، عليه نفحة من جاذبية محببة. وكان زعماء الطلاب ثلاثة: خالد بكداش، الذي أصبح شيوعياً وأكرم الحوراني, الذي أصبح بعثياً وعلي الطنطاوي الذي مثّل الاتجاه الإسلامي. وهذه هي التيارات الفكرية السياسية الثلاثة التي احتلت الساحة في منتصف القرن العشرين. فكيف تمّت هذه المصادفة؟..
الانتساب إلى الحزب الشيوعي
بعد أن نال خالد بكداش البكالوريا انتسب إلى كلية الحقوق ولكنه لم يستمر طويلاً وانصرف إلى السياسة. فأثناء عمل خالد بكداش مراقباً لتعبيد الطريق في منطقة عسال الورد من جبال القلمون تعرّف على ناصر الدين حدة الذي فتح الطريق أمامه للانضمام إلى الحزب الشيوعي عام 1930. ويلاحظ أن خالد بكداش وجميع النشرات الصادرة بمعرفته تُغفل دور ناصر حدة من بلدة يبرود والناشط في دمشق، وهو الذي أعطاه البيان الشيوعي مكتوباً بالفرنسية وناقشه في نصوصه. وبناء على ذلك قام بكداش بترجمة البيان الشيوعي ونشره عام 1933.
كان انضمام خالد بكداش إلى الحزب الشيوعي نقطة تحول هامة في حياته المديدة، التي قضاها عضواً أو قائداً للحزب الشيوعي. كما أن انضمام بكداش إلى الحزب الشيوعي الوليد ونجاحه في كسب عدد من أبناء حيّه إلى صفوف الحزب, أدى إلى نوع من الحماية للحزب الوليد. تلك الحماية، التي لم يكن بإمكان ناصر حدة ابن يبرود أن يؤمنها في دمشق. ولحي الأكراد كما هو معروف، عصبية خاصة مرهوبة الجانب, تحمي من تسوّل له نفسه الاعتداء على أحد أبناء الحي.
وقد عكست الصحف الدمشقية في آوائل ثلاثينيات القرن العشرين أصداء نشاط الحزب الشيوعي ودور خالد بكداش المتميّز وبروزه شاباً شيوعياً جريئاً ودخوله السجن في عامي 1931 و1932 مرتين, ووقوفه بجرأة أمام المحاكم مفتخراً بانتمائه إلى الحزب الشيوعي، مما لفت الأنظار إليه وجعل الشيوعيين القلائل والمستضعفين، في ذلك الحين، يعقدون الآمال على هذا الشاب المثقف الجريء والمتحدر من حيّ مرهوب الجانب. في تلك الأثناء كان أمين عام الحزب فؤاد الشمالي وهو لبناني غريب عن دمشق – إضافة إلى أنه مسيحي – لا يمكنه أن يخلق تياراً شيوعياً ذا جذور محلية ”بلدية” كلمة البلدية هنا تعني الأصالة والرجولة وقوة الشكيمة والأمر نفسه يصحّ على ناصر حدة, الذي كان عربياً مسلماً ولكنه كان عازفاً عن القيادة وتنازل من تلقاء نفسه لخالد بكداش, إضافة إلى أنه غريب عن دمشق قادم من الريف من يبرود. وشاءت المصادفة أن يكون لعصبية حي الأكراد دوراً إيجابياً في شدّ أزر الحزب الشيوعي المستضعف ورفده بأعداد من شباب الحي الأشداء. وقد تمّ ذلك بسب انضمام خالد بكداش للحزب الشيوعي وترؤسه فيما بعد لهذا الحزب.
السفر إلى موسكو للدراسة
بعد أن برز خالد بكداش شاباً شيوعياً نشيطاً ومثقفاً جريئاً قدّم نفسه للسفر إلى موسكو للدراسة الحزبية. وفي اجتماع لقيادة الحزب في بيروت برئاسة مندوب الكومنترن الجزائري محمود الأطرش طرح خالد بكداش قضية سفره إلى موسكو للدراسة الحزبية. فعارض الاقتراح الشيوعي الأرمني هيكازون بوياجيان، لأن الحزب بحاجة إلى وجود خالد بكداش في دمشق بما يملكه من مؤهلات ورصيد حصل عليه خلال سنتين. وعندما لمس الأطرش رغبة بكداش بالذهاب إلى موسكو للدراسة وافق على رغبته. وكان ذلك خسارة للحزب على المدى القصير وربح له في المستقبل كما برهنت الأيام.
أحاديث خالد بكداش والوثائق الصادرة بمعرفته تتجاهل دور الشيوعيين الذين كانوا قبل انضمام بكداش إلى الحزب أو في فترة غيابه في موسكو من أوائل 1933 إلى أوائل 1937. و لا نجد مبرراً لهذا التجاهل. كما أن سرد التاريخ من قبل بكداش وأنصاره يجري على نسق التعتيم على أدوار عشرات الشيوعيين, الذين بنِيَ الحزب على أكتافهم.
حصل بكداش في موسكو على دبلوم في الاقتصاد السياسي من معهد بليخانوف، كما تخرّج من معهد ”الأساتذة الحمر” للعلوم الاجتماعية. وهناك في موسكو حضر خالد بكداش عام 1935 المؤتمر السابع للأممية الشيوعية وانتُخِبَ في رئاسة المؤتمر، وكان اسمه الحركي رمزي. وأثناء المفاوضات بين وفد الكتلة الوطنية والحكومة الفرنسية عام 1936 قَدِمَ خالد بكداش من موسكو إلى باريس للإسهام في إيصال المفاوضات إلى النجاح، وذلك بدفع النواب الشيوعيين لتأييد استقلال سورية. ولا شك أن هذه المهمة أوجدت نوعاً من الصلة بين بكداش وقادة الكتلة الوطنية..
كوادر الحزب تختار خالد بكداش أميناً عاماً سنة 1937
عاد خالد بكداش إلى دمشق في شباط 1937. وجرى له استقبال من أعضاء الحزب الشيوعي ومؤيديه في محطة الحجاز. وسرعان ما اعتلى بكداش،عن جدارة، سدة قيادة الحزب الشيوعي. فقد عُقد اجتماع لكادر الحزب من سائر مناطق سورية ولبنان جرى فيه انتخاب اللجنة المركزية واختيار خالد بكداش أميناً عاماً للحزب. فشرع بهمّة لا تلين في بناء منظمات الحزب مستفيداً من الأجواء الإيجابية وحرية عمل الشيوعيين في العهد الوطني بعد وصول الكتلة الوطنية إلى الحكم 1936 – 1939.
ومع قصف رعود الحرب العالمية الثانية عام 1939 وسقوط باريز بيد الألمان قام حكم فيشي (الفرنسي) الموالي للهتلرية بتضيّق الخناق على الحريات وملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي وزجّهم في السجون. وقد حكم المجلس الحربي الفرنسي على خالد بكداش بالسجن غيابياً خمس سنوات.
ترأس خالد بكداش أواخر 1943 أوائل 1944 في بيروت المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان. وألقى في المؤتمر تقرير اللجنة المركزية و أهم ما فيه توضيح طبيعة الحرب العالمية الثانية وأهمية مشاركة الاتحاد السوفييتي فيها وتحويلها إلى حرب تخوضها الشعوب للخلاص من الطغيان الفاشي والاستعماري. كما دعا إلى جلاء الجيوش الاستعمارية عن أراضي سورية ولبنان في نهاية الحرب. وهذا ما تحقق مباشرة في نهاية الحرب. انتخب المؤتمر الوطني لجنة مركزية اجتمعت وانتخبت خالد بكداش أميناً عاماً للحزب في سورية وفرج الله الحلو أميناً للحزب في لبنان.
قاد خالد بكداش الحزب الشيوعي في سورية ولبنان بهمة لا تلين وطغت شخصيته القوية الكارازمية على سائر أعضاء اللجنة المركزية, وتمكّن من قيادة الحزب موحداً خلفه. ولكن الملاحقات والضربات الموجعة، التي حلّت بالحزب أيام الجمهورية العربية المتحدة أدّت إلى خُفُوت وهج الهالة المحيطة بالأمين العام. فإيجابيات هذه الشخصية الفذّة كانت تحمل في طياتها عناصر سلبية قادت إلى نوع من تركيز القيادة تركيزاً شديداً في يد واحدة لا رادّ لأمرها. وزاد في تفاقم الأمور انتعاش عبادة الفرد في الحركة الشيوعية العالمية التي كرّست هذا المنحى في الفترة الستالينية.
وفي هذه الفترة كان بكداش هو الآمر الناهي في كل أمر من أمور الحزب وتحديد سياسته. وأصبح يُبْعِدْ أو يُقرّب كوادر الحزب من القيادة حسب قناعاته بأهلية هذا الرفيق أو ذاك. كما كان ”يقظاً” لمنع ظهور منافس له في القيادة. ومذكرات الشيوعيين من جهة، وما سمعناه من بعض من التقينا بهم من جهة ثانية، تُبيّن ذلك بوضوح. وتفسر لماذا أبعد بكداش كل مثقف يمكن أن يكون أهلاً للقيادة. ومن يتعمق في تاريخ الحزب الشيوعي السوري يلاحظ أن بكداش أبعد كثيراً من المؤهلين للقيادة عن مراكز القرار أو سعى لتهميشهم، وبالتالي إنهاء دورهم. وهذا الأمر أدى إلى بقاء الحزب موحداً ملتفاً حول قيادة بكداش، الذي اتخذ من لبنان وبيروت قاعدة خلفية احتياطية لنشاطات الحزب الشيوعي ولضمان سلامة كوادره. واستمرت قيادة الحزب الشيوعي موحدة تحت لواء خالد بكداش إلى أوائل ستينيات القرن العشرين.
يتبع