كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ثورات حمص على الفرنسيين 1 من 2

خالد محمد جزماتي- فينكس:

كثرت الأحاديث وكتابة المقالات عن مختلف الثورات السورية على الفرنسيين أثناء انتدابهم من قبل المنظمة الدولية "عصبة الأمم المتحدة" على سورية ولبنان، إلّا ثورات حمص العدية وتفاصيل أحداثها وعظمة مجاهدي تلك المدينة الصابرة ورجال أريافها الغر الميامين.. وقد ارتأيت أن أبحث عن أخبار حمص وثورات رجالها.
وقبل البدأ في أي تفصيل، لا بد من ذكر قيام الفرنسيين بتسمية المدعو "فوزي الملكي" متصرفاً (محافظاً) على مدينة حمص، وهو من مواليد مدينة "جنين الفلسطينية" عام 1876، وأبوه سليم الملكي، وكان ذلك بتاريخ 30 تشرين الأول 1920 أي بعد احتلال الداخل السوري وانهاء المملكة العربية السورية وترحيل ملكها فيصل بن الحسين...
ولقد عاش أهل حمص وريفها أسوء أوضاعهم في عهد ذاك المتصرف الذي امتد حتى يوم اغتياله من قبل المجاهد "خيرو النجار" المشهور بالشهلة بتاريخ 13 تشرين الثاني 1926.. وأيضاً لا بد من التعريف بالعائلة الكريمة "آل الـنـشـيـواتـي" والتي أصولها من آل الأخرس الحمصيين، وأحد أجداد العائلة عمل في صناعة "النشاء" فغلب عليه وعلى أولاده لقبهم الجديد "النشيواتي"... ولقد اشتُهر من هذه الأسرة المجاهد "نـظـيـر الـنـشـيـواتـي" (1892--1954)، الذي عمل في صناعة النشاء مع والده الذي توفاه الله عام 1918، فتابع عمله مع أخوته...
وبشكل عام عانت أسرة النشيواتي الحمصية أشد المعاناة بسبب ثورة رجالها على الفرنسيين، وبسبب ذلك تم هدم بيوتهم بعد نهبها وهاجرت نساءها إلى بيروت، فأقمن فيها بعيداً عن تنكيل الفرنسيين والحفاظ على أعراضهم. وبداية الثورة في حمص كانت عندما تصادم المجاهد نظير النشيواتي مع أحد رجال الشرطة المتطوعين من الحماصنة في ذلك السلك، فكانت النتيجه جرح ذلك الشرطي برصاصة أطلقها علية نظير، وعند انسحابه من المكان اعترضة شرطي آخر، فأطلق عليه النار أيضاً، وخرج من المدينة الى إحدى المزارع، وعندما انتشر الخبر لحق عدداً من مجاهدي حمص، منهم: حمدو النداف وسعيد المحمود وعزو حمود اّغا... الخ وبدؤوا ثورتهم بالإغارة على القوافل الفرنسية المتجهة إلى طرابلس الشام، فجن جنون الفرنسيين واستدلت الاستحبارات الفرنسية من عملائهم المحليين على أسماء بعض المجاهدين وعلى رأسهم نظير النشيواتي، فضاعفوا البحث عنهم بكل الوسائل المتاحة لهم، واستطاع الفرنسيون القبض على نظير النشيواتي (الصورة أعلاه) ورفيقه حمدو النداف بعد مداهمة الدار التي اختبأ فيها و زميله، وهي دار السيد عبد الله الحوري، وقد تم ذلك بسبب وشاية حسب العادة في مثل تلك الأمور.. و اقتيد نظير ورفيقة إلى السجن و الذي كان فيه أخوه عارف النشيواتي محكوماً عليه خمسة عشر عاماً، وكان خبيراً بتفاصيل ذلك السجن من ناحية البناء والحراس، فساعد ذلك على هروب نظير النشيواتي من السجن بعد مكوثه فيه ستة أشهر..
بعد ذلك ساعده اخوته على التواري عن الأنظار في بلدة "تلبيسة"، وأثناء ذلك صدر في حقه حكماً بالإعدام غيابياً.. و بدأ الترحال تارة إلى البادبة لاجئاً عند عشيرة "السبعة" و تارة أخرى عند اّل الفدعان، و أخيراً إلى بغداد، حتى عام 1924، حيث عاد إلى حمص فتوارى فيها عن أنظار السلطات الفرنسية وهو في أشد الحذر من المخبرين المجرمين.
****
قرر زعماء حمص أن يذهب بعضهم إلى حماة من أجل الاتفاق على الثورة معاً و في وقت واحد على الفرنسيين، ومن هؤلاء الحاج دلال النشيواتي وخليل الأتاسي وعبد الغني النشيواتي وديب السكاف وعزو حمود اّغا، ولكن كما هو معروف فشلت الثورة في حماة، و في الوقت نفسه بسببها تم فك الحصار الفرنسي الشديد على ثوار جبل العرب بواسطة القوات الفرنسية التي يقودها الجنرال الفرنسي "غاملان".
بعد ذلك بدأت الحملات الفرنسية بالتحري عن نشاط ثوار حمص وعلى رأسهم نظير النشيواتي الذي اجتمع بصحبة أخيه بالزعيم الوطني ابراهيم هنانو الذي قدم إلى حمص بكل سرية، وتداول معه واقع الحال في حمص، ودعم ثوارها بما يلزمهم. و لما اشتد التضييق على الثوار و خاصة على نظير النشيواتي، اضطر الثوار إلى ترحيل نظير إلى يبرود في القلمون، حيث بقي مدة ثلاثة أشهر فيها ثم عاد إلى حمص، و اجتمع في دار الحاج دلال النشيواتي مع بعض مجاهدي حماة صادق وصالح الداغستاني وسعيد الترمانيني ومنير الريس وغيرهم، وقام ورفاقه بمساعدتهم على شراء الجياد اللازمة لهم ثم ودعوهم وقصدهم كان السفر باتجاه بلدة النبك للاشتراك بالثورة هناك..
في تلك الفترة انضم المجاهدون الحماصنة المحكوم عليم بالإعدام إلى نظير النشيواتي، نذكر منهم سعيد الشهلة ونديم الرفاعي وعمر نجيب البطحيش وشكلوا عصابة ثورية، و كانت أول أعمالهم القتالية، انضمامهم إلى الثائر "زيـن مـرعـي" عندما أعلن الثورة على الفرنسيين في بلدة "اكروم"، ثم توجهوا بعد ذلك إلى القصير في حمص التي قاد معركتها خالد النفوري وأحمد طيفور ومعهم 150 ثائراً و300 مقاتل انضموا إليهم بقيادة ثوار "آل سوسق"، و أبلت عصابة حمص في معركة "القصير" بلاءَ حسناً من خلال تدميرهم بعض العبّارات الإجبارية في تلك المنطقة، وتابع مجاهدو حمص القتال مع ثوار القلمون وتوجهوا إلى جسر الخراب وعطلوا جزءاً من خط القطار فتسبب ذلك بانقلاب أحد القطارات، ثم دارت معركة طويلة، استطاع الفرنسيون في تلك المعركة بعدم تمكين الثوار السيطرة عل محتويات القاطرات، وفي اليوم الثالث للمعركة قدمت لجنة فنية فرنسية للكشف على جسر الخراب والقطار الخارج عن خطه، فتصدى لها المجاهدون وقتلوا أربعة فرسيين قبل أن ينسحبوا إلى قرب القصير في جوار حمص لمقابلة القائد سعيد العاص لتبدأ مرحلة أخرى قتالية قام بها ثوار حمص بقيادة نظير النشيواتي.
المصادر المعتمدة: 
-- تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي
أدهم اّل الجندي
-- كفاح الشعب العربي السوري.. الدكتور احسان هندي 
--الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي
"المجلد الأول" -- منير الريس -- 
-- نضال شعب وسجل خلود --- جميل العلواني --
-- مذكرات فوزي القاوقجي -- د. خيرية قاسمية - 
--مع ثورة حماة لسنة 1925 --محمد سعيد الزعيمالمجاهد سعيد العاص
--تاريخ الجيش العربي السوري "المجلد الأول" 
"مركز الدراسات العسكرية"
*****
 اتخذ سعيد العاص ومعه مجموعة من مجاهدي حمص وكوكبة من مقاتلي آل سوسق، من موقع "رأس الماء الساخنة" مقراً لهم، وسرعان ما أكتشف الفرنسيون موقعهم، فبدأوا بقصفهم بشدة، ثم هاجموا الموقع وبدأت معركة حامية استمرت حتى المغيب، و لما عزز الفرنسيون قواتهم بتشكيلات عسكرية داعمة قدمت إلى المعركة من طرابلس الشام وبعلبك وحمص انسحب المجاهدون بعد أن خسروا مجاهداً هو أحمد قاسم سوسق و آخر من بلدة النبك، وثماني مجاهدين أسرهم الفرنسيون، ثم أسرعوا في اعدامهم رمياً بالرصاص على جسر "الحارون".
بعد هذه المعارك قرر مجاهدو حمص العودة إلى حمص ومهاجمة المخافر الفرنسية، فهاجموها مساء يوم الأربعاء 5 أيار، واستولوا على أسلحة عناصرها بعد أسرهم، واستطاعوا قتل ضابطين اثنين من الفرنسيين، وأطلقوا سراح الجند المغاربة في تلك المخافر، ثم انسحبوا باتجاه حرش قرب "خربة غازي" وهم: نظير النشيواتي-- محمد علي الدروبي-- سعيد الشهلة-- علاء الدين الكيلاني (من حماة)-- حسين جراد-- عقل دندش-- مرعي التركاوي-- محمد المغربي--عبد الحميد النابلسي-- عبد الكريم عاصي-- محمد عبد الرحمن الأخرس-- أحمد المغربي-- رجل اسمه محمود من قرية عزة..
في تلك المنطقة رأى المجاهدين أحد سكان المنطقة التي جندته الاستخبارات الفرنسية، فأسرع بإبلاغ المتعاونين مع الدرك الفرنسي، فهاجموهم واستطاعوا أسرهم بعد عملية خداع ماكرة، وسلموهم للفرنسيين الذين أحكموا وثاقهم.. أثناء ذلك وفي لحظات عجيبة قام الشهيد المجاهد عبدو المعراوي بالفرار بعد أن امتطى فرس المجاهد نظير النشيواتي و اسمها "الخرساء" وهرب إلى قرية "أكروم" وأعلم القائد سعيد العاص بما حدث، فأسرع سعيد العاص بجمع مقاتليه وهاجم المنطقة وخاض معركة شديدة مع الفرنسيين والموالين لهم، وأثناء ذلك أسرع الفرنسيون بنقل أسرى المجاهدين إلى موقع اسمه "قاموع عليان"، وسرعان ما وصلت قوة من درك حمص بقيادة المدعو اسماعيل قائد درك حمص ومعه ضباطاً ثلاثة، حيث بدأ أحدهم بتدقيق أسماء الأسرى المجاهدين مرتين، ثم مشى هذا الضابط عدة خطوات وبدأ باطلاق الرصاص على الرؤوس مبتدئاً برأس نظير النشيواتي، ثم أعاد الكرة للتأكد من موتهم، وبعد ذلك رموهم على جانب الطريق في مكان منخفض، ومعجزات الله في الدنيا لا تعد ولا تحصى، ومن تلك المعجزات نجاة المجاهد نظير النشيواتي من الموت، حيث أن الرصاصات لم تصب منه مقتلاً، وعند المغيب صحا وتفقد نزيف دمه الشديد ثم دار على رفاقه وتأكد من استشهادهم، وتحامل على نفسه وسار حتى وصل إلى مشارف قرية "أم حارتين" و رأته امرأة وهو بحالة مزرية فعطفت عليه وساعدته في فك وثاقه، فشكرها وتابع سيره حتى وصل إلى بساتين حمص فوقع في خندق غاب فيه عن وعيه، و لما أفاق تلمس جرحه فوجده جافاً، فاطمأن قلبه وتابع السير حتى وصل إلى "البغطاسية" ثم حي سيدي خالد، ومنه إلى باب تدمر، فقرع باب دار أخيه جميل و دخله و الجميع ذهلوا من رؤيته حياً يرزق، و هم في أشد حالات الحزن على الإعدام الذي جرى، وكان أخوه جميل قد تفقد موقع الإعدام و لم يجد أحداً جثمان نظير...
بعد ذلك بقليل تم نقل نظير النشيواتي إلى منزل الشهم الفاضل "محمد الزين" وجاء الطبيب سليم محيش إليه وعالج جراحه، ثم قدم إليهم الطبيب الطرابلسي البطل عبد الله بيسار من طرابلس وعالجه أيضاً، وبقي الطبيبان يعالجان المجاهد نظير حتى شُقي تماماً، ولم يقبلا أن يتقاضيا أي أجرة على عملهما الرائع.