كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس

سيمون عبد المسيح

كانت معاصر العنب تنتشر داخل القرية وفي نطاقها العقاري حيث زرعت كروم العنب، وشكلت مواسمها مصدرا أساسيا للمونة من دبس ونبيذ وزبيب، ويبدو أن تسويق العنب الى المدن الساحلية يعود الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث شكلت مبيعاته مردودا ماليا يسمح بشراء ما يحتاجه الفلاحون من سلع ومواد غذائية.
تتوزع المعاصر بين تلك المكشوفة في الطبيعة وتلك التي داخل أقبية حجرية، حيث يمكن العثور على معصرة واحدة في قبو واحد معقود بالحجارة، أو معصرتين أيضا في قبو واحد، ولكنه معقود بمصلبيتين جميلتين مفتوحتين على بعضهما، تقع كل معصرة تحت كل منهما، ويكون هذا القبو مقفلا من جهاته الثلاث باستثناء الناحية الشمالية المفتوحة بقنطرة (إذا كان عقدا واحدا) أو قنطرتين (في حالة القبو المزدوج بمصلبيتين)، وهذا التصميم الهندسي للمعصرة يأخذ بعين الاعتبار دوران الشمس بما يسمح بالعمل داخلها في أيام الصيف الحارة فلا تدخل أشعتها الحارقة داخل المعصرة.
يتم اختيار موقع المعصرة في منطقة صخرية، ومن المناسب أن تكون في لحف قطين صخري . حيث يتم حفر البلاطة في أرض القبو على شكل حوض لا ترتفع جوانبه إلا سنتمترات قليلة وهو الحوض الذي يوضع فيه العنب المراد عصره، ومن هذا الحوض تجري قناة صغيرة الى جرن المعصرة الذي يكون موقعه منخفضا عن حوض العصر. يتجاوز قطر فوهة الجرن المتر الواحد وكذلك يمكن أن يتجاوز عمقه المتر أيضا ، وبالتالي فإن سعته موازية تقريبا لسعة "الحلة "النحاسية الموضوعة خارج المعصرة، قريبة منها بأمتار معدودة.
ومن السمات الهندسية أيضا أن حوض العصر ملاصق للجهة الجنوبية التي كما أشرنا قسم منها هو سنسال صخري يتم فتح فجوات فيه قطر الواحدة منها قرابة 40 سنتم وعمقها في الحائط الصخري قرابة 20 سنتم . هذه الفجوة كما سنلاحظ مخصصة لوضع أحد طرفي “البد" فيها، و"البد" هو جذع شجرة طولها قرابة 3 أمتار وعادة ما يكون من السنديان الصلب. إن وضع البد في الحائط الصخري تصميم هندسي يهدف الى عزل عمليات العصر عن الجدران المبنية بالحجارة بما يشكل أمانا لعدم انهيار القبو خلال عملية العصر.
يتم تجميع العنب في حوض العصر حيث يتم دوسه بالأرجل في مرحلة أولى، فينساب العصير عبر القناة الى حوض المعصرة. ولكن عملية الدوس بالأرجل غير كافية لاستخراج العصير من العنب، وهنا تبدأ مرحلة ثانية، حيث يتم تجميع العنب المعصور داخل أحزمة مصنوعة من اللزان، شبيهة بتلك المستخدمة كأربطة لأغمار سنابل القمح (القاقوله)، وتوضع فوقها بلاطة حجرية، وفوق البلاطة أحجار مختلفة الأحجام آخرها نحو الأعلى على شكل تجويف بسيط يسمح بتركز "البد" الموصول الى فجوة الحائط الصخري. ولكن كيف تحدث عملية العصر؟ هنا تبدو التقنية أكثر تعقيدا. ذلك أن الضغط على العنب المعصور داخل أحزمة اللزان يحتاج الى ضغط يؤمنه حجر ضخم ينبغي أن يرفع على الطرف الآخر من البد، وهذا الحجر هو المعروف بجرس المعصرة، وهو مثقوب من طرفه الأعلى، ويمكن أن يتجاوز وزنه 250 – 300 كلغ. ولكن المشكلة في كيفية رفعه عن الأرض، ليقوم بعملية الضغط. يتم ذلك عبر استخدام جذع شجرة أخرى ولكنه أصغر من البد (وعادة ما يكون من خشب التوت) ويعرف ب "الخنزيرة" وهو مثقوب بثقبين موزعين على طرفيه، ولكن بشكل متعاكس (أي أن ثقب اليمين إذا كان من أعلى الى أسفل فإن ثقب الطرف الآخر هو من جنب الى جنب)، بما يسمح بإدخال "مجذاف" في كل ثقب بشكل تعاقبي. إن "الخنزيرة " مربوطة بشكل أفقي ومتواز تحت الطرف الآخر للبد، وهي بدورها مربوطة الجرس من خلال حبال، فيتم العمل على دوران الخنزيرة على نفسها عبر المجذافين، فيرتفع الجرس شيئا فشيئا عن الأرض، ويشكل قوة الضغط على وسط البد فوق الأحزمة المليئة بالعنب، حيث يتم ترك الجرس معلقا بإسناد المجذاف الى البد، حيث تتم عملية العصر ببطء .
في جرن المعصرة، توضع كمية من "الحوارة" (وهي مادة ترابية أقرب الى البياض ولكنها ليست كلسية)، تعمل على تصفية وترقيد عصير العنب، وتفعل فعلها كما الرماد في أجران الصفوة، بحيث أن أقسامه العليا تصبح أكثر نقاء وصفاء من أقسامه السفلى.
عندما يصفو عصير العنب في جرن المعصرة يتم "نقضه" (أي نقله) من الجرن الى الحلة النحاسية المركبة فوق موقد ضخم ، بواسطة "الكزحة" وهي كلمة تعني تنكة في طرفها الأعلى مسكة خشبية طويلة. ولكن تبقى كمية من العصير ممزوجة بالحوارة، وهذه الكمية يتم وضعها في كيس من الخيش يربط ويوضع على بلاطة خارج المعصرة مع جرنها الصغير، وهي بلاطة موجودة حكما، كجزء من الهندسة العامة للمعصرة. وهذه الكمية الأخيرة من العصير تعتبر بمثابة أجر ل "جردون " المعصرة، أي للعامل فيها.
إذا أضحت كمية العصير في الحلة النحاسية، ولأنها بحاجة الى قوة نار كبيرة، يستعد الفلاحون في قريتي ومنذ بداية الصيف وربما قبل ذلك، بتجميع كميات من القندول والبلان واللزان، حيث يتم توضيبها وكبسها على شكل أحمال كبيرة، يتم نقلها الى حيث موقد الحلة، لإشعال النيران بها، وهذه العملية تعرف ب "الغرف".
يبدأ العصير بالغليان خلال تحولة الى دبس، حيث تستخدم "المشله" (وهي "كافكيري" حديدية دائرية واسعة ومثقبة مربوطة بيد خشبية) لتشلية العصير / الدبس. إن يوم "التدبيس" هو يوم مشهود تتجلى فيه كل مظاهر التعاون و"العونة" . وعلى أي حال فإن ملكية المعصرة والحلة هي ملكية جماعية لعائلة موسعة، فيقال معصرة بيت بو نصر أو معصرة بيت عبد المسيح ... وغيرهما من معاصر العائلات في قريتنا حدتون.
يمكن الحفاظ على كمية من الدبس الرخو، أي بإخراجه من الحلة قبل أن يشتد، ولكن من المناسب أن يترك، حيث بعد إطفاء النار، يتم ضرب الدبس بغصني بطن وتين يجمعان الى بعضهما، أو يضرب بالأيدي، فنحصل على "الدبس المضروب".
يحفظ الدبس في فخاريات بعضها معروف ب القطرميز أو في خوابي كان مصدرها بلدة بيت شباب المتنية. وهكذا شكل الدبس غذاء كاملا استخدم للتحلية أو في صناعة الحلويات خلال أشهر الشتاء القارسة، وأمن وحدات حرارية ضرورية.
انتهى زمن كروم العنب في قريتي منذ سبعينات القرن الماضي بسبب تعرضها لحشرة الفيلوكسرا، وانتهت معها مرحلة من مراحل التاريخ الزراعي، وخسر الفلاحون مصدرا ماليا وغذائيا أساسيا. انهار الريف بشكل مأساوي، وتحولت مناطق الكروم الى أحراج، وانهارت جدران الجلول والمدرجات التي عملت أجيال الفلاحين من أجدادنا على كسرها واستصلاحها.
لقد نظمت في بداية التسعينيات مؤتمرا إقليميا في بلاد البترون – وكنت آنئذ رئيسا لتجمع أندية قضاء البترون – حول الكرمة – حيث عنقود العنب شكل رمز المدينة منذ المرحلة الرومانية. حضر المؤتمر وزير الزراعة، واتخذت توصيات تتعلق بتجديد النهضة في ميدان زراعة الكرمة، وعملنا على شراء نصوب زراعية من فرنسا مطعمة على جذوع برية... ولكن المؤتمر كان أكثر تحفيزا لقوى رأسمالية من داخل المنطقة وخارجها، تحصد الآن نتيجة استثماراتها الناجحة وبخاصة في ميدان تصنيع النبيذ الفاخر.
أما عندنا – في قريتنا – فلم يبق إلا بعض المعاصر / الأقبية هي أماكن ذاكرة لماض زراعي مشرق، ولنمط جيد من العيش والغذاء والتعاون.
(يشكر الباحث السادة داود الشدياق وزوجته ندى والسيد جورج دوميط ريشا، الذين تبرعوا مشكورين بسرد مسار تصنيع دبس العنب، وذلك في لقاء جمعه بهم بعد زيارته لمعصرة بيت بطرس يعقوب حنا على طريق المريح. 
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب