كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق

المشرف على الدراسة د. عبد الله حنا- فينكس:

حياة العامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق تحسين نظام "المغمّسة بالدم".
مُجرية اللقاء الدارسة في المعهد النقابي بدمشق نوال عفيف ضاهر
المتحدث: تحسين نظام من دمشق. مسجّل في الهوية من مواليد 1923، وفي الحقيقة هو من مواليد 1904. جرى لقاء الدارسة به في 10 - 2 - 1989
كتبت الدارسة:
في 1/2/1989 التقيت صدفة مع العم تحسين نظام البالغ من العمر الأربع وثمانين، وطلبت منه أن يقصّ عليّ سيرة حياته ونضاله في العمل النقابي، إذا كان له إلمام بذلك. فأجاب: نعم يا عمو. واستجاب بكل سرور إلى رغبتي، وأتى معي إلى البيت وجلس من الساعة الحادية عشر حتى السابعة عشر. وهو في غاية الشوق للحديث أكثر وأكثر عن حياته مع الشعور بالحزن والأسى تارة وبالفرح والعز تارة أخرى.
بدأ حديثه قائلا: تزوجت ثلاث مرات. الأولى كان عمري 48 سنة والثانية 54 سنة والثالثة 61 سنة، ولا تزال الثالثة موجودة عندي وصار لها معي 23 سنة.
اسم أمي رسمية. وأنا الذي سجّلت حالي (في دوائر النفوس).
{كان قبل 1923 مكتوما مثل عشرات الآلاف، الذين لم يسجلوا نفوسهم في دوائر الأحوال المدنية المعروفة بدوائر النفوس، والتي أُنشئت مع حركة التنظيمات في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وجرى عام 1922 تسجيل جديد للنفوس، وعلى أثرها سجّل تحسين إسمه.}
ولدت في دمشق- القيمرية، وبقيت فيها 30 سنة، ومن ثمّ انتقلنا إلى ناح (جهة وهي حي الشاغور- المزّاز (وسكنّا ما يقارب 12 سنة)، ومن ثم انتقلنا إلى الجلاء في بناية الحمصي باتجاه المزرعة. وسكنت في قبو بجانب مستشفى الفرنسي وكنت متزوجا وكان لي ولدان من الأولى (صبي وبنت) قرب جامع الفردوس وراء بيت فارس الخوري وبالأجرة وكان آجار البيت 60 ل.س وكنت آخذ راتب 115 ل.س، ومن ثم سكنت في أول شارع حلب. والسكن مشترك مع أصحاب البيت في طابق أول أرضي، وكان لي غرفتين أجرتاهما 40 ل.س. وكان الراتب نفسه ولكن الأولاد كِتْروا وأصبح العدد 4 والخامس على الطريق. البنات أربعة وصبي واحد. طلّقت الأولى لأنها من بغداد وكان على السوريين عدم دخول العراق، ولذلك اضطرت إلى الطلاق من أجل الذهاب إلى أخيها الوحيد وتعود إلى جنسيتها.
وطلّقت الثانية لأنها لم تقعد عندي. تقعد يوم وتغيب 25 يوم عند أهلها والله ما في زعل بيني وبينها وكانت حامل. وفي ثاني يوم الطلاق ولدت بنت أخذتها معها. ورفعت عليّ دعوى وطلبت مني 1000 ل.س في الشهر. 250 ل.س حضانة و750 ل.س خرجية. أوقفتني بالمحاكم وخذي على جلسات، فطلبت منها الرجوع، فلم تقبل. وكانت هي صغيرة في العمر وتزوجتني من أجل أن تنجب صبي ولكنها جابت بنت. وعلى شو بدي أحواها. (في هداك الوقت كان راتب الوزير 650 ل.س. وكانت مدّعِية أني أملك أراضي كبيرة وبيوت وغيره... فطلبت مني المحاكم ورقة بيان براتبي فجلبت لهم بيان بالراتب وسألوني عن عدد الأولاد فقلت عندي ولدين من الأولى وأمي وأختي، فقسم الراتب على الجميع وأنني انا المعيل الوحيد فكانت حصتها 5 ل.س حضانة و13 ل.س خرجية. فصارت بدّها تحبسني ووكلت محامي وأنا ما معي مصاري فدافعت عن نفسي والمحامي كان اسمه كمال أنيس الحلبي. وَرْجَوني الموت (والله يا عمو، فدفعت لهم كامل المبلغ المقدر بـ ألفين ليرة تدينتهم من العالم.).
***
كان أول عمل لي، يا عمو، عندما كان عمري ثلاثة عشر عاما. اشتغلت في دباغة الجلود.وكانت الدباغة بحي باب السلام (في موقف السادات)، ويوجد طريق على اليد الشمال قرب مسجد الأقصاب وكنا نسميه مزْالقصب وتغير على هذا المسجد عدة أسماء.
جدي أنا ما بعرفه، كانوا يقولون عنه أن حالته كانت مليحة وخلّف بيوت ودكاكين. أنا بعرف إنه أبي يقعد بدكان وعمي بدكان وكانوا يجيبوا فردات يوجد فيها الدخان والتنباك مع سمانة. باعوا في آخر أيامهم زيت كاز وزيت حلو. كانت العالم تشتري زيت الكاز بالأوقية و بنصف الأوقية، وزيت الحلو شرحو بالميزان، ولكن ما كان الكيلو، كان يوجد رطل.
ولكن والدي من حظه السيء "كل ما ضَرَبْها يمين تجي شمال" حتى وصل إلى البيت الذي يسكنه، باعه واشترته أمي، وقالت له: لازم تموت في هذا البيت لأنه بيت ابوك. وأمي جابت التركة من أهلها من لبنان وتَدَيّنت {اقترضت مالا} واشترت البيت. قعدت تشتغل بالإبرة أي في صناعة المناديل ذات الطرر. وكانت أجرة المنديل قرش واحد، تشتغل منديلين باليوم حتى توفي حق البيت. ولما توفي والدي وهي امرأة وصارت كبيرة باعت البيت. وصرت أنا أدوْر في البلاد وقيم وحط وصرت أتشرد شوية. بتعرفي الشاب يا عمو إذا ضاقت بيده الدنيا.
لما اشتغلت بالدباغة صرت آخذ أبو الخمسين (أي نصف قرش) وصار يُدَوّر عليه في جيبه يود أن يفرجيني إياه وكان من الفضة. وكان يوجد المجيدي ونصف المجيدي ولما طلعوا الأتراك) (1918 بَطَلَتْ النحاسة والمتليك، وبَقيَ أبو الخمسين وأبو المية وربع المجيدي والمجيدي. كان أبو المية بيشتري نصف رطل خبز. وكنت آخد أبو الخمسين كل يوم ولكن ما صحّلي شغل بَرّه) (يا عمو. لو تعرفي شو شغل الدباغة يا عمو، في الصيف حلوة وفي الشتاء موت أحمر. فكنُّا ننزل في الزميتا) (إلى صدورنا من أجل أن ننقع الجلود في الماء، وننقله إلى السقط. بتعرفي شو هادي السقط، أي زبل الكلاب. وصار يبكي، وقال يا عمو الله يعطيكي العافية أنتي رجعتيني إلى الماضي المليء بالشقاء والعذاب. فحزنت جدا عليه، وقلت له: إذا بدك تبكي بطّلنا نكتب. ولكنه أجابني: لا يا عمو انت فرحتيني، وأنأ لم أستطع الكتابة وأتمنى أن أحصل على نسخة من هذا الكلام. وَيَعِنُّ على بالي كثيرا أن أكتب ما حدث لي في أيامي منذ الولادة حتى الآن.
وتابع كلامه: من بعد زبل الكلاب تمدّنا شوية ونقلنا إلى زبل الدجاج. (سألت لماذا ينقع في الوسخ؟) فقال: نأتي بالكلس المطفّأ ويوضع فيه الجلد من أجل ترويح الشعر عنه أي عن (جلد البقر أو الماعز أو الجمل). ومن بعد الشعر {زوال الشعر عن الجلد} يجب ترويح الكلس والوسخ هو الذي يروح الكلس لأن الكلس يحرق الجلد. بعدها ننقع الجلود في التيغار (وأضاف موضحا) التيغار يعني حفرة في الأرض مثل البركة تُصْنع من الطين أي من التراب والزريقة والحجر) فننقع الجلود مع قشر الرمان والعفص، وهكذا يطلع الجلد مدبوغ ولكن ليس بشكل جيّد. وكنا نصنع من هذه الجلود الصرماية الحمراء والسوداء. فهذا كان من الجلد الأول. ومن ثم تطورت الصناعة إلى (اليوكس) (ونصنع الصبابيط والصنادل من أجل الفرنسيين. والدباغ كان عربي ليس افرنجي.
وكان التجار يأتون بالجلد الأجنبي فتعلمنا وصرنا نطوّر الجلد، حتى أتت سنة الأربعينات أي من عام 1938 وطالع صرنا نتطور شوي شوي على دباغ الكروم أي الأجنبي أي) (وفي ورق السماق وقبله بقِشِر الرمان والعفص (العفص من شجر السرو). وقت خرى الكلاب كان قشر الرمان نضيفه كصباغ مثل القماش وليس مثل البويا.
أما عمّي كانت حالته جيدة وصار عنده أملاك، ولكن لم يعترف علينا. وكُنّا ما نشوف بعض إلا قليل وفي المناسبات. والدي جار عليه الزمان وكذلك أنا. فكنت أشتغل لحالي ودرت في البلاد واشتغلت في فلسطين ومصر وتونس والمغرب على أيام حسن الأول جده لحسن الحالي. آخر سفرة لي كانت إلى العراق وعلّمنا العراقيين الصنعة، ولم أجلب معي سوى دينار ونصف. صرفت الدينار من أجل البيك آب) (كنت أشتغل في أمانة العاصمة وعندما يبطلونا من العمل كنت أذهب وأجمع العمال وأشغلهم معي. فيكون عملي دائما "مراقب" لأنني أدور على عمل الورشة كاملة. وكانت أجرة العامل 2 ل.س أما أنا كنت آخد 4 ليرات. إذا جمعنا ايام عملي كلها فتطلع حوالي 43 سنة.
في الستينات تعينت مناظر بالمياومة بأمانة العاصمة. وكُنّا نطلع من العمل كلما انتهى العمل. وإذا جاء رئيس الدائرة ورأى عاملا في فمه لقمة أكلْ وفي يده الكراك) (كان يقَلّعه من العمل، أو يحسم عليه الأجرة.
ثم انتسبت إلى نقابة عمال الدولة والبلديات. وكان رئيس النقابة وحدوي، ومن ثم أتى محمد سعيد حمد إلى النقابة ودخل بالانتخابات وكان حسين مكية ورياض عبد الواحد وفايز كشكول. وفي السبعينات تعين محمد سعيد حمد في المجلس التأسيسي لمدة سنتين.
وياما نمنا في المغاير بالتربة.)
وكُنّا نعمل من ميعاد الضو حتى تعتم الدنيا، كان استبداد شديد. وكان الإنتاج ياخدوه (الكرستاجية) الشكارة كانت 70 جلد أو 120 جلد وهكذا. كان لا يحق للعامل أن ينقطع عن العمل ودائما يحق لصاحب العمل الرفض وأحيانا يشغلنا يومين أو ثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع حسب طلب السوق. وكان للجلد مواسم، ففي أيام الشتاء من أجل الصرماية السوداء يدفع التاجر رعبون ويربط الإنتاج به بهذا الشكل. وكانت العملة الذهب (تتداول) بين التجار والمعلمين ولكن ليس مع العمال. كان العمل قليلا فنجتمع ساعات ونجلس بالشمس ونخلع ثيابنا وننقي القمل.
وكان يوجد خلاف بين العمال والمنافسة جارية بينهم، لأن كل واحد صاحب عائلة والجوع كافر. فكان الواحد يذهب عند المعلم ويغريه أن يشتغل قَدْ {بقدر} عاملين وحتى يشتغل في الليل على ضوء السراج، مما يدعو صاحب العمل إلى صرف العمال ويستغل العمال المهرةـ
ولكن مع الفقر الموجود كان أهل الحي يتعاونون مع بعضهم في المصائب. وكان الأغنياء يوزعون على الفقراء البعض من مالهم. فكان يوجد في كل حي تقريبا بحدود 7 عائلات حالتهم جيدة. وكانوا قبلا في الشتاء يوزعون الفحم، كل واحد على حسب عائلته. وكان التشعيل فحمتين وثلاثة يضمونهم في الكانونة (التي تصنع من الطين)، وهي على شكل قدر نشعل فيها النار وتوضع تحت لحاف يغطي جميع أفراد العائلة،لأنه كان يصير برد قارس جدا، لكن البيوت العربية كانت دافئة.
قال: يا عمو، إن الإنسان من التراب، لذلك يُدفأ من التراب. ولا يحن على العود غير قشره. و نحن بني آدم من التراب ويحن التراب علينا.
أما مياه الشرب فكانت من الأنهر تأتي إلى البيوت بسواقي مصنوعة من الآجر. تأتي من الطالع إلى السواقي ومن ثم إلى الشاوي ، وهو يقسمها على البيوت، كل بيت حسب ما اشترى من الماء. وكانت طريقة الشاوي في تحصيل ثمن الماء، أنه كان يضع الزبل أي بعر الغنم أو الجمال في السواقي فتصل إلى بركة البيت فعندها يشاهدونها أهل البيت ويتذكرون الدفع.
أهل الريف يأتون إلى المدينة ليتبضعوا فيها وأهل المدينة كانوا يذهبون إلى القرى، حتى البيض يجلبونه من القرى. مع العلم أن أهل دمشق كانوا يربون الدجاج ولكن ليس في كل مكان.
كان يوجد شيخ الكار من بيت الأسود وكانوا ينادوه باسم عمي حمدي. فسألته: ما علاقته مع العمال؟ هزّ رأسه وقال: علاقته مع المعلمين وليس مع العمال وأنه كان يُمَشّي أشغال المعلمين، أما العامل فيلعن أمه وأبوه.)
كان يوجد جمعيات للصناع، وهي سهرة للعمال تقام كل يوم خميس مساءً من أجل الضحك والتسلية واللعب مثل لعبة الخرسانة، وهذه اللعبة: جمعية للصناعية، وللمعلمين جمعية خاصة. يجب على الجميع عدم الكلام ويأتي واحد وهو أكبر الموجودين وشو ما عمل نحن نعمل ويللي بيحكي توقع عليه. وهذه عليه تعني أن يعمل عزيمة مع العلم أنه طفران، أو بياكل مقرعة (أي الضرب بالسلو) أو على طقة. والطقة هي العوامة أو المشبك أو الهيلطية أو الزليبة و بعدها طلعت الهريسة. وكل ما كنت أعطل عن العمل أذهب إلى المحافظة للعمل فيها.
***
وفي عام 1948 تأسس معمل البلور بدو عمال، وأنا كنت عاطل عن العمل فركضت. آه يا عمو، ما بقدر أحكي (أنا إسمي الناقد ومو بس الناقد الناقد اللاذع). كان مؤسس المعمل من كبار التجار وفيه من الجملة بيت عم لنا من بيت نظام الفقراء بالدين وغنيين في المال، فرحت لهم وطلبت العمل فرفضوا. فحملت دربي ورحت ووقفت على باب المعمل في القدم وعلى السيارة نمرة 11. فقالوا: جاء المدير واسمه (محمد بيضون) من لبنان، فناديت محمد بيك محمد بيك! فقال للسائق: وقِّف! وطلبت العمل. فسألني عن اسمي فأجبته تحسين نظام، وقال الحقني! فسمع الحارس فقال الحقه ! فلحقت به فطلب مني الشهادة، فقلت: لا شيء، فسأل من بيت مين؟ فقلت من بين نظام الله وكيلك، أنا دارس في شيخ الكتاب أيام سفربرلك. فطلب تسجيلي مع العمال. فأخذني واحد وسلمني عرباية بدولاب واحد، على زق البلور المكسر. وأنا عندي ذكاء، فصرت الحق بالمهندسين. كانوا اثنين أمريكان، هلّي اشتروا منهم المعمل.
واحد اسمه كيلي من واشنطن والثاني اسمه فاي من فرجينيا. كيلي على الكاسات والقوارير وفاي على الزجاج السادة. كيلي عم يمشي حاله في الشغل وفاي ما بدو الشغل يمشي فيخربط بالمواد الأولية أي في الخلط، المواد الأولية من أوروبا والرمل من لبنان. وكان المعمل من أفضل المعامل في ذلك الوقت، وكان يحوي ثلاثة أفران. وكانت أجرتي 1,5 ل.س وكانت هذه الأجرة تكفي إذا عمل العامل طيلة الوقت.
ظلّ (بقيَ) التعامل بالذهب حتى عام 1936، إلى أن صار الحكم ذاتي وطني. بعد إضراب 1936 صارت الحديدية (تعني الجيش الوطني وكانوا يحملون عصي مثل الكشاف ويلبسون لون رصاصي ولى رأسهم خوذة فيصلية عليها ريشة، لأن الملك فيصل دخل إلى بلدنا قبل الانكليز وبعد دخوله نحن عيناه ملك ومن ثم دخلوا الانكليز بعد اسبوع أو أقل.
وكان يوجد خبراء للفرن الثالث من بلجيكا للبلور المحجّر، وكنت أود أن أحسن الأوضاع من نفسي، وتركت نقل الرمل وذهبت إلى ورشة القص، فصرت أعمل بقص الزجاج في المحجر، وألف على فرن كيلي مع شغلي، ومن ثم استقريت على المحجر لأنه يمشي أكثر من غيره. والبلجيكيون حبّوني وصرت رئيس ورشة على أولاد العرب لمدة ثلاثة أشهر. وأصبح الخلط أسمر وصار الزجاج يتكسر فيزعلوا البلجيك، لأن فاي كان يعمل الخلط. فاتفقت أنا والرئيس البلجيكي على تعلم الخلط لمدة ثلاثة أشهر وكل يوم برنامج خلط جديد. وفي يوم سمعت المدراء يتكلمون أن المازوت سوف ينتهي وأفران الزجاج لا يجوز أن تتوقف بسرعة، وفجأة تحمست وركضت وراءهم وقلت أنا أمشي الفرن. فصرخ سليمان ابو شعر، وهو شريك في المعمل وقال: هالحمير تمشي الفرن وعندنا خبراء أجانب لا يستطيعون. وبعد فترة أرسل محمد بيك بيضون ورائي وطلب مني رأيي. فزعلت في البدء فطيب خاطري واشترطت عليه أن يعمل برأيي مع العلم أن الزجاج كان يتكسر من مدة سنة ونصف تقريبا وكانت الخسارة فادحة وقلت له أني على استعداد أن أستخرج الزجاج غير مكسر ولكن بعد 18 يوم. فقال:- لماذا هذا الوقت كله؟ فقلت: حتى ينظف الفرن من الخلطات السابقة. وفاي لم يرسل لي ولا خلطة ولا أمشي على خلطاته. فوافق وقال: لا نستطع إبعاده نهائيا، ولكن لا تدعه يعلم ماذا تعمل، لأنه من اصحاب المعمل.
فَرُحْتُ أطبق بعض خلطات كيلي. فأبعدّت اليوركس ووضعت فحم بدلا عنه ونقيته من الحجارة. وخلال 14 يوما فقط صارت الألواح تظهر كاملة، فأرسلت وراء المدير وقلت له: تعال واستلم الزجاج كاملا على عدة أمتار، سالمة غير مكسرة. وبعد ذلك أصبح تحسين هو الأول والأخير. وتكلم محمد بيضون مع حنين صحناوي وجلب المازوت من شركة "شل" على حساب حنين صحناوي الخاص (أي الفيول).
ثمّ جاء وقت تعطيل العمال (فجاؤوا عليّ) (إليّ) وقالوا: يا سيد تحسين، بدنا نبطل العمال، فأجبت: لا، إن العمال أصبحوا فهمانين، وإذا جئتم بعمال ليس لهم دراية بالعمل فماذا يصير؟ فأجابوني: لا تتدخل في (شؤون) العمال، فلم أوافق أبدا. كان عدد العمال تقريبا ما يعادل 250 عاملا على ثلاث ورديات ويعملون 8 ساعات عمل. فذهبت إلى العمال وصرت أوَعّيهم وأقول لهم أنهم سوف يبطلونكم عن العمل. فتجمعنا ونبهت العمال أن لا يتحركوا بشيء إلا عندما يبلغوننا وقت التعطيل، وقلت لهم سوف نؤلف نقابة. كان يوجد نقابة صغيرة في الشاغور لعمال الزجاج، مثل الأباريق، ولكنهم لم يرضوا بالانضمام إليهم. فجمعنا من جيوبنا ودفعت أنا من جيبي 280 ل.س) (واستأجرت بيت في شارع الباكستان واستأجرنا كراسي وتقدمنا بطلب اتحاد العمال الذي كان رئيسه في ذلك الوقت صبحي الخطيب. وكان أمين السر من بيت نسيت اسمه وعرضنا الموضوع عليهم، وعملنا اجتماع عندهم في القنوات فوق النهر) (حيث مركز الاتحاد، وقلنا لهم: نحن مضطرين إلى تأسيس نقابة لأنهم سوف يسرحوننا من العمل، ولكنهم أجلوا الموضوع إلى انعقاد اجتماع ثاني، وتسرّح بعض العمال في اليوم الثاني. فجمعت ثلثي العمال وذهبنا إلى الاتحاد مرة ثانية. وعلمت الشركة بالموضوع، فعجلوا بالتسريح وسرحوا قسما من العمال. فعملنا إضراب وعملنا حراسة على الماكينات، فطلعت الدرك وقائد الفصيل، وأرسلوا ورائي وقال لي قائد الفصيل: لماذا تحرّض العمال على الإضراب وتخريب الماكينات، ومن المسؤول؟ فكان جوابي: نحن نحرس الماكينات وحريصين على المعمل. فقال أحد أصحاب المعمل لقائد فصيل الدرك: إن تحسين هو المخرب. عندها وضعوني الدرك في سيارة وأخذوني، فصرخوا العمال ولحقوا بي وتكلموا مع وزارة العمل، فجاء الجواب أن اتركوه واستمرينا بالإضراب مرة ثانية وثالثة وفي المرة الرابعة رفضونا جميعا وقلّعونا خارج المعمل.
فذهبنا وربطنا لوردية العمال الثالثة، التي تعمل بعد ورديتنا، وأخذناها معنا. وجبنا لعمال الوردية الثالثة خبز وعُلب حلاوة وبيض وأطعمناهم وهكذا منعنا الوردية الثالثة أن تصل إلى المعمل. جن جنونهم) (وتدخّل صبحي الخطيب رئيس الاتحاد بالذات وقال: شو عم يصير؟.. فقلنا له: لم تعطونا القرار بتأسيس نقابة وهم يسرحوننا، وأبو حسن النجار رئيس ورشة النجارة كان يعطيهم أخبار عن تحركات العمال إلى أصحاب المعمل. وبعد مفاوضات اصطلحنا على أساس أنهم لن يسرحوننا. وعاد العمال إلى المعمل، كل واحد إلى عمله. وكانت دوريات العمل مقسمة على النحو التالي: من الساعة السابعة صباحا حتى الثالثة، ومن الساعة الثالثة حتى الحادية عشر، ومن الساعة الحادية عشر إلى السابعة صباحا و بدون فرصة أثناء عمل الدورية.
في اليوم الثاني ذهبت إلى المعمل مثل العادة، ولكنهم قالوا لي: أنت مأذون وممنوع أن تدخل إلى المعمل لمدة 15 يوم. فراجعت صبحي الخطيب فقال لي: اليوم عندنا اجتماع في وزارة العمل فاذهب إلى المعمل. ولكن مندوب المعمل اعترض على وجودي بحجة أنني مأذون ووضعوا بدلا عني أبو حسين النجار لأنه متعاون معهم. ولما خلصت (إنتهت) إجازتي، ذهبت إلى المعمل فمنعوني من الدخول، وقالوا: إذهب واقبض مكافأتك من الإدارة العامة. وكان المبلغ 200 ل.س، وسُرِّحت من العمل.
وبعدها سافرت إلى بغداد وعملت فيها مدة من الزمن.
وعندما عُدْتُ ذهبت إلى المحافظة (بلدية دمشق) وتابعت في نقابة عمال الدولة والبلديات (وكان محمد سعيد حمد أي أبو أسعد) رئيسا لمكتب النقابة عمال الدول والبلديات. وأثناء عملي أخذت فكرة واضحة عن عمل النقابات.
سألته {والضمير يعود على الدارسة} عن الوعي الطبقي لدى العمال، فأجاب: في ذلك الوقت لا يوجد وعي طبقي ولا غير طبقي. الوعي الموجود كان أنا بدي صير وأخي يلعن أمه وأبوه!
{في رأيه أن الأنانية كانت هي السائدة. ويبدو أن هذا الحكم نابع من معاناته في طفولته ومن مواقف عمه وأقربائه في عدم مد يد المساعدة له رغم قدرتهم المالية}.
وأضاف: ولكن كان يوجد حياة اجتماعية أكثر من الآن.
لم يعط رب العمل هدايا أو إعانات للعامل، بل كان لو يطلع بإيدو (بيده) يرمي رقبته فلن يقصر. بل كان يتدلل على العمال لأن اليد العاملة كثيرة والعمل قليل. و أقص عليك حكاية وقال:
في يوم من الأيام قال لي الخبير البلجيكي: يا سيد تحسين، بدنا نقدم لك هدية من عملنا فشال على راس العصا عقصة من الزجاج وصنع لي كلبا منها فأعجبني كثيرا. فقلت له: إنني أرغب بواحد ثاني فصنعه لي، فأخذتهما وذهبت إلى الإدارة، وقلت لهم: إن الخبير صنع لي هذين التمثالين وأود أن أحتفظ بهما ببيتي فكم ثمنهما، فأجابوني: 9 ليرات. فقلت لهم: ماذا كلفتكم؟ فقالوا ثمن الزجاج وثمن الخبرة والخبير صنعهما بنفسه. مع العلم أن الخبير أراد أن يقدم عمله هدية. فخضعت للأمر ودفعت ثمنهم 9 ليرات سورية في ذلك الوقت.
***
وبعد أن نقلت الدارسة كلام المتحدث بعاميته، أضافت:
الآن يعمل هذا العامل النقابي المُعذّب في حياته والبالغ من العمر 84 سنة في كشك في الكراجات، ويتعرض كل يوم إلى إهانات ويرى الكثير والكثير من الأخطار والسرقات والمشاكل، ما يكفي لقتل شاب في ريعان شبابه. وقد قصّ عليَّ عددا كبيرا من هذه المشاكل، و لكن مع التحفظ، خيفة من التعرض إلى إساءات أكبر. وهو ما زال مسؤولا عن أسرة وهو المعيل الوحيد ولا يزال لديه الولد الأكبر في الصف التاسع الإعدادي والأصغر في الصف الرابع الابتدائي. ومع هذا لا يزال يتمتع بالشخصية القوية المليئة بالعز والعنفوان والكرامة.
مع العلم أن مثل هذا الشخص الكريم الذي عاش حياته كلها في الخدمة والشقاء والعذاب، لا يزال متمسكا بعروبته ومن حقه أن يحصل على ما يعيله في هذا السن المتقدم وإعالة أسرته القاصرة. لكنه للأسف لم يحصل، بعد على هذه الخدمة التي لا تقل عن 43 سنة ولا يزال يعمل، إلا على معاش تقاعدي لا يبلغ سوى 528,85 ل.س من الشؤون الاجتماعية والعمل، وبرأيي أنه صادق كل الصدق فيما قاله أو تذكره عما آساه في حياته.
ولكم الرأي وشكراً
* * ***
بعد هذا اللقاء الشيّق المنشور اعلاه، الذي أجرته الدارسة نوال عفيف ضاهر مع العامل تحسين نظام، الذي جاوز الثمانين من العمر، في بيتها بتاريخ 10 – 2 – 1989، وجدّتُ بعد أوراقها ورقتين مكتوبتين بخط يدي، لهما علاقة بما كتبته الدارسة نوال. ومع الأسف وأنا الآن في المانيا وأعدُّ للنشر ما جمعه طلابي في المعهد النقابي المركزي، لا أذكر كيف ومتى كتبت هاتين الصفحتين. وبالتأكيد لم التق مع العامل تحسين نظام، ولا أذكر أنني جلست مع الدارسة نوال مستفهما عمّا كتبته في لقائها مع تحسين. والصفحتان التاليتان المكتوبتان بخط يدي،هما جزء من لقاء نوال مع العامل تحسين، ومتمم لما نقلته عن العامل تحسين. وسأنقل فيما يلي ما كتبْتُه في هاتين الصفحتين، ويبدو انهما تلخيصُ، لما كنت اعتزم القيام به في الكتابة عن الحركتين العمالية والنقابية، في ظروف قاسية كانت سهام عديدة موجهة لنشاطي الفكري، ومن هذه السهام: المخابرات السلطانية، التي تحصي على الناس كلَّ شاردة وواردة، وكاتب هذه الأسطر في عين عاصفتها..
القيادة النقابية خادمة السلطة والمستفيدة منها، لم يكن يهمها أمر العمال ولا من يكتب عنهم.. مدير المعهد النقابي شبه الأمي وحامل دكتوراه من يوغسلافيا جرى تعينه بسبب قرابته من أحد أعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد النقابات، وهو "لا يعرف شيئا عن الدنيا". وفي التعبير العامي: "مثل المضوّع جحشت خاله"...
سأنقل الصفحتين كما وردتا بخط يدي معلقا في الحواشي على الغامض من هذه الجُمَل غير المترابطة ولكنها من صميم اللقاء، الذي أجرته الدارسة نوال. وفيما يلي ما جاء في الصفحتين:
(قلتُ) {والضمير يعود لتحسين نظام اللمتحدث مع الارسة في المعهد النقابي}
لصبحي الخطيب: أنت مرتشي من الشرطة.. فأجاب: لا يا نظام لا.
اشتغلت بالدباغات بسبب العوز. بدأت أيام الخريف. أساس الدباغة: الكلس، خرى الكلاب، قشر الرمان. (يلعن الدباغة المحتاجة لخرى الكلاب) كانوا يأتون به من البساتين وكانت الكلاب كثيرة ويعبّونه بكياس ومن يجمعه يأخذ ثمنه. يُنقع الجلد في الماء ثم يدهن بالكلس. مدة النقع في الصيف 24 ساعة وفي الشتاء من 3-4 أيام حتى يسهل قلع الشعر أو الصوف بوسائل الشلح للغنم والماعز أو القشر للبقر والجمل.. بعد شلح أو قشر الشعر أو الصوف، يوضع الجلد أو الجلود في التيغار وفيه ماء وخرى الكلاب. ثم ينزل الصانع في التيغار لنقع الجلود، يرفع كل جلد ويحركه في الماء الممزوج بخرى الكلاب حتى يتشبع الجلد وبعدها يلفه الصانع ويخرج به من التيغار، ويبدا بأقدامه الحافية يعصر الجلد الملفوف، ثمّ يُقحط الجلد لإزالة خرى الكلاب. هذا العمل موت أحمر. بعدها نَزُتْ الجلد في المنقع في الماء نعمل منه بقجة، ثم نأتي بعفص (أصفر على خضار للنعل) أو قشر رمان (لون بني فاتح للوجه) حسب ما هو مخطط للجلد، جلب الجلود من اللحام حسب العرض و الطلب في كل صنعة معلم ونصف معلم وعامل
تصريف الإنتاج حسب العرض والطلب ويقوم به الصريماتي.) (كان فيه تجار للتخزين وتجار تأخذ شي قليل وتبيع.
دخل تحسين نظام للعمل في الدباغات آخر أيام الأتراك أواخرعام 1918. كُنّا نشوف الأتراك يهربون بالبوط أو البنطلون.)
كان الأجير يأخذ أبو الخمسين) (يعني أقل من ربع مجيدي، أحسن صانع ياخد ثلاثة أبو الخمسين، أي أبو المية وأبو الخمسين. وأحيانا يعمل ببلاش) (ليتعلم صنعة. ناس اشتغلوا سنتين حتى أخدوا أبو الخمسين.)
لم تكن توجد انتخابات لشيخ الكار. كان الزكرتي أكثر شي يتسلط على المشيخة. الزكرتي يُعَلِّمْ على الآخرين بسكينتين ثلاثة من أجل أن يتحاشوه فُيوضَع شيخ الكار ويُشترط أن يكون شيخ الكار غني، بدون غنى يبقى ثرثري ويأخد "خاوة" أي البلص. الزكرتي المعدّل بقوته، معه مصاري ويسيطر على الكار.
الزكرتي أشكال: شيخ الكار يتسلط على الصُنّاع، وبخاصة المهرة، ويتسلط على بيوتهم ويتدخل بشؤون النساء بين الصانع وزوجته.
أنا ما تزوجت حتى صار عمري 48 سنة من أجل (بسبب) هذه الشوفات.
بعد أن ترك مهنة الدباغة عمل في معمل الزجاج إلى الجنوب من دمشق. ثمّ ذهب إلى بغداد وعمل في مهنة الدباغة.
اشتغل في بيروت عند سليمان رشيد على النهر.
جميل مردم لعب في عقل ثلاثة من زلمه وأخذوا فتوى من شيخ لقتل عبد الرحمن الشهبندر. الشيخ بيفتي ولو على مرتو إذا فيه مصاري.)
اشتغل في معمل الزجاج سنة 1948. جرى الإضراب في معمل الزجاج على ايام سامي الحناوي في أوائل الخمسينات.)
صبحي الخطيب مثل شيخ الكار وين بيصحّلوا سهرة نظيفة بيسهرها، وين صحّلوا قبضة قبضها)
بعد تسريحه من المعمل غادر إلى بغداد
نقابة لعمال الزجاج في معامل النفخ في الشاغور خافوا مننا ورفضوا
الزكرتي له نظرة إنسانية وله صنعة. الزعران ليس لهم نظرة إنسانية ولا أخلاق، ومثلهم المنافيخ. وكان الزعران المنافيخ يتشاجرون فيما بينهم، ولا ذمّة لهم. والزعران والمنافيخ كانت شغلتهم تدخين الحشيش والسكر والنسوان. كانوا يزرعون الحشيش و القنب في بستان القوتلي في الشاغور. الزعران في حيي مئذنة الشحم والشاغور المجاورتين لحارة اليهود كانوا يأخذون خاوة من اليهود. وكان المنافيخ يعلّمون على الأغنياء من اليهود ليخيفوهم ويجبرونهم على دفع الخوّة.)
وصل إلى: كابول وعمل في الدباغة. من إيران لكابول ثلاثة أشهر ونصف. نام في الخان. الدباغات فيها مكان لصنع الأكل يأتي واحد يعمل قهوة وشاي وأكل.
***
{المعذرة الإطالة وعلى تداخل الكلام ولكنه يعبّر عن الواقع في تلك الأيام. وحديث العامل نظام بحاجة إلى حواشي لتوضيح أفكاره ولغته العامية- المشرف} 
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب