كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم

د. عبد الله حنا- فينكس

  ( 1 )
الطبقة الإقطاعية ترسّخ بنيانها
بدأت الطبقة الإقطاعية في بلاد الشام, وكذلك بلاد الرافدين بالتكوّن في منتصف القرن التاسع عشر مع صدور قانون الأراضي العثماني عام 1858 ورديفه قانون الطابو, واستمرت هذه الطبقة في الصعود ونهب الأراضي وتسجيلها بأسمائها, وحرمان الفلاحين العاملين عليها من خيراتها, حتى صدور قوانين الإصلاح الزراعي في اواخر خمسينات وستينيات القرن العشرين. تلك القوانين، التي جردت كبار الملاك من جزء من ملكيتهم الإقطاعية المنهوبة من ملكيات الفلاحين أو الدولة خلال قرن من الزمن.
مهّد قانون الأراضي العثماني لعام 1858 الطريق لقيام الملكيات الإقطاعية وظهور طبقة ملاك الأرض الإقطاعيين.
فتسجيل (تطويب) الأراضي الزراعية بعد 1858, وصدور قانون الطابو عام1275 هجرية, لم يتم في صالح الفلاحين المعدمين والفقراء والمتوسطين، بل تمّ في صالح أغنياء الريف في حدود ضيقة، وفي صالح أثرياء المدينة وزعمائها وكبار الموظفين والضباط، ممن سماهم محمد كرد علي "أرباب الوجاهة". وهذا التملك الجديد للأراضي وما تدره من أرباح وثروة أحدث خللاً في التوازنات الاجتماعية والسياسية والأسرية، وخلق قوى جديدة صعدت السلم الاجتماعي من الفئات الوسطى، مع ترسخ أقدام الأسر القديمة ذات النفوذ الديني، أو التي كانت من أصحاب المالكانات.
ويمكن تصنيف الأسر الثرية ذات النفوذ حسب جذورها التاريخية ونشاطاتها المهنية، والأعمال التي تمارسها سابقاً، ولاحقاً، وتحولها إلى طبقة إقطاعية في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، إلى الأصناف التالية:
- الأسر المرتبطة بالمؤسسة الدينية المتولية للأوقاف المحتكرة للنظاميين القضائي والتربوي. فقد قام أفراد هذه الأسر بتحويل الأرض ذات الملكية العامة إلى ملكية خاصة بهم وتحوّلهم إلى فئة إقطاعية. والسمة المميزة لهذه العائلات هو انغلاقها على نفسها وعلى مؤسساتها الدينية وارتباطها الوثيق بالسلطة المركزية الإقطاعية العثمانية، والازورار - مع بعض الاستثناء- عن حركة النهضة والتيارات الداعية إلى الإصلاح والحكم الذاتي اللامركزي.
- الأسر ذات الجذور الانكشارية المحلية الممتهنة للأعمال شبه العسكرية (الأغوات). وقد ركزت هذه العائلات اهتمامها على العمل في تجارة الحبوب والمواشي وتعاملت مع المرابين وعملت في الربى. ومعظم أفراد هذه الأسر ربط مصالحه بمصالح العاصمة استنبول وكانوا بعيدين عن النهضة العربية وعلى خلاف مع الحركة الوطنية (الإصلاحية). وهؤلاء امتلكوا أيضا الأرض وحرموا الفلاحين منها.
- الأسر التجارية العريقة أو الحديثة العهد بالتجارة، وأهم ما يميز أفراد هذه العائلات ارتباطها بالتجارة الداخلية والإنتاج المحلي فأمسوا بسبب ارتباطهم بالاقتصاد المحلي (الوطني) أكثر التصاقاً بالسوق الداخلية وتحسساً بمتطلبات هذه السوق ومصالح الإنتاج المحلي. ولذلك فإنهم كانوا على اتصال بالعامة وطوائف الحرف . وقد تزعم شباب هذه العائلات ذوو العقول الديناميكية المتنورة نسبياً حركات الإصلاح في المدن الشامية والعراقية ونادوا بالحكم اللامركزي. وهم الذين شكلوا مع الزمن، بذور البرجوازية الوطنية الناشئة. ولكن هذه البرجوازية التجارية الناشئة لم تكن برجوازية خالصة، بل كانت برجوازية تجارية، مالكة للأراضي الزراعية. ولهذا فان طبيعتها كانت مزدوجة: فهي، من جهة، تحمل بذور الثورة والتحرر من القديم الإقطاعي , ومن جهة أخرى تتعاطف، بسبب ملكيتها للأرض، مع العلاقات الإقطاعية السائدة. وهذا الطابع المزدوج انعكس على سياستها المترددة وخطها المتعرج. وقد عبّرت جريدة المقتبس الدمشقية عن طموحات شباب هذه الأسر.
– كبار الموظفين من مدنيين وعسكريين , الذين استخدموا مناصبهم للاستيلاء على الأرض وتحويلها من ملكية فلاحية أو عامة إلى ملكية خاصة إقطاعية. ويلفت النظر أن معظم العاملين في جمع الضرائب (العشر) وسوق العسكر (نظام القرعة والتلاعب به) إلى ساحات القتال تحوّل إلى فئة إقطاعية. ولا يخفى أن معظم هؤلاء تحدّر من الأسر السابقة الثلاث.
إن صعود الأسر في مدن الشام إلى قمة السلطة المحلية (في الولاية) والعثمانية (في استنبول) كشف بجلاء تفاعل عملية ديالكتيكية تلقي الأضواء على ترابط الاقتصاد بالسياسة.. فالجاه والثروة والمنصب (الديني أو السياسي أو العسكري أو الوظيفي) والمقام الاجتماعي، هذه الأمور مجتمعة أو منفردة جلبت "الخير" والأرض المسجلة في دوائر الطابو. وتلك الأرض الواسعة الشاسعة تغّل الواردات والثروات الجديدة على الأسر الصاعدة، التي استخدمتها، أي الثروة، لرفاهها أو لزيادة ثروتها والمحافظة على مناصبها ورشوة السلطات العثمانية وشراء المناصب والعقارات ونهب أراضٍ جديدة وتجميع ثروات جديدة وهكذا دواليك.
تلك كانت فئة الخاصة، التي تكونت في عواصم الولايات العربية ومدنها في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، وشكلت ما عرف بـ"أرباب الوجاهة والنفوذ". وقد أيد يمين طبقة الخاصة (الأسر المرتبطة بالمؤسسة الدينية والأسر شبه العسكرية) الدولة العثمانية الإقطاعية ودعمها وكان جزءاً منها وقاوم الدعوة إلى التطور والانفتاح على الحضارة العالمية البرجوازية، وعرقل عملية الانطلاق والإبداع. أما يسار طبقة الخاصة (العائلات التجارية) فهو الذي بثّ الحياة في حركة النهضة العربية وحركة التنوير الديني وقاد حركة الإصلاح واللامركزية وتطلع بأبصاره إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية ودعا بحذر إلى التغيير. وكان مع الإبداع والمشجعين عليه. ولكن الحركة الإبداعية انبثقت من صفوف العامة وتحديداً من صفوف من فتحت أمامه أبواب مدارس الإرساليات أو البعثات إلى أوروبا. ومن صفوف هؤلاء برز معظم رواد النهضة ودعاة التطور والتغيير والنُخب المتوهجة من المصلحين الذين عاشوا في واحات محاطة ببوادي وصحارى الجهل والتخلف.
******
التزام ضريبة العشر يثبّت أقدام اقدام الإقطاعيين
كانت الدولة العثمانية تطرح ضريبة الأعشار في المزاد العلني، لكي تقبض ريعهـا من الملتزم سلفاً، وتطلق له العنان في تحصيلها من المكلفين. وكان ملتزمو الأعشار (المعشّرون) من أرباب النفوذ الإقطاعيين المتعاونين مع الحكم على حساب الفلاح يتبعون طرقا خاصة في التخمين وفي ابتزاز المال منه بدلا من أخذ الضريبة عينا على المنتجات السريعة العطب، كالعنب والبطيخ.. الخ. أما المواد التي كانوا يأخذون عشرها عينا فهي الحبوب على الإطلاق، والزبيب واللوز والجوز.. الخ.
كان في كل قرية بضعة أشخاص يسمون بالعوانية، اتخذوا تحصيل العشر مهنة لهم، فكان الملتزمون يستعينون بهم في التحصيل مقابل نصيب من الأرباح. وكثيراً ما خشي الفلاحون ظلم ملتزمي الأعشار فدفعوا لهم قرابة ضعف ما سيدفعونه إلى الحكومة. وإذا شعر الملتزمون أن ربحهم قليل طلبوا من السلطة المتواطئة معهم تعيين خبراء لتقدير المحصول بداعي أن الفلاحين أخفوا أو باعوا إنتاجهم، وفي هذه الحالة يخمن الخبراء المحصـول أكثر من الضعف. وهكذا لا يبقى للفلاح إلا ما يسد به الرمق أو أقل. وكثير من الملتزمين الجشعين استعانوا بالقضاء وزجوا الفلاحين في السجون وأجبروهم على بيع أراضيهم إلى الملتزمين وأنصارهم من ذوي النفوذ بأثمان بخسة حتى يخرجوا من السجن.
والمتتبع لتاريخ التزام ضريبة العشر يلاحظ بوضوح أن معظم الملتزمين تحولوا بعد عدد مـن السنين، هم ومن حولهم، إلى مالكين للأراضي الواسعة، أي أمسوا إقطاعيين كبارا أو صغارا حسب نفوذهم وعلاقتهم مع السلطة أو قوتهم العشائرية أو الطائفيـة.
ننقل برهانا على ذلك ما نشرته جريدة المقتبس الدمشقية بتاريخ 4 آب 1909 حول تصرف الإقطاعي وملتزم الأعشار وموقفه من ملتزم آخر أراد الزيادة في مبلغ الالتزام فماذا كانت النتيجة؟..
{جاء في المقتبس:
"في حماة قرية لخالد أفندي البرازي مبعوث حماة ( أي عضو مجلس المبعوثان المعادل للبرلمان – المؤلف) بدلها السابق ثمانية آلاف قرش (أي أن ضريبة العشر في هذه القرية المملوكة من آل البرازي مبلغ 8000 قرش وهو مبلغ زهيد كان يدفعه مالك الأرض والملتزم في آن واحد – المؤلف) ولما وضعت (القرية) في المزاد بلغ ما وصلت إليه خمسة وسبعين ألف قرش. ولما رأى ذلك أخوه باكير آغا لطم أحد الذين كانوا يزيدون على وجهه في دار الحكومة واعتمد هو وغيره من المتنفذين على أن لا يدعوا أولئك (لا يسمحوا لملتزمين جدد في المزاودة كي تبقى ضريبة العشر زهيدة ويذهب الفرق إلى جيوب الإقطاعيين – المؤلف) الذين يقدمون على الالتزام للربح" وتبقى الأرباح للمتنفذين".}
...ولم يكن الأمر مصادفة قيام ابن الطبقة الوسطى شكري العسلي بنشر دراسة في حلقتين من جريدة المقتبس عن ضريبة العشر. مميطا اللثام عن تعسف الملتزمين من كبار ملاك الأرض وجني الأموال من الفلاحين من جهة وحجب هذه الأموال عن خزينة الدولة لتصب في خزائنهم.
هذه هي الدورة التي تمّ فيها الانتقال من ملكية الأرض للفلاح إلى ملتزم الأعشار جرت وفق الخطوات التالية:
- فلاح يدفع ضريبة العشر.
- السلطة الإقطاعية وملتزمو الأعشار يتقاسمون حصيلة الضريبة بينهم.
- الضريبة، مع مجموع الضرائب الأخرى تنهك الفلاح وتفقره.
- ملتزم الأعشار، الذي جمع قبل مدة الأموال من الفلاحين وعصر جيوبهم، يقرض الفلاح المال بفوائد باهظة.
- الفلاح لا يستطيع إيفاء الدين.
- ملتزم الأعشار يشتري أرض الفلاح المُنهك بأسعار زهيدة.
- قوانين الدولة العثمانية الإقطاعية ودائرة الطابو جاهزة لخدمة صاحب النفوذ والسطوة والمال.. وبخط يد موظف الطابو تسجّل الأرض باسم الملتزم "وفقا للقانون".
- الفلاح يتحول بعد (الطابو) من فلاح مالك "حر" إلى فلاح محاصص (مرابع) لدى جابي الضرائب.
هذه هي الحلقة الأولى التي انتقلت بواسطتها ملكية الأرض من الفلاحين إلى كبار الملاك الإقطاعيين وصغارهم..
وبعدها يبدأ ايديولوجيو "الملكية الخاصة الإقطاعية" بإقناع الفلاحين والشعب بأن "الملكية مقدسة" لا يجوز المساس بها ومن يتجاسر على الشك بهذه "القدسية" فهو "كافر"، "ملحد"، "زنديق"، "مخرب"، "متمرد" على القوانين والدساتير والأعراف.. وأهم من ذلك أنه يخالف إرادة السلطان خليفة المسلمين . وعلى أية حال فالسجون مشرعة أبوابها لاستقبال المشككين والمتمردين، وعساكر الدولة العلية طوع بنان الإقطاعي لتدجّن الفلاحين المخالفين.
******
مأمورو جمع العسكر يتحولون إلى إقطاعيين
الحلقة الثانية المتممة للحلقة الأولى (التزام الأعشار) للاستيلاء على أراضي الفلاحين وتسجيلها بأسماء ملتزمي الأعشار وغيرهم من المتنفذين تمثلت في "الخدمة العسكرية" أو ما عرف بـ"القرعة". وهنا تتفرع الحلقة المؤدية إلى نزع ملكية الفلاح وتسجيل الملكية للمتنفذين إلى خطوتين:
الخطوة الأولى يتعهد المتنفذ بإعفاء شباب القرية من الذهاب إلى العسكرية لقاء تسجيل الأرض باسمه. ورأسمال المتنفذ هنا هو وجوده في أجهزة السلطة أو علاقته الحميمة أو المريبة مع رجالها.. فالسلطة تجلب الأرض والثروة للإقطاعي دون عناء أو تعب، فتقدم له أوراق "الطابو" على صحاف من ذهب عثماني مسكوك من دم الشعوب وعرقها.
والخطوة الثانية يساق رجال القرية إلى العسكرية وتقل الأيدي العاملة في القرية ولكن "الدولة العليّة" لم تكن تريد أن تعلم أن إنتاج القرية من المحاصيل قد تراجع بسبب هذا الإجراء، الذي سموه "جهاداً"... وهنا يأتي ملتزم الأعشار أو المتنفذ أو التاجر ويتعهد بدفع الضريبة لقاء حصوله على الأرض عن طريق الشراء من أقرباء الفلاحين المرسلين إلى ساحات القتال.
ومن خلال هذا العرض لعملية استيلاء الأعيان على الأراضي الزراعية وحرمان الفلاحين منها يمكن فهم الفصل التالي وما كتبته المقتبس حول الأعيان والفلاحين، وتعاطف مثقفي الطبقة الوسطى المتنورين مع الفلاحين.
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب