كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

صنَاعيِّة ومعلمو حرفة وعمال من إدلب- ح3

المشرف على الدراسة د. عبد الله حنا- فينكس:

 صنَاعيِّة ومعلمو حرفة وعمال من إدلب (مجموعة دراسات من إعداد الطالب النشيط عماد الدين نعمة)
الدراسة الأولى والثانية لنعمة جرى نشرهما وفيما يلي
الدراسة الثالثة لعماد الدين نعمة
المتحدث: محمد بن مصطفى نعنوع، من مواليد إدلب عام 1920. وجرى اللقاء في مكان "نجارة" المتحدث في إدلب بتاريخ 6/2/1988.
تمهيد بقلم الدارس عماد:
عندما تمر قرب دكانه تجده منكباً على عمله بجد ونشاط رغم تقدمه بالسن. وعندما تريد خراطة فنية ممتازة فسيدلك جميع أهل البلدة عليه لأنه مشهور بإتقانه لعمله وإخلاصه فيه.
جلست لأتحدث إليه فشعرت بالفخر والاعتزاز لأني أجلس لواحد من صنعوا التاريخ بجدهم ونشاطهم وعملهم الدؤوب، فهو يعمل بهدوء وصمت وإتقان ورغم عدم حاجته المادية للعمل. فولده الأكبر مقتدر مادياً قادر على إعالته، إلا أنه يأبى أن يكون عالة حتى على ولده طالما يستطيع العمل بيده. كان يتحدث إليّ بكل تواضع وهدوء، ويتطلع إليّ بوجه كله سماحة ونور. تخفي وجنتاه الحمر ولحيته البيضاء شقاء سنين طوال مرت عليه، فطوت من عمره ما طوت، وما زال على تسامحه وصفاء نفسه وعزمه وكبريائه وقد بدأ يستعيد ذكرياته منذ أيام جده.
ما نقله الدارس عن المتحدث وجده ووالده:
الجد: محمد ديب نعنوع تولده غير معروف، حسب التقدير بين 1865–1870 في إدلب. كان عمله نجارة عربية، نجارة عود، {لعله يقصد نجارة الصمد، أو المحراث} خراطة خشب يدوية، بالإضافة إلى عمل آخر حيث كان يقوم بنقل البريد على الدواب (البغال أو غيرها) أيام الحكم التركي ما بين اللاذقية وحلب. وقد كان عمله بالبوسطة يدر عليه أرباحاً جيدة، حيث واكب أول أيام ظهور واختراع السيارات، فاشترى سيارة فورد (أبو دعسة)، ثم سيارة دوج، وذلك لتسيير أمور عمله في نقل البوسطة، حيث أصبح يقوم بتعهد نقل البوسطة. وقد استمر في عمله بنقل البوسطة أكثر من 29 سنة، ولكن الأتراك لم يتركوه ليكمل الثلاثين، لأنه لو أكملها فيتوجب عليهم دفع تعويض له. ومن جهة أخرى فقد اضطر لترك هذا العمل اضطراراً عندما خسر في تعهدات نقل البوسطة خسارة فادحة أجبرته على بيع ممتلكاته لتوفية التعهد، مما اضطره لترك نقل البوسطة والعودة إلى المهنة الأصلية أي نجارة وخراطة أخشاب.
كان يقوم بعمل وتصنيع: مداري، قباقيب، عدة الفلاحة: صمد خشب ونير وكذلك مسّاس، خراطة قلب أركيلة (كان يعمل ستين قلب أركيلة باليوم)، ودولاب لغزل الصوف وغزل القطن، ودولاب لحلج القطن مع شوبك القطن، خراطة أرجل كراسي قش يصنعها من خشب الحور أو السنديان أو الزيتون (وكلها أشجار مزروعة محلياً) وكان يبيع منتجاته في حلب. كما كان يقوم بصنع أسنان طاحونة النار (طاحونة مع محرك).
مكان إقامته في إدلب، وقد كان مستثنى من خدمة العلم بسبب عمله لدى الأتراك بنقل البوسطة. أبناؤه شعّارين بالإضافة إلى والد المتحدث (الذي سنأتي على ذكره).
الوالد: مصطفى نعنوع. تولد إدلب عام 1895. يعمل بنفس مهنة والده، أي نجارة عربية ونجارة عود وخراطة خشب بالإضافة إلى نقل البريد. وقد كان لا يتم إعطاء شهادة سواقة سيارة بدون دورة 9 أشهر في صيانة السيارات، فاضطر لقضاء فترة 9 أشهر في تعلم صيانة السيارات وقيادتها. كان يعمل ويصنع دولاب سيارة خشب حيث أول ظهور السيارات كانت ذات دواليب خشبية تنكسر بشكل دائم، وكان لديه سيارة فورد. وقد قام بمهمة وعمل نقل البوسطة على زمان الأتراك ثم الفرنسيين، واستمر يقوم بهذه المهنة طيلة خمسة سنوات من بداية انتداب فرنسا، حيث أخذت هذه المهنة بالقوة شركة فرنسية فعاد الوالد (مصطفى) للنجارة.
وقد أخذوه إلى سفر برلك واقتادوه إلى إزمير. ثم تواسط له مدير البريد فأعاده إلى سوريا (جسر الشغور) بعد أن تعرض لشتى أنواع الجوع والعذاب.
عندما تزوج كان نقد عروسه 1400 قرش فضة. وقد تضمن جهازه صندوقاً خشبياً مطعماً بالموزايك، سجادة، وقبقاب ارتفاعه شبر، ( ) فرش صوف، صواني نحاس، صحون ومعالق نحاس، بلور صناعة وطنية صلب ويتحمل الصدمات ومنقوش، وقطارميز من الزجاج تُغَلّف بالقش حتي لا تكسر، وإبريق شاي جينكو.
أبناؤه: واحد نجار، واحد معلم (مدرس)، واحد عامل نسيج تريكو، بالإضافة للمتحدث.
المتحدث: محمد بن مصطفى نعنوع، مواليد إدلب عام 1920، من سكان إدلب-بستان غنوم. ولدت في مدينة إدلب، ولما كبرت وضعني والدي في الخوجة للتعلم، والخوجة كانت بنت النينو وتعلمت القراءة والكتابة والحساب بشكل جيد وقليلاً من اللغة الفرنسية. ثم وضعني والدي في المدرسة الحكومية، وعند دخولي للمدرسة خضعت لامتحان صعب في الحساب والقراءة والكتابة، وعندما نجحت بالامتحان وبجدارة وضعوني في الصف الأول (بعد الشعبة) ، وتابعت دراستي حتى نجحت من الصف الثالث إلى الرابع، عندها أُجْبِرت على ترك المدرسة عندما انكسر والدي وجدي في تعهد نقل البريد، ( ) وجلست عند والدي في الدكان أتعلم المهنة. وعندما ظهرت صناعة الشبابيك والأبواب، واشتهر بها جمعة ملذيي، تركت دكان والدي وعملت لدى جمعة لِتَعلّم النجارة الحديثة (المقصود الشبابيك والأبواب). وقد بقيت عنده تسعة أشهر أتعلم الصنعة الجديدة بدون أي مقابل، حتى أنه لم يعطني الحلوان (المكافأة) الذي يعطيه إياه الزبائن للصانع.
وعندما تعلمت صناعة الأبواب والشبابيك عدت للعمل في دكان والدي، وصرت بارعاً في صناعة جميع أنواع الأخشاب بالإضافة إلى الخراطة بما فيها نجارة العود. في بداية عملي مع والدي لم أتقاض أي أجر، حيث كان يعلمني ويَسْتُرْني ويصرف عليَّ، حيث كنت أعيش عنده في البيت مع زوجتي وصار عندي أولاد. وعندما صرت أب لولدين طلب مني والدي بنفسه أن أصبح له شريكاً وبالنصف. أما عن المواد الأولية التي كنا نستعملها من أخشاب السنديان والشوح لنجارة العود وللنجارة العربية كنّا نستعمل القطران لتلزيق الخشب نستورده من تركيا، وكانت تباع ثلاث أو أربع دفات بليرة ونصف والدفة كان اسمها (ظنب). أما السنديان فكان يُقطع من سوريا وينزل إلى سوق الجسر (جسر الشغور) حيث كنا نشتريه من هؤلاء البائعين. وكانت قيمة العود من خمسة قروش إلى عشرة قروش فضة.
وفي تلك الآونة انتقلت إلى الجسر للعمل، وفتحت هناك دكان (جسر الشغور). أما الشوح فهو مستورد والدفة كانت بـ 25 قرش فضة (طول الدفة 4 أمتار، عرضها 25 سم، سماكتها 2,5 سم) وباقي المواد الأولية التي كنت أستعملها هي المسامير والغري والفصالات وكلها مستوردة. كان كيلو المسامير قيمته 2 إلى 3 قرش فضة أما الغري كان الكيلو 3 إلى 4 قروش فضة، والفصالات حسب النوع، ويتراوح سعرها بين 6-7 قروش للزوج.
كنّا نصنع العدة للمزارع (عدة الفلاحة، عدة الحصاد، عدة الدراسة) وجميع لوازم المزارع، وبعد صنعها أتردد للقرى لصيانتها بين الفينة والأخرى. وكنّا نتعهد حين صناعة العدة على عدد مرات الزيارة للأرض (للصيانة) فنتفق على ثلاث إلى خمس مرات بالسنة. وكنت أذهب أكثر من ذلك بكثير حرصاً على سمعتي والزبائن، ومقابل ذلك أي تسديد ثمن العدة كنت أتفق مع المزارع على أخذ حوالي 15 رطل قمح عند الموسم قيمة ما صنعت له من أخشاب. وأما بالنسبة للصُنّاع فكانت أجرة الصانع نصف مجيدة باليوم إذا كان ماهراً. وهناك صناع مبتدؤون جَمْعيّتهم نصف مجيدة بالأسبوع، أي تحدد أجرة الصانع حسب الانتاج (عدد القطع المنتجة) والجودة والخبرة.
أما عن الخلافات بين الصُنّاع وأرباب العمل فلم يكن هنالك من مشاكل، وعندما يحدث خلاف يترك الصانع المعلم ويذهب ليشتغل عند معلم آخر. والصُنّاع كانوا قليلين بهذه المصلحة المتوارثة أي أغلب الصُنّاع تعمل عند والدها والابن كان يحترم أباه ويطيعه.
ومن جهة أخرى، وبعد ضم السنجق (لواء اسكندرون) إلى تركيا، هاجر عدة معلمين من أهلنا في السنجق واستوطنوا في الجسر، وأصبحوا يقومون بتعليم أقربائهم ثم يفتحوا لهم ورشات على حسابهم.
أما بالنسبة لعلاقات أرباب العمل مع بعضهم، فقد كان هناك تنافس شريف من معلم يحدد أسعار المصنوعات أو الأجرة، حسب مهارته واسمه في السوق، ويرجع انتقاء المعلم إلى الزبون، فإن كان الزبون مقتدراً لجأ إلى المعلم الماهر ذي الأسعار المرتفعة. وإذا كان الزبون درويش [فقير] لجأ إلى المعلم العادي.
وبالنسبة للواردات من المزارعين كانت حوالي عشرين قنطار حنطة سنوياً، وكنّا نصرفها كلها أي كنّا لا نوفر منها شيئاً ولا نفكر بالأيام القادمة، أما باقي الواردات فكانت متفرقة ولا يمكن إحصاءها حيث كنّا نصرفها أول بأول. وعن الأسعار السائدة آنذاك، باع الوالد آنذاك أربع قناطير حنطة بقيمة عشرين ليرة سورية، أي الرطل بأربع قروش، المدارية كانت تكلف 10–15 قرش فضة ويبيعها بـ 25–30 قرش، النصاب تكلفته لا تذكر نبيعه بقرشين فضة، دولاب الشعر (المغزل) يكلف ليرتين نبيعه بحوالي سبع ليرات.
بالنسبة للعمل النقابي آنذاك لم يكن موجوداً، وجرت محاولات عدة باءت بالفشل. فقد اجتمع المعلمين في نفس المصلحة عدة اجتماعات وطلبوا مني عدة مرات أن أقوم بشيخ الصنعة فرفضت القيام بذلك. أما عن أسباب الرفض فهي أني كنت صغير السن وليس من اللائق أن أوجه أوامر لمن يكبرونني سناً من جهة وهم اختاروني ليس لسني بل لمهارتي، ومن جهة أخرى فأنا أحب العمل وحياة الدروشة البسيطة. ثم عرض منصب شيخ الصنعة أيضاً على معلم غيري فرفض، مما أدى إلى الإقلاع عن الفكرة بعد عرضها على أغلب المعلمين المهرة ورفضهم. وأسباب الرفض بشكل عام القناعة والدروشة وحب العمل.
عدت للعيش في إدلب مع عائلتي، ففتحت دكان ومكثت عدة أيام بدون شغل، حيث لم يكن يأتيني زبائن وشعرت بالملل، فانصرفت للعمل في حقلي حيث لدي عدة شجرات زيتون. وعندما ضاقت بي الحال لعدم وجود زبونات (زبائن) حيث لم أكن معروفاً فالعالم نسيتني خلال فترة عملي في جسر الشغور.
في تلك الأيام كان في إدلب شركة ألمانية غربية جاءت للعمل في مشروع تجفيف الغاب، وقد تم حفر خط ري في إدلب، فصرت أعمل معهم فترة وأعود لدكاني فترة. أما عن عملي معهم فكنت أقوم بكل أعمال النجارة المطلوبة لديهم، واستمريت بهذه الحالة فترة أذربع سنوات بشكل متقطع، وقد انتهت هذه الشركة من ثلاثين سنة تقريباً. بعدها انصرفت للعمل في الدكان، وكان الطلب على المصلحة قليل فعدت إلى زبائني في القرى (المزارعين الذين كنت أصنع لهم العدة). أما عدد القرى التي كنت أذهب إليها وأصنع لها العدد وأصونها لها فهي: بشلامون، كنيسة نخلة، فريكة، عين السوداء، كسرعدى، وطبة، عبادة بيلس، بزيت، المشيرفة.
بعد ذلك استقريت في الدكان، وتابعت عملي وصار لي زبائن، وصرت أتخصص شيئاً فشيئاً بالخراطة، خاصة القطع الخاصة بالموبيليا وأرجل الكراسي والطاولات. ثم ظهرت آلات الخراطة الكهربائية وصرت أعمل على الآلة بنفسي، ولا زلت حتى الآن أقوم بالعمل ولوحدي بدون صنّاع.
أما عن المشاركة في النقابات أو العمل النقابي أو السياسي فلم تكن موجودة أي نقابة ولم يفكر أحد بعد فشل محاولة تعيين شيخ الصنعة بأي تنظيم نقابي. وأنا كنت ألتفت إلى عملي ولا أتابع مثل هذه الأمور أو الأمور السياسية. وكنت وما زلت حتى الآن من الدكان إلى البيت، وليس لي اهتمامات بعمل نقابي أو سياسي.
أما عن المطالعة في الصحف والمجلات فلم تكن هنالك اهتمامات. أما عن مطالعة الكتب فأغلبها قصص شعبية أو كتب دينية بسيطة، والسبب في ذلك قضاء معظم أوقاتي في الدكان والعمل ولا يوجد وقت للمطالعة والقراءة أو الخوض في المشاكل. أما بالنسبة للعلاقات في الحي فهي عادية وهادئة. أمّا عن مستوى المعيشة سابقاً وحالياً فهي مستورة والحمد لله تعالى.
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب