كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحاج ديبو: من صانع إلى معلم نسيج فتاجر جوخ في حمص

المشرف على الدراسة د. عبد الله حنا- فينكس:

مُجري اللقاء الدارس النشيط في المعهد النقابي بدمش سليمان مخول.( )
المتحدث: الحاج ديبو محمود العدوي. من مواليد حمص 1900.
كتب الدارس:
الحاج ديبو حالياً تاجر، بائع جوخ في سوق المناشف، الدكان الثاني على اليمين. كان يعمل في شبابه صانع نسيج، ثم معلم نسيج، ثم تاجراً، لأن النول أصبح ميكانيكي على حد تعبيره.
هو من عائلة ميسورة كانت دارهم كبيرة (سراي) كما قال، فيها عدة غرف. تزوج عام 1930، وسكن عند أهله، وجهّز العروس بخزانة بلور عدد 2، خزانة خشب بـ 3 درفات، مرآة في الوسط، وطقم كنبيات. وجهاز العروس وسياقها كله كلفه أكثر من 50 ليرة ذهب، أي بحدود الـ200 ل. س، لأن الليرة الذهب كانت يومها ما بين الـ 4 و 5 ل. س.
توفي جده وكان عمره 10 سنوات. وتوفي والده وهو عمره ثلاث سنوات. لم يرغب في التحدث عن علاقاته الاجتماعية أو الحياة الاجتماعية بشكل عام. عادات، تقاليد، فقر الخ...
سألته عن المهنة فقال: "عملت صانعاً لمهنة "المسدّي"، وكُنتُ آخذ على حسابي الشغل بالقطعة منذ عام 1920 وحتى عام 1932. وكل صندوق غزل كانت أجرته ليرة سورية واحدة. وكُنّا {ضمير "نا" يعود للمتحدث، وهو صانع وعنده أجير} نشتغل بالأسبوع حوالي 4 ليرات سورية، فقط ندفع منها للأجير ليرة سورية واحدة، ويبقى لنا ثلاثة. ولكن هذا المبلغ كان يشتري أكثر من نصف ليرة ذهب، أو 8 أرطال لحمة أو تنكتين سمنة. كنّا نستأجر الدكان بـ 3 ل. س في العام. المواد الأولية كانت تردنا من المعلم، كيف يجلبها! لا نعرف.
كانت الصناعة، أي حرفتنا، تمرّ بعدة مراحل: المسدّي، الملقّي، الطعّام، النوّال. فالملقّي: يساوي النير والمشط، الطعّام: يطعم الغزل، النوّال: يأخذ الغزل من عند الملقي فيخرجه ثياباً.
أغلب الأجراء كانوا أحياناً أولاد الصناع. والعمل كان من الفجر حتى العشاء، أي كنا نعمل (طالما نشوف) بالصيف بحدود الـ 15 ساعة، وبالشتاء بحدود العشر ساعات، حسب طول وقصر النهار. لا كهرباء ولا مي ممدودة للمنازل، ولا أمان، والحرامية كتار والمجرمون أكثر والدوريات كذلك. كنا عايشين من قلة الموت، معنا مصاري ولكن ما في شي، وكنّا نخبّيها من الحرامية.
عام 1932 تركت المهنة لعدم وجود الشغل، كان في أزمة قوية.( ) اشتغلت بالبيتون بسبع فرنكات،( ) من طلوع الفجر حتى المغيب، وكنا نتعب. وأنا كنت عريس جديد، مو عيب خلي العالم يقولوا قاعد عند مرتو ما بيشتغل؟ وبعدين أنا كنت شايل هم العيلي... صحيح مع الوالدة الله يرحمها كان شوية ذهبات، لكن هدول للأيام السودي.( )
المهم عملت من 1932 حتى عام 1936 في البيتون، وبعدها صار معي شوية مصاري. نزلت على السوق واستأجرت دكان من الأوقاف بـ 12 ل.س في العام. وأصبحت معلماً أشتغل شراشف وصايات، وكنت أوزع العمل على 20 صانع. كنت أشتري الغزل بنفسي من الشام أو من حلب. قسم منه أوزعه على الصُنّاع وأبيعه جاهز، وقسم أتاجر به وأبيعه غزل. كانت ربطة الغزل بليرة وربع وثوب الخام بليرة وربع. وكنا شباب نسافر على الشام ونبقى 3 أيام وفي حلب نبقى 5 أيام، يوم روحة ويوم رجعة ويومين من أجل العمل حسب السوق، وكان ماشي الحال. أما اليوم فهيهات! بيوم واحد نسافر إلى حلب ونجيب البضاعة ولا ننام إلا ببيوتنا، أو حتى لا نسافر، نتصل وهم يرسلون لنا البضاعة بالشحن".
ولدى السؤال عن علاقتهم بالصناع قال: "كانت العلاقات طيبة جداً، لكن أولاد الحرام كانوا يوزون بآذانهم حكي،( ) إما يبطلون الشغل، أو يعملون عند معلمين آخرين، أو يطلبون زيادة أجور. كنا نحتكم عند شيخ الكار، وكان دائماً الحق معنا. الحقيقة يا ابني كنا نجور عليهم شوي، لكن كانوا يزيدوها حبتين. نحنا نسافر ودمنا (ع كفنا) وهم قاعدين بالفي،( ) تجيهم المواد لعندهم، ويشتغلونها، ويحاولون التحكم بنا.( )
قبل الحرب العالمية الثانية لا أذكر إن كان هناك نقابات. أذكر أنه كان بعض الجمعيات أغلبها خيرية. صحيح نحنا والصناع كنا نساهم فيها، إلا أنها كانت لها غايات شريفة، كدفن الموتى، ومساعدة المرضى، وإعالة العائلات المستورة. هذه الجمعيات كانت تأخذ الصفة الدينية ليس أكثر من ذلك. أما بعد الحرب العالمية الثانية، أي بعد 1945، ظهرت بعض النقابات. وأذكر أنه كان لنا نحن نقابتنا ولصناعنا نقابة خاصة بهم. وكنا عايشين مع بعض مبسوطين. كانت نقابتنا تساعدنا على مقاومة البضائع الأجنبية، وتعمل دعاية لمصنوعاتنا عند الشعب. وكنا متكاتفين مع بعضنا ضد كل من يحاول ضرب مصالحنا. والصانع الذي يخالفنا ما كان يلاقي شغل أبداً. كنا نخبر النقابة أن فلاناً لا يصلح للعمل (عونطجي وكتير غلبة) ( ) وما كان حدا يشغّله عنده أبداً. كان يعود غصباً عنه،( ) ويجيب جاه معه حتى نقبله. وهذا دليل على تكاتف أرباب العمل وحصار الصُنّاع وإجبارهم على الرضوخ. والجاه تعني يأتي بأناس كواسطة لإعادته للعمل.
في بداية الأربعينات دخل النول الآلي، وتركت الشغل،( ) وأصبحت تاجر جوخ، وما زلت حتى الآن.
{هذا مثال واضح على التدرج من أجير إلى صانع فمعلم فتاجر. وهذا ما تناولناه بالتفصيل في كتابنا تحركات العامة الدمشقية}
نبيع نصف جملة ومفرق. والله ساترها وماشي الحال".
حكى عن الأحزاب التي كانت موجودة في أيامه. شرد بنظره مدة، ثم التفت إليّ، وقال:
"هل أنت مخابرات أم صحفي؟"،
ابتسمت وقلت له: "يا حجي، أنا لست مخابرات أبداً. والسؤال الذي لا يعجبك بإمكانك ما تجاوب عليه، وإذا تضايقت أسحب سؤالي". قال بالحرف الواحد: "لا ومالو؟ فأنا ليش خايف؟( ) هات لأحكيلك عن الأحزاب".( )
"كان بحمص في أول الثلاثينات حزب الشعب لبيت الأتاسي، وكانت الكتلة الوطنية لمين؟ ما بعرف!. بعرف بعد الحرب العالمية الثانية:
- كان حزب الشعب برئاسة عدنان الأتاسي ومعه فيضي الأتاسي وغيرهم.
- كان الحزب الوطني برئاسة الحاج سليمان المعصراني.
- كانت العصبة برئاسة حلمي الأتاسي.
- والكتلة الوطنية برئاسة هاشم الأتاسي.
- وكان حزب الإخوان المسلمين برئاسة مصطفى السباعي.
- والحزب القومي السوري لا أعرف من كان يرأسه لكنه كان للمسيحيين مثل سري الحلبي.
- وكان الحزب الشيوعي برئاسة نسيب الجندي.
- وكان البعث العربي برئاسة ممدوح كيشي.
ما كان أكثر من الأحزاب في ذلك الوقت. كنا مثل لبنان، كل عائلة تعمل حزب لحالها".
وعندما سألت أي الأحزاب كان محبوباً من قبل الشعب؟ قال: "كل حزب له أحبابه. الشيوعي والقومي كانوا للمسيحيين. حزب الشعب الوطني لأولاد العائلات بالحكومة. وكانوا يختلفون دائماً. كل ذلك مظاهر. أما هم متفقون. حزب الإخوان المسلمين كان للمتدينين. وكانوا بالبداية أصحاب مبادئ وإيمان، ما مثل حزب اليوم حزب كذب ونفاق وقتل (طبعا بقصد حزب الإخوان)".( )
{واضح أن المتحدث كان حذراً وينتابه الشك في كون من يتحدث إليه من المخابرات. ولهذا كال التهم للإخوان المسلمين بعكس ما يبطن في داخله، كي يتحاشى بطش المخابرات، إذا كان من يسمع له منهم. ولا بدّ من الإشارة هنا أن الحزب الشيوعي في حمص ضمّ أعدادا وفيرة من المسيحيين، ولكنه كسب جمهوراً واسعاً من الشباب من الأوساط المسلمة. ورئيس الحزب نسيب الجندي هو من عائلة مسلمة معروفة وكان طبيب أسنان. وخلفه في قيادة الحزب محمد ظهير عبد الصمد، وهو خريج مدرسة شرعية، التحق بالحزب الشيوعي مع عدد من زملائه في المدرسة الشرعية، كما ورد في مذكراته – المشرف}.
أما عن الجرائد والمجلات التي كانت تصدر قال: "جريدة التوفيق لتوفيق الشامي ثم باعها إلى فيضي الأتاسي وأصبح اسمها جريدة السوري الجديد، وإلى جانبها جريدة الفجر".
ملاحظات وتعقيب الدارس:
الحاج ديبو يبدو أنه من عائلة ميسورة الحال، وأقرب إلى الغنية في ذلك الوقت. عكس بحديثه واقع أصحاب الأعمال أكثر مما بحث وضع طبقة عاملة ونموها إبان الاستعمار الفرنسي. وطالما نحن بصدد معرفة تطور الحرفة والعلاقات الحرفية وما تعكسه على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي وجدت من خلال حديثه أنه حتى قيام الحرب العالمية الثانية كانت العلاقات الحرفية الإقطاعية (العثمانية) سائدة، حيث كانت الأعراف والتقاليد، وعلاقة المعلم بالصانع والأجير. والتجارة كلها كانت متوارثة عن الاستعمار العثماني بالرغم من دخول الرأسمال الأجنبي ووجود بعض الصناعات الآلية (الآلات الأجنبية).
من خلال هذا العرض جاء حديث الحاج ديبو غنياً والأمر الملفت في ذلك الوقت، الآتي:
- بيَّنَ انعدام الأمن والاستقرار في ذلك الوقت عندما تحدث عن عمليات النهب والسرقة والقتل (الحرامية كتار والمجرمون أكثر).
- بيَّنَ لنا وجود الضغط والإرهاب الذي كان يمارس على الشعب من خلال الدوريات التي كان يعاني منها الشعب الأمرين كما وصف لي.
- عكس لي الحياة الاجتماعية والتي ما زال متأثراً بها إلى حد كبير حتى اليوم، أهمها أنه لم يسمح بأي سؤال يتعلق بالنساء والعلاقة مع الجوار. وكذلك دلّ على سطوة الرجل وقوته عندما قال: "الرجّال لازم ما يقعد، لازم يطلع حجر من الصوان".
- أهم ما في الأمر تحدث عن وجود أزمة تأثرت بها حرفته بالرغم من أنها يدوية، الأمر الذي يجعله يترك المهنة ويلتحق بعمل آخر (أظن هي الأزمة العالمية التي دامت من عام 1929– 1933).
- كان اتفاق المعلمين في النقابات له طابعه الإيجابي في ضرب المصنوعات الأجنبية ومحاربتها والدعاية للمصنوعات الوطنية وتشجيعها، وكان له طابعاً سلبياً هو الاتفاق على ضرب العمال وإلزامهم بالعمل في أطول ساعات وبأقل أجر وجعلهم بأي وسيلة، وإن تكن بشعة، تابعين لهم. عندما قال: "كان دائماً شيخ الكار معنا، وكان العامل يجيب جاه، وبوّس إيدين المعلم حتى يعود إلى عمله"، أي أنه كان شبه اتفاق بين معلمي الحرف، يلتزمون فيما بينهم بضرب الحركة العمالية ومطالب العمال بشتى الأساليب من جهة، ومن جهة أخرى ضرب البضائع الأجنبية والرأسمال الأجنبي وكل ما يهدد مصالحهم. وبعبارة يمكن القول أنه كان لاتفاقهم وجه وطني ووجه رجعي.
- بيَّنَ عن وجود إرهاصات للحركة النقابية السورية والتي تأثرت بها حرفهم عندما ذكر علاقتهم مع الصناع "أولاد الحرام كانوا يوزون بآذانهم" طبعاً يقصد بذلك بعض من يتصلون بهم لتنظيم العمل النقابي.
- ربما كان له علاقة مع أحد الأحزاب التي كانت موجودة في ذلك الوقت، لأنه لم يكن يسترسل بالحديث عن نشاط تلك الأحزاب، الخ...
وجدت أخيراً أن المعلومات التي أعطاها صادقة، ويظهر من خلال حديثه كل تصرف غير حقيقي حيث كان يبالغ بطيب، مثل حسن معاملة المعلمين للصناع وهذا الكلام معروف أنه مبالغ فيه. 
******
كتب الأستاذ إداور حشوة التعليق التالي: الحاج ديبو العدوي وجه حمصي
مسموع الكلمة في اسواقها
وصديق دائم معنا في الروضة بحمص يكره المخابرات
ودعم قائمة الاحرار التي هزمت قائمة السلطة
وكان محبوبا لصراحته وجريئا مع القليل من الحذر
رحمه الله
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب