كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بعض أوجه نضال الحركة الفلاحية من أجل الأرض وضد الضرائب الباهظة

بعض أوجه نضال الحركة الفلاحية
من أجل الأرض وضد الضرائب الباهظة
وموقف البورجوازية على أعتاب الحرب العالمية الأولى:
د. عبد الله حنا- فينكس
بعد انقلاب /1908/ انتقلت "أملاك" السلطان المخلوع عبد الحميد، التي بلغت في سورية /1175/ قرية إلى يد الدولة، أي أنها أصبحت تحت تصرف حكومة الاتحاديين ذوي الميول البرجوازية الشوفينية في استنبول. وفي هذه الأثناء أخذ قسم من الاقطاعيين المتبرجزين وبعض التجار يطمحون في الاستيلاء على الأراضي واستثمارها على النمط الرأسمالي. كما أن الصهيونية، ربيبة الرأسمالية العالمية الطامحة في ابتلاع فلسطين وضعت أيضا خططها الجهنمية لسرقة الأراضي العربية مباشرة أو عن طريق عملائها من الطبقة العليا في الدولة العثمانية. إضافة إلى ذلك فإن لعاب الرأسمال الأجنبي وبخاصة الافرنسي مال من أجل استثمار الأراضي لسد حاجات الصناعة الرأسمالية من المواد الخام. وكانت أملاك السلطان عبد الحميد المعروفة "بالأرض المدورة" أو الأرض الأميرية الغنية التي أرادت هذه العناصر الاستيلاء عليها وابتلاعها. ولكن الفلاحين المدعومين من برجوازية دمشق الوطنية قاوموا محاولات الصهيونيين، والاقطاعيين المتبرجزين والكومبرادور، المتحالف مع الرأسمال الأجنبي في السيطرة على الأراضي التي يعملون عليها أو بجوارها. وقد ذكرنا سابقا الوسائل التي استخدمها السلطان وعملاؤه من أجل الاستيلاء على أراضي الفلاحين وتسجيلها باسم السلطان دون علم الفلاحين.
وتقول الكرمل أن "أكثرهم لم يعلموا أن أراضيهم تطوبت على السلطان إلا بعد مضي سنتين أو ثلاث" لقد أرادت جريدة الكرمل وكذلك المقتبس من نشر تفاصيل نهب أراضي الفلاحين من قبل السلطان عبد الحميد وعملائه وإعطاء حركة مقاومة بيع الأراضي، السند النظري والشرعي ودفع هذه الحركة الى الأمام، واستخدامها لتحقيق نوع من التحالف بين الريف الفلاحي والمدينة البرجوازية ضد سياسة الحكومة المركزية التركية.
وقد احتدمت المعركة في سنة /1913/ واستعر آوارها بشكل عنيف بين القوى الوطنية، المؤلفة من سكان المدن والفلاحين. ومن جهة، والقوى الرجعية – الاقطاعية والكومبرادور – والصهيونية والامبريالية من جهة ثانية، من أجل امتلاك الأراضي المدورة. وذكرت جريدة صباح التركية "أن البرنس ابراهيم باشا طالب ابتياع أراض أميرية داخل ولاية سورية بثلاثماية ليرة. وقد زار رفعت بك ناظر المالية وتذاكر معه في هذه المسألة" فعلقت المقتبس على هذا الخبر مؤكدة بأن "خير طريقة لبيعها أن لا تباع للغير بل تعطى للمزارعين فيها ببدل مقسط لا يئنون تحته(88). ان هذا المثال يؤكد الصفة التقدمية للحركة الوطنية ذات الأهواء البرجوازية قبل الحرب الأولى. وهذا يدل أن الحركة الوطنية طمحت في اجراء اصلاح زراعي جزئي لمقاومة الغزو الاقطاعي والصهيوني الأمبريالي. ولكن المطالبة بهذا الإصلاح الجزئي بقيت محصورة في نطاق ضيق ومقتصر على المطالبة بتوزيع بعض أراضي أملاك الدولة، دون أن يكون لهذه المطالبة صفة الشمول.
قاوم الفلاحون بالقوة، كما ذكرت جريدة الكرمل في 11 شباط /1913/(89) السلطة في الاستيلاء على الأرض المدورة في منطقة جنين وغور بيسان. وأضافت الجريدة بأن "السلطة تريد اخراج الفلاحين وبيع الأراضي". كما أن حركة احتجاج ضد محاولة بيع أراضي الغور من وجهاء بيسان ونابلس بلغت درجة قوية. وفي الوقت نفسه احتج عرب اللجاه – كما ذكرت المقتبس – على بيع الأراضي الأميرية في المسمية(90).
وأثناء انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس وجه الفلاحون في غور بيسان رسالة إلى المؤتمر مؤرخة في 21 أيار /1913/ يطالبون فيها بعدم بيع الأراضي المدورة أو ايجارها أو منحها لأي شركة كانت، ويتمنون على المؤتمر أن يبذل الجهد لإبقاء هذه الأرض في يد فلاحيها.
لم يشمل هَوَسْ بيع الأراضي المدورة أو الأميرية مناطق حلب وحماة وعكا والشام وحوران فحسب بل تعداه إلى بلاد الرافدين. وتعليقا على ذلك كتبت المقتبس في 14 آب /1913/ أن "الأراضي الأميرية في العراق أرادت الحكومة بيعها إلى شركة صهيونية" وهي أصفر المار ذكرها. وعلى الأثر اجتمع أعيان العراق من تجار وأرباب أملاك ورجال دين ومحامين وبعض رجال القبائل في النادي العلمي الوطني وقرروا أن يقوموا بمظاهرة ضد بيع الأراضي يشترك فيها أعراب بغداد القريبون منها(91).
أما في حلب فقد كتب مراسل المقتبس ما يلي: "بدلا من اعطاء الأراضي للعربان لكي يتحضروا تريد الحكومة اعطاء الأراضي المدورة إلى أصفر وفي ذلك ضرب للرعي والقضاء على تجارة السمن والصوف حوالي حلب لأن الشركة ستزرع الأراضي... ان في الأراضي المدورة بحلب زهاء /200/ ألف نسمة من فقراء الزراع التي كانت اغتصبت حقوقها من أيديها جبرا في عهد السلطان السابق على أن تدفع سنويا /15%/ من المحصولات لقاء العشر وأجرة الأرض، وعلى أن يعفوا من الويركو والعسكرية وأضاف المراسل بأن "للشركة سلطة اجلاء هؤلاء المساكين". ثم تساءل "ما هو السبب بحصر هذا الاجراء والبيع بالأراضي العربية".
سعى رجال الاصلاح لتبيان عدم وجود فرق جوهري بين حكم السلطان عبد الحميد وحكم الاتحاديين الذين قلبوا عبد الحميد عام /1908/ إذ كان كلاهما يريد الاستيلاء على أرض الفلاحين وطردهم "مع اختلاف الوسائل والطرق". ورمى اصلاحيو دمشق من وراء نشر الأخبار السابقة إلى جر برجوازية حلب للنضال ضد الحكم التركي لكي تحافظ على مصالحها. وان المتتبع للأحداث في تلك الفترة يلاحظ دون عناء رغبة بورجوازية دمشق في اقامة جبهة موحدة معادية للأتراك مع بورجوازية حلب وكذلك مع بورجوازية بيروت.
كما نظر اصلاحيو دمشق إلى الفلاحين كحليف قوي لا يقدر بثمن في نضالهم ضد الحكم التركي ولذلك أيدوهم، ودفعوهم للنضال ضد بيع الأراضي الأميرية إلى شركة أصفر الصهيونية، وطالبوا بتوزيع الأراضي الأميرية على الفلاحين. علاوة على ذلك فإن للبورجوازية مصلحة في تحسين أحوال الفلاحين المادية من أجل أن ينشط السوق التجاري الداخلي.
قام نضال الفلاحين ضد بيع أراضيهم أو طردهم من الأرض ومن أجل توزيع الأراضي الأميرية على الفلاحين، جنبا إلى جنب مع النهوض النسبي الذي شمل الفات الاجتماعية الكادحة الأخرى، وحدث في وقت بلغت فيه الحركة الوطنية والقومية في بلاد الشام، درجة من البأس والقوة لم تشهدها من قبل. وكان ثمة تلاحم عضوي بين الحركة الوطنية العربية المعادية للأتراك والمطالبة باللامركزية والإصلاح وكذلك الاستقلال، وبين الحركات والتململات الفلاحية المعادية للإقطاعية. ولكن تخلف القسم الأكبر من الفلاحين وجهلهم وسيطرة الرجعية الداخلية عليهم وانتشار كثير من المفاهيم المحافظة الضبابية بين صفوفهم، تلك المفاهيم التي زرعتها الرجعية الفكرية وغذتها، حد من اندفاع الفلاحين، ومن سيرهم الصاعد إلى الأمام وعرقل مشاركتهم الجادة في النضال الوطني والقومي، وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى ضعف الحركة الوطنية والقومية في خريف 1913، تلك الحركة التي لم تكن قد دخلت بعد في أعماق الجماهير الشعبية وكانت واقعة – حتى نهاية الحرب الأولى وانهيار الدولة العثمانية – في شبه عزلة نتيجة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة والحالة الفكرية المتأخرة، وسيطرة فكرة الخضوع للخليفة المتربع على عرشه في استنبول بين حريمه وجواريه. ولم يكن يدور في خلد الفلاحين وسائر الجماهير الكادحة الوضع الحقيقي للخليفة الحاكم باسم الدين، والدين منه براء.
***
ان أحد الأسباب التي أدت إلى فشل "المؤتمر العربي الأول" المنعقد في باريس في صيف 1913 من ممثلي مختلف التيارات القومية والوطنية، والهادف إلى توحيد القوى الوطنية من أجل المطالبة بإجراء الإصلاحات داخل الولايات العربية، يرجع إلى عدم اهتمام المؤتمر بالقضايا الاقتصادية الاجتماعية التي تهم الجماهير الشعبية، وعلى رأسها الجماهير الفلاحية كما يرجع الى حصر نشاط المؤتمر في القضايا السياسية التي لا يمكن، على الرغم من أهميتها أن تحقق أهدافها إلا إذا ارتبطت بالأمور المعاشية للشعب. وكان من الطبيعي أن تعارض القوى اليمينية المتمثلة في الاقطاعية الليبرالية وبورجوازية الكومبرادور، داخل الحركة الوطنية والقومية حل مشكلات الجماهير، لأن همها الأساسي اقتصر على المشاركة في الحكم، أي المشاركة في استثمار الجماهير الشعبية. أما القوى الوطنية الراديكالية فلم تكن آنذاك في وضع اجتماعي وفكري يمكنها من طرح القضايا الاقتصادية الاجتماعية بشكل علمي ومدروس.
وقد أدى ذلك إلى انعزال رجال مؤتمر باريس عن الجماهير وبشكل خاص عن الجماهير الريفية. ولم تكن الجماهير الكادحة، على ما يبدو، تنظر بعين الرضى إلى نشاط القسم اليميني من الحركة الوطنية المتمركزة في حزب اللامركزية (الاقطاعي الليبرالي) وجمعية بيروت الإصلاحية (الممثلة لبورجوازية الكومبرادور المرتبطة بالرأسمال الأجنبي والمعادية آنذاك للحكم التركي).
كما أن احتواء الحركة الوطنية والقومية لعناصر اجتماعية متباينة المصالح والأهداف، لم يكن عنصر قوة للحركة القومية بقدر ما كان عنصر ضعف، أدى إلى انعدام الوحدة الفكرية والتنظيمية داخل الحركة الوطنية والقومية، وإلى فقدان القيادة الموحدة، والافتقار إلى استراتيجية وتاكتيك واضحين.
في ظروف هذا الجو المشبع بالانقسامات داخل الحركة الوطنية والمتصف بالانحسار والجزر الوطني والقومي، اندلعت في صيف 1914 الحرب العالمية الامبريالية الأولى، التي وضعت مع نتائجها الحركة الوطنية ومن ضمنها الحركة الفلاحية أمام ظروف ومهمات جديدة تختلف كلية عن الظروف السابقة، ومما لا شك فيه أن زوال السلطة العثمانية كان أحد العوامل الهامة التي حررت الفلاحين من فكرة الخضوع للخليفة التركي، وأفسحت المجال رحبا أمام تطور القوى المنتجة، على الرغم من حلول السيطرة الاستعمارية الفرنسية مكان السيطرة الاقطاعية التركية.

الحلقة القادمة: قريتا شين وجبلايا في صراعهما ضدّ الاقطاعيّة العثملّية

المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب