كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

تصدّع النظام الاقطاعي العثماني وبدء انتشار العلاقات الرأسماليّة

د. عبد الله حنا- فينكس

دور الحكم المصري 1832-1840 في خلخلة النظام الاقطاعي العثماني
1 – اجراءات ابراهيم باشا، الاقتصادية – الاجتماعية:
في عام / 1832 / احتل ابراهيم باشا بن محمد علي باشا حاكم مصر ولايات بلاد الشام، دون مقاومة تذكر من الأهالي الذين كانوا مستعدين لاستقبال أي فاتح، بعد أن أرهقتهم الضرائب الباهظة التي فرضتها الحكومة العثمانية على أثر الحرب الروسية – التركية (1828-1829) من أجل ملء خزائنها الفارغة. أما مقاومة عكا لابراهيم باشا فإنها لم تكن من أهالي البلاد بل من جيش المرتزقة العامل تحت إمرة عبد الله باشا، والي عكا.
لقد أضعفت ثورة حلب / 1821 / السلطة العثمانية في أحد مراكزها الرئيسية، وفي نقطة هامة من نقاط ارتكازها في بلاد الشام وما بين الأمرين. وهذا ما مهد السبيل أمام ابراهيم باشا لفتح سورية دون عناء. كما أن ثورة العامة الدمشقية في أيلول / 1831 / كانت عاملاً آخر في فتح أبواب بلاد الشام أمام ابراهيم باشا، الذي أسرع إلى حمص ووجه ضربة قاسية للجيش العثماني المحتشد فيها. ولم تفلح محاولات القادة العثمانيين المنهزمين في حشد أهالي حلب، الذين التزموا جانب الحياد، مما اضطر العثمانيين إلى الانسحاب شمالاً مخلفين وراءهم أموالاً وأمتعة كثيرة. وعلى الأثر دخل ابراهيم باشا حلب دون حرب وشرع في تنظيم أمورها. فقضى على بقايا الانكشارية، ثم جمع الأسلحة، وألحّ في طلب العسكر الإجباري فهرب قسم من أهالي حلب إلى القرى(1).
في البدء رضي معظم الأهالي عن الادارة المصرية لأنها أنقذتهم من بطش الولاة وهمجيتهم، رضوا بها لأنها أزالت عنهم كابوس العساكر العثمانية، التي كانت ترتكب الفظاعات وتستحل الحرمات وتتصارع فيما بينها في الأسواق والأزقة مخربة مدمرة ومعطلة دولاب العمل. لقد رأى أهالي بلاد الشام في الجيش المصري جيشاً منظماً يدفع أفراده ثمن ما يأخذون ويوصي قائده وضباطه الجنود باحترام الممتلكات والأموال والقوانين المفقودة في العهد العثماني(2).
أجرى ابراهيم باشا الاصلاح الاداري والاقتصادي وأبطل المصادرات ونظم جباية الضرائب وأصلح القضاء على النمط البورجوازي الفرنسي وكافح الرشوة، كما ساوى بين الجميع أمام القانون وسعى لرفع قيود المجتمع الاقطاعي الشرقي عن فئات من السكان.
وكما جرى في مصر، سعى ابراهيم باشا إلى اقامة المركزية في بلاد الشام وتقليص الاضطهاد الاقطاعي وبناء الأسس الأولى للعلاقات الرأسمالية في حضن أسلوب الانتاج الاقطاعي.
في بدء الحكم المصري (1832-1840) اتخذت السلطات المصرية اجراءات تهدف إلى منع انهيار الزراعة، وكان في طليعة هذه الاجراءات تحقيق الأمن وصد غزوات البدو والعمل لتوطينهم مما شجع على الاستقرار في الريف واتساع حدود المعمورة نحو الشرق. ومع ان ابراهيم باشا لم يلغ نظام الالتزام ولم يبدل الملتزمين والحكام المحليين، ولكنه طبق عليهم بالتدريج أنظمته في عدم تجاوز الضرائب المقررة! فأدى إلى تحرير الفلاحين من الالتزامات الاضافية وطرق البلص وفرض الأتاوات.
هذه الاجراءات أدت إلى احياء /15000/ فدان في حوران والسهول الواقعة بين دمشق وحلب وارتفعت بذلك مساحة الأراضي المزروعة وازداد مردودها، وبفضل استتباب الأمن أخذت حمص تستعيد نشاطها من جديد. وكتب أحمد وصفي زكريا سنة /1934/ أن بعض معمري حمص رووا له أن قرى حمص الشرقية كالمشرفة وشمسين وشنشار والزعفرانة عمرت في تلك المدة من حكم ابراهيم باشا.
ومن جهة أخرى استُخدم الجيش في تحسين الزراعة، فعندما هدد الجراد محاصيل حوران، في احدى السنوات، استخدم الجنود في مكافحته. كما اتخذت سلسلة من الاجراءات لتحسين الوضع المادي للحرفيين والتجار والفلاحين(4).
كانت حصيلة الاجراءات الاقتصادية – الاجتماعية لابراهيم باشا وضع أسس مجتمع متقدم بالنسبة للمجتمع العثماني الاقطاعي. ولهذا فإن معظم الزعماء المحليين الاقطاعيين رفعوا راية العصيان في وجه الاصلاحات الجديدة. كما أن الاجراءات المتخذة للتغلب على التخلف الاقطاعي لم تكن جميعها في صالح التجار والحرفيين بل كان بعضها في صالح الأوروبيين، الذين حصلوا على اعفاءات جمركية لم ينل التجار السوريون مثلها إلا في عام /1836/(5).
وهذا أدى إلى تراكم عوامل النقمة ضد الحكم المصري وبخاصة بعد أن اضطرت الإدارة المصرية إلى فرض ضرائب إضافية هي الفردة(6) لسد نفقات الجيوش وصد هجمات الاتراك. مما أدى إلى عدم رضا وتراكم أسباب النقمة، التي ازدادت بعدة مصادرة المؤن وشرائها بأسعار متدنية، ومصادرة حيوانات النقل، واستخدام اليد العاملة في اقامة التحصينات بأسعار متدنية أو بالمصادرة.
والذي أثار الاهالي بصورة خاصة هو فرض التجنيد الاجباري في عام /1834/(7) والعمل على نزع سلاح السكان. وهذان الأمران لم يعتد عليهما سكان بلاد الشام فيما مضى. فالدخول في الفرق العسكرية كان قبل 1832 اختيارياً، وجمع السلاح معناه تجريد السكان من الدفاع عن أنفسهم ضد اللصوص والغزاة والمتسلطين. كما أن تجريد سكان الريف من السلاح معناه من جهة ثانية أضعاف الزعامات المحلية والسير في طريق الدولة المركزية. وقد أدى نزع السلاح في معظم المناطق إلى تنظيم البلاد تنظيما حديثا وتنشيط الزراعة والسيطرة على البدو، وبعد سنتين من بدء التجنيد قدر عدد المجندين في بلاد الشام حوالي /36/ الف مجند. وهذا ما أخر من جهة أخرى الاقتصاد الفلاحي ودفع كثيرا من الفلاحين للهرب من الزراعة أو تشويه احد اعضائهم للتخلص من الخدمة العسكرية.
****
دور الحكم المصري 1832-1840 في خلخلة النظام الاقطاعي العثماني
ردود الفعل ضد الحكم المصري، وأسباب تمرد الفلاحين:
إن القوى الريفية، التي أعلنت الثورة على الحكم المصري هي:
- سكان القرى الفقراء "الذين استاؤوا من دفع الضريبة الجديدة (الفردة) ولم يعتادوا على الدخول في الجندية وسوقهم إلى خارج مناطقه.
- العناصر المتنفذة في الريف، التي استاءت من سياسة المساواة بين الجميع والسعي لتطبيق القانون بالتساوي على الجميع. فصاحب "مشهد العيان" في حوادث الشام كتب عبارة ذات مدلول عميق تشير إلى تذمّر الكبار من مساواتهم بالصفار في سبيل فرض سلطة الدولة المركزية.
جاء في كتاب "مشهد العيان: "وأصبح القوي الذي جمع قواه بتفريق قوى الفقير مذلولاً مجرداً من قوته والمستبد أرغم على التنازل عن عرشه وتساوت منزلته بمنزلة من كان يعتبره أحط منه".
- ملتزمو الضرائب في العهد العثماني، الذين استاؤوا من الطرق الحديثة في جباية الضرائب وتقليص نفوذهم "وتعويد الشعب الخضوع للدولة رأسا" دون واسطة "المشايخ والأمراء" فالحاكم المصري في دمشق شريف باشا سعى للتضييق على الزعامات المحلية في سبيل السلطة المركزية. وحول هذا الموضوع كتب صاحب "مشهد العيان":
"ولما شاهد الفساد ضارباً أطنابه في أنحاء البلاد، رأى من الحكمة وسداد الرأي ضبط أموال الخراج والفيء ورفع يد مأموريها من مشايخ وأمراء عن مداومة هذه الوظيفة (أي جمع الضرائب عن طريق التزامها) فمنع هذه الفئة المستبدة من معاطاة وظيفتها وقيّد أفرادها بالشريعة الحقة فأخرج من يدهم سلطتهم الاستبدادية القديمة التي كانوا يتمتعون بها.. وقد عزل بعضهم لسوء تصرفهم ولجهلهم الأمور المدنية الحديثة وعيّن خلفا لهم ممن توفرت فيهم الشروط اللائقة لاشغال مركز بالحكومة ولا فرق عنده بين الرعية"..
"وكان عمل شريف باشا هذا مع كل رؤساء العشائر في سوريا إلا الأمير بشير"، لأنه وبموافقة محمد علي بقي يتصرف في جبل لبنان كما كان في السابق. وكان أحد أعمدة الحكم المصري في سورية، وقام باخضاع الفلاحين والقضاء على ثوراتهم.
أدى تدخل الدول الأوروبية (روسيا القيصرية – انكلترا – فرنسا...) إلى تعقد الثورات الداخلية التي شارك فيها عامة الفلاحين وأعيان الريف كل من زاوية نظره. وبعد أن تمكن ابراهيم باشا من القضاء على الثائرين، قرر الانكليز التدخل وساعد أسطولهم حركات التمرد ضد الحكم العثماني. مما أجبر المصريين على الانسحاب بعد أن وقفت ضدهم الدول الأوروبية، عدا فرنسا.
ومعنى ذلك أن الثورات الريفية ضد حكم ابراهيم باشا كان لها دوافع مختلفة داخلية وخارجية. والثائرون كانت أهدافهم متباينة. فأعيان الريف يريدون عودة سلطانهم السابق، الذي حجّمه الحكم المصري، والفلاحون مستاؤون من الضرائب والجندية، ولم يكن بامكانهم أن يدركوا عمق التأثير التقدمي، الذي يزرعه الحكم المصري في بلاد الشام، وهو في نهاية الأمر في صالح التطور لتصديع العلاقات الاقطاعية الشرقية، التي تستنزف دماء الفلاحين. والواقع أن الفلاحين الغارقين في الأمية والخاضعين أيديولوجيا إلى زعمائهم من جهة والى فكرة سيادة السلطان العثماني زعيم المسلمين وحامي الحرمين الشريفين لم يكن بامكانهم أن يدركو أبعاد السياسة المصرية في بلاد الشام.
ومن جهة ثانية فإن الحكم المصري، الذي أسهم موضوعياً في دفع البلاد نحو التقدم والقضاء على بعض أسباب التخلف، كان في جوهره حكماً أسرياً فردياً استبدادياً. فحركة محمد علي في مصر لم تكن مدعومة من طبقة بورجوازية ذات تقاليد ثورية مناهضة للحكم الاقطاعي، بل كانت حركة مقطوعة الجذور لا تعتمد على قاعدة شعبية، هي في أساسها حركة تسعى لإقامة علاقات رأسمالية في أحضان علاقات الانتاج الاقطاعية. وكان من الطبيعي أن يتحرك الفلاحون ضد الاجراءات المصرية (التجنيد، ضريبة الفردة على الأفراد.. الخ).
وفي لحظة معينة نسي الفلاحون مظالم الحكم العثماني السابق، ولم يروا إلّا ما طالبتهم به الإدارة المصرية، التي كانت على جانب من التنظيم والدقة، بصورة لا تفسح مجالاً للهرب من الضرائب أو الاعباء المفروضة. وكان للتعقيدات، التي رافقت الحكم المصري في بلاد الشام أثرها في دفع الفلاحين للثورة على حكم أفضل بكثير من الحكم السابق.
هذه الأسباب الداخلية والخارجية لم يرها صاحب كتاب "مشهد العيان"، بل رأى الجانب التراثي التقليدي الخانع. فهو بعد أن عدد "مآثر الحكومة المصرية" في بلاد الشام خلص إلى القول:
"ومع كل ذلك ظل الشعب يسومها العداوة ويناقش الحساب لأنه اعتاد أن يكون محكوماً لا حاكم نفسه، عبداً، لا حراً...".
في أوروبا تحالفت الطبقة البورجوازية الناشئة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر مع الفلاحين ودكت عروش النظام الاقطاعي. أما في الشرق فان تطبيق الاصلاحات الغربية البورجوازية لم يجر اعتماداً على طبقة بورجوازية واضحة المعالم، بل تم، كما ذكرنا، بواسطة حكم فردي وأسرة تريد الاثراء وانشاء امبراطورية مترامية الأطراف.
هذا الوضع المعقد هو الذي جعل أقساماً هامة من الفلاحين ترفع راية الثورة ضد الحكم المصري وهي تدري، أولا تدري، بأنها ستعود مرة ثانية إلى نير العلاقات الاقطاعية العثمانية.
الحلقة القادمة: الثورات الريفية ضد حكم ابراهيم باشا
*****
 دور الحكم المصري 1832-1840 في خلخلة النظام الاقطاعي العثماني
ردود الفعل ضد الحكم المصري ، وأسباب تمرد الفلاحين
الثورات الريفية ضد حكم ابراهيم باشا المصري 1830 - 1840
كانت أولى الثورات الريفية في جنوب بلاد الشام. ففي السلط هاجم الفلاحون والبدو، القوات المصرية، وفي الخليل هُزم الجنود المصريون، واحتل الفلاحون القدس، باستثناء القلعة، كما قطعت المواصلات بين يافا والقدس.
وكان أكثر الثورات قوة "ثورة نابلس" حيث اضطر ابراهيم باشا للقدوم بنفسه لإخضاع ثوار نابلس "حيث لاقى منهم الأهوال واختبرهم بمواقع القتال ورأى فيهم أشد رجال سوريا عزما وأقداما فقاتلوه وضايقوه" إلى أن "تغلب عليهم بالخداع وأرغمهم على الاخلاد والسكينة وقد أسر زعماءهم، وفي رجوعه أمر بإعدامهم"(12).
وفي جبال العلويين اندلعت ثورة فلاحية ضد الحكم المصري شارك فيها الفلاحون الفقراء والمشايخ، الذين حرضوا الفلاحين على الثورة. وكانت الادارة المصرية تنهج سياسة أضعاف المشايخ لمصلحة الحكم المركزي. وهؤلاء تمكنوا بسهولة من دفع الفلاحين إلى الثورة. فأمتنعوا عن دفع الرسوم إلى الحكومة. فأرسل شريف باشا نائب إبراهيم باشا , مجموعة من جبل لبنان "لاخضاع الثائرين الذين اعتصموا بجبال العلويين وفازوا بالغلبة على رجال الحكومة"، و"لما علم شريف باشا بما حل برجاله جمع فرقة من الجيش المنظم وأرسلها إلى الثوار وأكرههم على الطاعة والسكينة بعد أن دمر عددا كبيرا من القرى. ( 13 )
وفي عام /1835/ اندلعت ثورة الفلاحين الدروز في جبل حوران، حيث احتموا في منطقة اللجاة وصدوا عدة حملات عسكرية وأبادوا معظم أفرادها فاستولى الرعب على العسكر المصري وأحجم عن مقاتلتهم ولاسيما في اللجاه لأنها عسرة المسلك واسعة الانحاء"(14). ولا شك أن شجاعة الفلاحين الدروز وفروسيتهم أضعفت معنويات الجند المصريين ومن انضم إليهم ممن لا مصلحة لهم في هذا القتال، في حين أن الفلاحين كانوا يدافعون عن أرضهم وأهلهم. ولهذا "كان أكثر الجند يفر مرعوبا منهم"(15).
وفي احدى الحملات استعان ابراهيم باشا بقوات الأمير بشير الشهابي من جبل لبنان. ( 16) وكان لهذا الأمر آثاره البعيدة. مما أدى إلى اضطراب التوازن المذهبي وإلى تهيئة الأجواء أحداث 1860 الطائفية بين الدروز والموارنة .
وكثيرا ما تظاهر فلاحو جبل حوران من الدروز بالانسحاب والتقهقر أمام القوى المهاجمة ثم يهاجمونها في المكان المناسب "فتجدد الرعب في قلوب الجنود من بطش الدروز، وتراجعوا عن قتالهم". وهذا مما أجبر ابراهيم باشا على مهاجمة اللجاه بقوات كان على رأسها. ولكن هجماته باءت بالفشل. ولما أدرك حالة رجاله وعلم أنهم باتوا يخافون سطوة الدروز عمد إلى تسميم الماء الذي كانوا يستقون منه فأرسل إلى ناظر صحة سوريا الدكتور كلوت بك يطلب منه استحضار محلول قاتل. ولكن كلوت باشا رفض "استعمال تلك الواسطة لما فيها من القساوة التي تشمل الحريم والأطفال معا" , "أما ابراهيم باشا فكان يرى مصلحة الدولة أولا والرعية ثانيا، ولما عجز عن اخضاع العصاة الزم علماء الكيمياء بصنع محلول سليماني القاه بالمياه وأعلم الدروز بذلك" وهذا مما أجبر الثوار على الانسحاب وترك المكان بعد أن مات منهم عدد كبير عطشا .
*****
منجزات الحكم المصري
وتمهيد الطريق للاصلاح في الدولة العثمانية:
قلقد جرى الحديث طويلا حول أهداف محمد علي باشا في بلاد الشام وبخاصة محاولة اقامة امبراطورية عربية، مع أنه لم يكن يتكلم العربية. وقيل أن ابنه كان يفاخر بالأمجاد العربية. والواقع أن لمحمد علي باشا مطامح توسعة وسياسية داخلية وخارجية لا مجال لبحثها هنا. وما نريد الاشارة إليه هنا هو أن محمد علي أفاد القضية العربية بطريقة غير مباشرة. فهو من جهة فتح الأبواب أمام التطورات الحضارية القادمة من الغرب وبرهن أن حكمه في مصر وسورية أفضل من حكم السلطان العثماني، الذي لم يعد بامكانه حماية رعاياه المسلمين أمام هجمات القوى الكولونيالية (الاستعمارية) المتنامية في أوروبا.
وداخلياً كان للحملة المصرية على بلاد الشام آثار واضحة نجملها فيما يلي:
- أسهم الحكم المصري في الاجهاز على القوى العسكرية الاقطاعية من انكشارية وغيرها، التي كانت تعيث في الأرض فسادا وتمنع أي تطور حضاري للبلاد.
- أسهم الحكم المصري في دفع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية نحو التغيير. وهذا التغيير على الرغم من محدوديته دفع بعض المؤرخين إلى القول :
" إن الحكم المصري نقل بلاد الشام في مدى بضع سنوات من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة وفتح نافذة – وان كانت محدودة – أطل منها أهل الشام على العصور الحديثة وأخذ خلالها تيار هذه العصور يتسرب تدريجيا إلى داخل البلاد ليغير من الجو الفكري والاجتماعي السائد فيها " .
- ازدياد ارتباط الولايات السورية الشام حلب، صيدا بالسوق الاقتصادية الرأسمالية، وبداية ظهور العلاقات الاقتصادية الجديدة والانتقال من الاقتصاد الطبيعي ومبادلة سلعة بسلعة إلى المبادلة الجديدة (الرأسمالية) : سلعة – نقود – سلعة .
- تصدع العلاقات الاقطاعية الشرقية السائدة وسعي الطبقة الرجعية المستفيدة من هذه العلاقات إلى استخدام وسائل جديدة هدفها المحافظة على جوهر الاستثمار الاقطاعي، ولكن بأوجه جديدة.
- بداية تكون طبقة بورجوازية جديدة ظهرت في لبنان والساحل وامتدت بالتدريج إلى الداخل. وعلى الرغم من أن هذه الطبقة ولدت مهيضة الجناح وكانت تابعا للغرب الرأسمالي، إلا أن وجودها أسهم في دفع عجلة التطور بغض النظر عن نوعية العجلة وسرعتها وفاعليتها.
- أسهمت السياسة المصرية في بلاد الشام في تعميق الأزمة الاجتماعية في الريف وإلى دفع التحركات الفلاحية إلى سطح الأحداث وبخاصة في جبل لبنان.
- أدت فكرة التسامح الديني، التي طبقها محمد علي إلى ايجاد قاسم مشترك بين أفراد الشعب من جهة وإلى ردة فعل من قبل القوى الرجعية التي سعت إلى تسعير الاضطرابات الطائفية، التي استغلها العثمانيون والدول الاستعمارية لخدمة مصالحهم ، ولكن هذه الخلافات الطائفية ظاهريا وذات الأبعاد الاجتماعية والصراعات الطبقية عمليا أسهمت في الدعوى إلى التآخي بين الطوائف والمذاهب، واعتبار جميع المواطنين عربا. وهذه كانت احدى دلائل الوعي القومي العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
- بداية ظهور عصر "التنوير" وهو ما عرف باسم "النهضة العربية" التي حمل لواءها العناصر المثقفة البورجوازية في لبنان والساحل والتي انتقلت وئيدا نحو الداخل وطرقت أبواب المدن الداخلية طرقا خفيفا متزايدا باستمرار.
- ضعف الحكم العثماني على أثر الضربات التي تلقاها في البلقان وبلاد الشام، مما أسهم في استفحال حدة الأزمات الداخلية، التي نخرته. كما تصاعد تدخل الدولة الأوروبية في الدولة العثمانية والصراع على نهب خيراتها واستعباد شعوبها.
- رافق هذا الضعف سعي السلطة المركزية إلى تدعيم ركائزها عن طريق الاستفادة مما زرعه الحكم المصري في بلاد الشام، وبخاصة جهوده في ازالة حكم الباشاوات وكسر شوكة العصبيات المحلية والمتنفذين في الريف والمدينة. والسير في طريق الحكم المركزي، الذي بلغ أهدافه بوصول السلطان عبد الحميد إلى العرش وحكمه البلاد حكما فرديا استبداديا أوتوقراطيا.
- لقد أوقفت عودة السيادة العثمانية ، بعد انسحاب إبراهيم باششا من سورية ، مخاض التطور الرأسمالي ودعمت مجددا العناصر الاقطاعية في الزراعة. وبقيت أكثرية الأرض المزروعة أرض ميري تحت تصرف جهاز الدولة الاقطاعي الاستبدادي، وعلى الرغم من ذلك صدّعت حملة ابراهيم باشا والحكم المصري لبلاد الشام (1832-1840) أوصال المجتمع الاقطاعي الحرفي وخلخلت جذوره وأسهمت في بداية نقله من مجتمع تسوده علاقات الاقطاعية الشرقية إلى مجتمع يحمل بعض بذور تطور العلاقات الرأسمالية.
وجاءت الاصلاحات الفوقية الصادرة عن السلطة العثمانية والمتمثلة أولا بخط شريف كلخانة – 1839 – والخط الهمايوني سنة – 1856 – لتنسف الغطاء الشرعي القانوني للاستبداد الاقطاعي الشرقي ولتفسح المجال أمام القوى الجديدة المستنيرة داخل الدولة العثمانية لكي تنطلق وتتحرر معتمدة على هذا الأساس الشرعي القانوني لمقاومة بعض أسباب التخلف والتأخر. ويبدو ذلك واضحا من احدى عرائض هذه القوى الجديدة المرسلة إلى السلطان على أثر صدور خط كلخانة عام – 1839 -، جاء فيها:
"... اننا تشرفنا بمنشور العدالة والرحمة ورفع البدع والمظالم والتكاليف الشاقة غير المرضية وسخرة الدواب والمبايعات بدون أثمان مثلها وساير ما يؤدي إلى الخسارة وضيق الحال على الرعايا وانه بعد الآن ما بقا يؤخذ من أحد الرعايا لا مبايعات ولا سخرة دواب ولا تكاليف ولا مظالم ولا مغارم، بل تكون الرعية فايزين بالرفاهية حايزين مرتبة الراحة مع حفظ الناموس ساعين حركة الاصلاح والقوانين ذات الطابع البورجوازي بتوسيع المعاشات والزراعات ".
الحلقة القادمة : حركة الاصلاح والقوانين ذات الطابع البورجوازي المعروفة بالتنظيمات.
******
حركة الاصلاح والقوانين ذات الطابع البورجوازي المعروفة بالتنظيمات
وبعبارة ثانية:
محاولة تكيّف الاقطاعيّة العثمانيّة مع مرحلة انتشار العلاقات الرأسماليّة والانتقال إلى الملكية الخاصّة الاقطاعيّة
ادت جملة عوامل خارجية وداخلية إلى دفع حركة اصلاح النظم الادارية وأساليب الحكم خطوة إلى الأمام باعلان "خط شريف كلخانة" في أواخر عام – 1839 -، وبهذا بدأ ما عرف باسم "التنظيمات" التي دشنت عهد الاصلاحات البورجوازية في الدولة العثمانية. وهذه "التنظيمات" كانت ردة فعل ضد نمو حركة التحرر الوطني المناهضة للأتراك. كما رمت أيضا إلى تثبيت دعائم السلطة المركزية والحد من تدخل الدولة الأوروبية في الشؤون الداخلية السياسية للدولة العثمانية.
ان حركة الاصلاح العثمانية بمرحلتها الأولى الممتدة من 1839 إلى 1856 تميزت بإصلاح النظم الادارية والمالية والحقوقية والعسكرية والتربوية. وبعد حرب القرم – 1854 – وبتأثير الدول الغربية أعلن السلطان في شباط – 1856 – "الخط الهمايوني" الذي دشن المرحلة الثانية من "التنظيمات من 1856 إلى 1870".
ضمنت القوانين الجديدة الصادرة بموجب "الخط الهمايوني" حرية حركة رأس المال الأجنبي في الدولة العثمانية. فتأسس في عام – 1856 – البنك الامبراطوري العثماني برأسمال انكليزي. وفي سنة – 1867 – اعترفت الدولة العثمانية بحق الأجانب في تملك الأراضي. ونال الرأسمال الأجنبي عدداً من امتيازات الخطوط الحديدية. كما دشنت قوانين لصالح البورجوازية الناشئة مثل قانون الملكية في عام – 1858 – وتأسيس محاكم تجارية مختلطة – 1860 -، واصدار قانون الملاحة – 1869 – وقانون الجنسية – 1869 -. ولكن هذه التنظيمات اصطدمت بمقاومة القوى الاقطاعية الفئة العيا من رجال الدين المسلمين وكبار الموظفين وطغمة البلاط.
وفي هذه الفترة ظهرت جمعية تركيا الفتاة الليبرالية البورجوازية، التي سعت إلى إقامة ملكية دستورية واصلاحات بورجوازية في الحقل السياسي والاقتصادي. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت بالانتعاش حركات أدبية ذات محتوى سياسي عرفت باسم "النهضة".
وأخيرا تمكنت جمعية تركيا الفتاة في سنة – 1876 – من اصدار الدستور "القانون الأساسي للدولة العثمانية" الذي عرف باسم "المشروطية" ورمى إلى القضاء على الحكم المطلق والسير بالاصلاح إلى الأمام. ولكن السلطان الجديد عبد الحميد الثاني (1876 – 1909) عطل الدستور وحل البرلمان وأبعد مدحت باشا الصدر الأعظم، صاحب اليد الطولى في وضع الدستور. وهكذا انتهت حركة الاصلاح، وأقام السلطان عبد الحميد حكما اوتوقراطيا مطلقا، واضطهد – الحركة البورجوازية – الليبرالية، وأرهب الأقليات القومية وبخاصة الأرمن، واتبع سياسة الجامعة الاسلامية بهدف السيطرة على العالم الاسلامي تحت ظل خلافته. وسعى للاستفادة من التناقضات القائمة بين الدول الكبرى الطامعة في الدولة العثمانية وهي روسيا، بريطانيا فرنسا، المانيا، واخّر بذلك انهيار الدولة العثمانية لفترة من الزمن.
وفي هذه الأثناء، في – 1908 – قامت جمعية الاتحاد والترقي بانقلاب على عبد الحميد وأعلنت الدستور المعطل منذ – 1876 – وحكمت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، التي أدت إلى زوال الحكم الاقطاعي التركي عن الأقطار العربية عام – 1918 – ومجيء الاستعمارين البريطاني والافرنسي باسم الانتداب.
الحلقة القادمة : قانون الأراضي – 1858 – وتكوّن طبقة ملاك الأرض (الاقطاعيين) الجدد
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب