كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مقدمة "تاريخ الفلاحين" 1 من2

ننشر أدناه، في جزئين، مقدمة كتاب "تاريخ الفلاحين" الذي وضعه المؤرخ د. عبد الله حنا عام 1987، بتكليف من اتحاد الفلاحين، و صدر الكتاب عبر عدة أجزاء، لكن لم يسمح بتداوله حينذاك.

 

بداية نثبت فهرس الجزء الأوّل منه:
تاريخ الفلاحين في سورية
وعلاقته بالأحداث السياسية
عبد الله حناأ عبد الله حنا
المجلد الأول
المسألة الزراعية والتحركات الفلاحية في بلاد الشام في العصر العثماني
مقدمة عامة
تتناول حياة كتاب تاريخ الفلاحين.. والفلاح المؤرخ.. ومنهجيته
الباب الأول
الحكم العثماني الاقطاعي وطرق استثماره للفلاحين
• - الدولة العثمانية من الصعود إلى الهبوط
• - الحكم العثماني الاقطاعي في بلاد الشام
• - أشكال ملكية الأرض
• - الصراع بين القوى الاقطاعية الحاكمة قبل القرن التاسع عشر للسيطرة على الأرض واستثمار فلاحيها
• - صور من الحياة في الولايات العربية "الشامية" قبل عهد الاصلاحات في القرن التاسع عشر
الباب الثاني
تصدّع النظام الاقطاعي العثماني وبدء انتشار العلاقات الرأسماليّة
• دور الحكم المصري في خلخلة النظام الاقطاعي العثماني.
• تكيّف الاقطاعية العثمانية مع مرحلة انتشار العلاقات الرأسمالية والانتقال إلى الملكية الخاصة الاقطاعية.
• البنية الاجتماعية في الريف.
• البدو وموقعهم في المسألة الزراعية.
• ألوان من الحياة الاقتصادية – الاجتماعية لبعض الأرياف السورية.
الباب الثالث
تخلخل البنية الاقتصادية - الاجتماعيّة، وقيام التحرّكات الاجتماعية وأثرها في الحركة القّوميّة
• الأوضاع الاقتصادية في القرن التاسع عشر بين الرأسمالية الهامشية والعلاقات الاقطاعية.
• التحركات الاجتماعية في مدينتي حلب (1850) ودمشق (1860) وعلاقة المدينة بالريف.
• الانتفاضات الفلاحية في القرن التاسع عشر.
• الحركة القومية والقضية الزراعية على أعتاب الحرب العالمية الأولى.
• قريتا شين وجبلايا في صراعهما ضد الاقطاعية العثملية.
الباب الرابع
دور مختلف القوى الطبقيّة في الحركة القوميّة العربيّة
بعد انهيار الدّولة العثمانيّة
– الوضع المعاشي للجماهير في سنوات الحرب الأولى.
– الثورة العربية في الحجاز ابعادها القومية الاجتماعية.
– وضع بلاد الشام بعد انهيار الدولة العثمانية.
– الدولة الوطنية العربية (1918 – 1920): قواها الاجتماعية، مؤسساتها، أحداثها، وعوامل انهيارها
ملاحق المجلد الأول
( 1 )
الركود والتخلف في العهد العثماني من منظار أقلام شامية إسلامية
( 2 )
الأعيان والفلاحون في مقتبس محمد كرد علي لعام 1910
( 3 )
عزت باشا العابد سكرتير السلطان عبد الحميد من كبار إقطاعيي دمشق
( 4 )
أضواء على أحداث 1860 الطائفية في دمشق وأريافها
*****
( 1)
ابن "الضيعة".. بلدة ديرعطية
مؤلف هذا الكتاب تاريخ الفلاحين، فلاح ابن فلاح عاش في ديرعطية ذات الملكيات الصغيرة، والتي عمل أهلها في الزراعة المروية والبعلية وتربية الغنم والماعز في براري ديرعطية الواسعة والممتدة شرقاً إلى البادية. فحياة "الفلوحية" جزء لا يتجزأ من حياة كاتب هذه الأسطر حتى تَخَرّجِه عام 1958من الجامعة السورية أيام عزّها.
ومعنى ذلك أنّ اهتمامي بالتاريخ الفلاحي لا يقتصر على البحث الأكاديمي فحسب، بل هو نابع من حياة الطفولة والشباب الفلاحية من جهة، وأجواء الفكر السياسي المتنوع، الذي عرفته دير عطية في عهد مُبكرّ، وهذا ما تناولته في كتابي عن تاريخها الصادر بعنوان: "دير عطية التاريخ والعمران".
الأجواء "الدير عطانية" المتحضرة نسبياً أسهمت في صقل الوعي الوطني والإجتماعي لمؤلف هذا الكتاب. وهكذا لعب مناخ الطفولة والشباب، الذي نشأ وترعرع في فيافيه كاتب هذه الأسطر، دوراً هاماً في تموضع "العقلية" الفلاحية اليعربية في دمه والسير على المنهج الذي اتبعه في التأليف.
وثمّة مؤثرات فردية أثّرت في تكوين الفلاح الشاب عبد الله، أذكر منها:
- تأثير ابن عمي خليل حنا أستاذ الرياضيات المشهور والشيوعي اليعربي ابن الحضارة العربية الإسلامية، الذي دفع بي في المسار الماركسي، الذي لا يزال يحتل جزءاً من حياتي..
- التأثّر والإنشداد إلى الحزب العربي الإشتراكي، حزب أكرم الحوراني، وهو كما كنت أراه حزب الفلاحين. وقد حضرت حفل افتتاح الحزب في ديرعطية وأصغيت إلى كلمة أكرم، الذي لا يزال له في قلبي مودة..
- الحب العميق لأستاذي في الصف الخامس محمد رضا الخطيب، ذلك الإنسان المسلم الصادق الصوفي المشاعر، الذي قدّم في العام الدراسي 1945 – 1946 لتلاميذ الصف الخامس عصارة جهده، وهو الذي حببني بالإسلام، بما تحلّى به من أخلاق وشِيَم وإيمان تقي نقي لا يزال يأخذ بمجامع قلبي..
-الأستاذ اليعربي عطا الله بن الخوري حبيب مغامس، الذي تخرّج من القاهرة مدرساً للغة العربية ومتأثراً بحركة الأنصار الاسلامية، التي شرع يدعو لها بعد عودته وتعيِنِه مدرساً في حمص أصبحت له شعبية خاصة. ولا أزال أذكر ما قاله لي أحد أصدقائي الحماصنة وهو من تلاميذه: "كلما أمرّ من ديرعطية أقرأ الفاتحة على روح الاستاذ عطا الله". وكان عطا الله مغامس يدعو إلى نهوض قومي عربي عام ينهل من القيم والأخلاق العربية في العهدين الجاهلي والإسلامي.
2 – إحدى المواجهات مع يمين النظام
كان قبولي في جامعة دمشق بعد عودتي من إلمانيا الديموقراطية 1965دونه خَرْقُ القِتَاد. ولذا عُيّنت في أيلول 1965مدرساً للتاريخ في دار المعلمين في درعا. ومع التدريس وفي ظل أوضاع صعبة بدأت أحضّر للكتابة عن الطبقات المنتِجة من عمال وفلاحين وحرفيين ومثقفين. وهكذا تمكّنت عام 1973من إصدار كتابين: "الإتجاهات الفكرية في سورية ولبنان" و "الحركة العمالية في سورية ولبنان"، الذي أولى إهتماماً للعلاقة الجدلية بين الطبقي العمالي والقومي الوطني.
في الوقت نفسه كنت أحضّر وفق الإمكانات المتاحة للحركة الفلاحية. وعندما أنجزتُ ما تمكنت من تأريخه، قدمت الكتاب تحت عنوان: "المسألة الزراعية والحركات الفلاحية في سورية ولبنان 1820 – 1920" إلى إتحاد الفلاحين للنظر في طباعته. فقام اتحاد الفلاحين بتحويل المخطوط إلى المكتب الثقافي في القيادة القومية ورئيسه آنذاك جورج صدّقني.
وبعد مدة دُعيت إلى مقابلة صدقني. استقبلني مدير مكتبه طالباً الانتظار، الذي طال أمده دون أن يكون لديه أي زائر. وعندما سمح لي مدير المكتب بالدخول شاهدت شخصاً جالساً على كرسيه (مُعرِّماً) وراء مكتبه متجهم الوجه عابساً وكأنه يستعد لدخول معركة. لم يقف للسلام عليّ، فطار صوابي، ولا أذكر هل بقيت واقفاً أم جلست على إحدى المقاعد الوثيرة. كان أمامه مخطوط تاريخ الفلاحين مطبوعاً على الحرير، وشرع في توجيه الإسئلة لي وكأني في قفص الإتهام...
وأخيراً جرى نقاش طويل حول العبودية في التاريخ الإسلامي، وتبيّن لي أنّ معلوماته سطحية حول ذلك التاريخ. وعندما حَصَرْتَه فكرياً في الزاوية، انتقل فجأة و بأسلوب استفزازي قائلاً: تُترجم كومونة باريس إلى العاميّة، التي تقول إنها اندلعت في جبل العرب. إنك تستورد الأفكار وتقتبس من التاريخ الأوروبي اقتباساً حرفياً.
فأجبتُ: العامة كلمة عربية دخلت قاموس التداول السياسي في بغداد في القرن الرابع الهجري. كما استخدمها فلاحو جبل لبنان مشتقين منها إسم العامِيّة، وقاصدين بها تلك الإنتفاضات الفلاحية، التي اندلعت في جبل لبنان في القرن التاسع عشر. إذهب إلى جبل العرب و اسأل هل قامت ثورة فلاحية في الجبل؟.. فيجيبك السائل على الفور: تقصد العاميّة.. إنهم في الجبل يطلقون اسم العاميّة التي قامت 1888م مجرداً دلالة على أهمية العامية وتفرُدِها في الجبل بل في تاريخ بلاد الشام. وبعد نقاش حاد لم يترك فيه، عضو القيادة القومية لحزب البعث، مجالاً "للصلح" أدرتُ ظهري وخرجتُ من مكتبه.. وبعد مدة قصيرة ذهبتُ إلى بيروت، حيث نشرَت دار الفارابي المخطوط عام 1975.
ورغم الصعاب وظروف العمل الفكري غير الملائمة استمريتُ في نشاطي التأريخي للطبقات الدنيا المستضعَفة. وهكذا صدر لي عام 1985 في بيروت كتاب: "تحركات العامةالدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وتلاه عام 1994 "العامية والإنتفاضات الفلاحية في جبل حوران". ولم أنس العلم النهضوي ورجل الوطنية والتحرر الفكري عبد الرحمن الشهبندر، الذي اغتالته يد الغدر الظلامية عام 1940، فأفردتُ له كتاباً أهديته إلى زوجتي الطبيبة الألمانية التي كانت عوناً لي ولولاها لمُتُّ جوعاً، وجاء الإهداء كما يلي:
"إلى زوجتي سكريد ينسن التي دفعتني للكتابة عن الشهبندر
دفاعا عن حرية الفكر"..
*******
( 2 )
تكليفي بكتابة تاريخ الفلاحين
في المؤتمر العام الخامس للإتحاد العام للفلاحين، الذي انعقد في دمشق عام 1981، ألقى رئيس الجمهورية حافظ الأسد والأمين العام لحزب البعث العربي الإشتراكي خطابا جاء فيه: "...وفي رأيِ أن على كتابنا، على أدبائنا، على مؤرخينا، أن يسجلوا نضال الفلاحين بالقدر الذي وقع، وأن يعطوا هذه المسألة الأهمية التي تستحق". وفي نهاية أعمال المؤتمر الخامس للفلاحين اتخذ المؤتمر قرارا بكتابة "تاريخ نضال الفلاحين".
وبما أنّ حزب البعث لم يكن يملك الكوادر العلمية القادرة على كتابة تاريخ الفلاحين، فقد جرى تكليفي، شفهياً في البدء، من قبل الدكتور سليمان قدّاح رئيس مكتب الفلاحين القطري للمشاركة في كتابة ذلك التاريخ. لعلمه بما كتبته عن تاريخ للفلاحين. وبعد مداولات مع الدكتور سليمان تقدمتُ بمشروع للبحث. وتوليت فيه كتابة تاريخ الفلاحين من أوائل العهد العثماني حتى صدور قانون الإصلاح الزراعي لعام 1959.
***
تضمن أرشيفي ثلاثة أمور هامة:
• ما كتبته الصحف السورية بين عامي 1920 و1958حول القضايا السياسية والإقتصادية والإجتماعي والفكرية.
• ما ورد في جلسات المجالس النيابية السورية بين عامي 1933 – 1958. ووقائع جلسات البرلمان تُقدّم مادة غنية للباحثين.
• ما نشرته الجريدة الرسمية من قوانين ذات علاقة بالفلاحين.
• وجاءت الجولات الميدانية، التي قمت بها بمعونة الاتحاد العلم للفلاحين خير معين لكتابة تاريخ الفلاحين مستنداً إلى ما جمعته من وثائق وما سمعته من أفواه أربعمئة فلاح وفلاحة استمعت إلى حياتهم مدوِّناً الهام مما رواه هؤلاء الفلاحون، الذين عاشوا عهود الظلم والقهر والإستغلال من كبار الملاك، وعانوا وطأة الحكم الإقطاعي.
***
تشويه كتاب الفلاحين
بناء على اقتراحي تشكلت لجنة لقراءة مخطوط الكتاب من عدد من الشخصيات العلمية من الجامعة ومختلف الوزارات برئاسة مصطفى العايد رئيس الإتحاد. وكان إتحاد الفلاحين يطبع ما أكتبه من كل مجلد ويوزعه على لجنة القراءة. وبعد مدة تجتمع اللجنة ويبدي أعضاؤها رأيهم فيما كتبت. وكنت حريصاً بل متلهفاً لسماع ما يبديه أعضاء اللجنة من ملاحظات. وأقوم بعدها بتصحيح ما أراه مناسباً.
بعد انتهاء هذه المرحلة دفع إتحاد الفلاحين المخطوط إلى القيادة القطرية لحزب البعث لإجراء ما أُطلق عليه "القراءة السياسية". و لم يجرِ على المخطوط في تلك االقراءة إلّا تعديلات بسيطة لا تُذكر. بعدها سلّم إتحاد الفلاحين المخطوط الموافَق عليه سياسياً من القيادة القطرية إلى دار البعث، التي تولّت طباعته.
***
بعد مدة بدأت أشعر بأن أمراً خفيّاً أجهله يقف حائلاً أمام توزيع الكتاب. ومن خلال جمع المعلومات وإجراء اللقاءات بدا واضحاً لي أن "القصر" غير راض عن كتاب تاريخ الفلاحين.
كاتب هذه الأحرف لا يعلم حتى اليوم سبب منع الكتاب، ولكن يُمْكِن، حسب تقديري، سرد الأسباب والتساؤلات التالية:
• هل عدم ذكر حافظ الأسد والإطناب في مدحه والإشادة بمنجزاته، كان سبباً خفيّاً لعدم الرضى عن الكتاب؟.. مع العلم أنّ إتحاد الفلاحين نشر في أول كل نسخة صورة غطّت الصفحة لحافظ الأسد، مرفقة بإهداء من إتحاد الفلاحين إلى"الرئيس الخالد".
• هل هناك رغبة بطمس تاريخ سورية قبل 8 آذار 1963؟.. واعتبار أن التاريخ يبدأ مع "ثورة الثامن من آذار" وتحديداً بعد قيام "الحركة التصحيحية، التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد" في تشرين 1970.
ويبدو أنّ كثيراً من "ثوار" العالم الثالث، وحتى من ثوار العوالم الأخرى، ترى أن التاريخ يبدأ مع قيام "ثورتهم" وما قبلها "جاهلية" وظلام وضلال...
• هل أنّ مستشاري "القصر" غير مدركين للعلاقة الجدلية بين القديم والجديد؟.. هل أنهم يجهلون دور البورجوازية السورية في العداء للإقطاعية والتحالف معها من جهة أخرى بسبب تشابك المصالح الإقتصادية بينهما؟.. هل أنهم لا يستطيعون رؤية الدور التاريخي التقدمي لبعض شرائح البورجوازية الوطنية في حِقَب ماضية؟..
• هل أنّ الإستناد إلى جلسات المجالس النيابية بين عامي 1933 و1958؟.. هو أحد الأسباب. والقارئ سيقارن بين تلك الجلسات العامرة بالحيوية والنقاش والنقد وإصدار التشريعات وبين "مجالس الشعب" الخاوية من برلماناتها، التي قامت بعد 1970.
• هل أن ما كتبته من وقائع عن دور أكرم الحوراني "زعيم" الحركة الفلاحية في أواسط سورية لم يرض القصر.. وكان الملاحظ أثناء الجولات الميدانية أن الفلاحين العلويين كانوا أكثر الجميع تعلقاً بحركة أكرم الحوراني، وهذا ما سردته في الكتاب مع تحليل الأسباب.
• هل أن التحليل الطبقي وكشف الاستثمار الإقطاعي واستثمار الفئات البيروقراطية والطفيلية، التي أعقبت استثمار الإقطاعية القديمة لم يرض بعضهم وشعروا بأنهم مستهدفون من كونهم أخلاف الاستغلال السابق؟.. فكما جاء في كتاب تاريخ الفلاحين: إنّ كبار العساكر وكبار الموظفين وكبار رجال الدين والتجار وشيوخ العشائر نهبوا - بعد قانون الأراضي لعام 1858 ورديفه قانون تسجيل الأرض (الطابو) - الأراضي من الفلاحين وسجلوها ملكية لهم.
فالإسقاطات التاريخية في كتاب الفلاحين تبيّن للقارئ دون عناء أن "الطبقة الجديدة"، التي نشأت في الربع الأخير من القرن العشرين سارت على الطريق نفسه في التملك وخزن الأمول والاستغلال والاستثمار، الذي سلكه كبار ملاك الأرض الإقطاعيين، الذين شملهم الإصلاح الزراعي. ولم تكن التحركات الشعبية، التي اندلعت عام 2011 إلا إحتجاجاً على نهب "الطبقة الجديدة" بمختلف مذاهبها وطوائفها للمال العام. ولكن إنزلاق التحركات الشعبية نحو العسكرة والتدخلات الإقليمية والدولية حوّلت التحركات الشعبية ظاهرياً إلى "صراع مذهبي" نكتوي بناره الحارقة...
معنى ذلك أن مجلدات تاريخ الفلاحين بوقائعها الدامغة وتحليلاتها الموثّقة والمقْنِعة تُقَدِّم، حسب رأيِ، للقارئ زاداً فكرياً وتنير أمامه السبيل لفهم الحاضر من خلال أحداث الماضي. فهذا "السِفر الفلاحي"، الذي ألقى الأضواء على الصراع الإجتماعي بين من يملكون ولا يعملون وبين من يعملون ولا يملكون واضح المعالم، ويدفع بالمستغِلين من كل لون ومذهب إلى طمس كل ما يشير إلى التحرر والعدالة الإجتماعية.
***
وفي نهاية المطاف صدر الأمر بمنع تداول كتاب تاريخ الفلاحين وفرمه وتسليمه إلى معمل الورق في دير الزور لاستخدامه كعجينة لورق جديد.
هل يستسلم المؤرّخ الفلاح؟.. الذي لم يكن يبغي منصباً، ويكتفي بما قسمه الله له، وديدنه، بل همّه، كشف الإستغلال والإضطهاد. وكان يحلم بإقامة مجتمع عربي موحّد ترفرف عليه راية الحرية والمساواة...
لم يستسلم "الفلاح المؤرّخ" كاتب هذه الأسطر للمصير المُخجل، الذي حلّ بكتاب الفلاحين. فشدّ العزيمة ورفع البيرق المناهض للظلم والمنادي بحرية التفكير، وتمكّن من إحياء فصول من الكتاب المُباد في مؤلفين نُشرا في بيروت.
*******
( 3 )
من منهجية الكتاب
( 1 )
بعد هذه المقدمة العامة لسيرة حياة كتاب تاريخ الفلاحين، لا بدّ من الإشارة إلى الخط المنهجي العام المتبع في سائر المجلدات والمتمثل في المحاور الثلاثة التالية:
أ- العوامل الإقتصادية- الإجتماعية المغيَّبة في كثير من الأحيان وهي حجر الأساس لفهم ما جرى ويجري منذ ظهور الإنسان على هذه الأرض إلى يومنا هذا. وليست المسألة الطائفية ظاهرة شاذة في هذا المجال. ولنأخذ مثلا المشروع النهضوي العربي فهو في صعوده وهبوطه ارتبط بالأوضاع الإقتصادية الإجتماعية، و انساق مع العملية التاريخية التي كانت تجري في العالم، وأعني الإنتقال من عصور الإقطاعية أو ما قبلها (نظام الرق) إلى العصر، أو العصور الراسمالية المتمثلة: بالرأسمالية الثورية المناهضة للإقطاع وبورجوازيتها حاملة لواء التنوير.. إلى الراسمالية الكولونيالية فالإمبريالية وما تلاها من رأسماليات لها أوصاف كثيرة ومنها الرأسمالية البربرية وما سواها من صفات.
ب - التأثيرات التراثية، المتعددة الألوان والأشكال والمشارب، ذات الجوانب الثورية التحريضية المضيئة، والمساعدة على الانطلاق والنهضة ورفع سيوف الحرية في وجه الظالمين من جهة، وذات الجوانب المحافظة السكونية المرسِّخة للتخلف والداعية إلى الخضوع والخنوع أو الإرجاء والابتعاد عن "المشاكل". ولا يخفى أن الجذور التاريخية للمسألة الطائفية تكمن في هذا التراث، الذي هو أساساً، وفي كثير من تجلياته، رَجْعُ صدى متعدد الأمواج والأصوات للحياة الإقتصادية – الإجتماعية والفكرية والسياسية للمجتمعات العربية الإسلامية في العصور السالفة. وكلُ يفسره حسب مصالحه وأهوائه ومستوى تفكيرة.
ج - التأثيرات الخارجية، والمقصود هنا الأثر الغربي الأوروبي بشقيه: الرأسمالي والإشتراكي.
وقد حمل التأثير الرأسمالي في زحفه طابعاً مزدوجاً متناقضاً: فقد تمثل الطابع الأول بالفكر البرجوازي المُبكر المناهض للإقطاعية، والداعي إلى التحرر والتطور والانعتاق والثورة. ومن معين هذ الفكر نهل رواد النهضة العربية. أما الطابع الثاني فتمثل بالفكر الرأسمالي الإستعماري الغازي التسلطي المحتل، الذي هيمن على المنطقة في مرحلة تطور النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أربكت هذه الازدواجية للفكر الغربي (البرجوازي) رواد النهضة وأوقعتهم في حيرة، وأمام إشكالية صَعُبَ عليهم حلّها. فهم متلهفون إلى النهوض والتطور والاقتباس من الغرب واللحاق به حضارياً. ولكن هذا "الغرب" الاستعماري يزحف على بلادهم لاستغلال ثرواتها الطبيعية، وتتنافس رأسمالياته وشركاته الاحتكارية، وتتقاتل على تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها، وتقوم بامتصاص الفائض الاقتصادي وتدمير قسم من الصناعات الحرفية، دون إحلال الصناعة الآلية محلها.
من جهة ثالثة أثّر الرأسمال الأجنبي، لهذا الغرب، إيجابياً في إحداث التغيرات الإقتصادية والإجتماعية الضرورية لنشوء المجتمع الحديث. كما أن التقنيات المستوردة أسهمت في تكوين الأجيال الوطنية الأولى الضرورية للتصنيع والتغيير والإبداع. وفي الوقت نفسه أدت هيمنة الرأسمال الأجنبي على القرار الإقتصادي والسياسي، إلى تحويل الأجهزة الحاكمة إلى توابع للشركات الأجنبية، ولسفراء الدول الأجنبية. وقد أدى التكوّن النفسي (ما قبل الرأسمالي) للحكام وبطانتهم من جهة، وخضوعهم المباشر وغير المباشر للشركات الرأسمالية والإدارات الدبلوماسية الأوروبية من جهة أخرى، إلى خلق ازدواجية في الاستبداد الداخلي القوي داخلياً والهش خارجياً. فكانت حاشية السلطان أداة طيعة في يد الشركات الرأسمالية والسفارات الأوروبية تتراكض لكسب ودّها ومقاسمتها الغنائم. وفي الوقت نفسه اتصفت الحاشية السلطانية سواء في دار الخلافة أو في عواصم الولايات بالشراسة والطغيان وهي تتراكض لنهب رعايا السلطان وعصرهم. ولم يكن أمام تلك "الرعية" من طريق لتخفيف المظالم، إلا الإلتجاء إلى الطرق الصوفية والإحتماء ما أمكن بالطائفية والعشائرية.
التأثير الإشتراكي وتحديداً الأفكار الماركسية، كان لها دورها الواضح في منتصف القرن العشرين . وقد اسهمت الأفكار الماركسية في تربية أجيال من الشباب المثقف، الذين حرّضوا الفلاحين الخاضعين للنير الإقطاعي على التمرد. وجاءت قوانين الإصلاح الزراعي وما أعقبها من إصلاحات في الريف كنتيجة من نتائج التأثر بالعالم الإشتراكي في ذلك الحين، ورغبة القوى الصاعدة في تقليم أظافر "الأعيان".
*******
( 4 )
درج معظم مؤرخي ما قبل العهود الرأسمالية وعدد من مدارس التاريخ البورجوازي على الاهتمام بتاريخ حياة الملوك والسلاطين ورجال البلاط والزعماء والوجهاء معتبرين أن هؤلاء هم صانعو التاريخ ومبدعو الحضارة. ومع أن مدارس التاريخ البورجوازي المتنورة أولت اهتماماً خاصاً لتاريخ الجماهير، لكنها لم تسلط الأضواء بصورة كافية، على تاريخ الاستثمار، ووسائل استعباد مالكي أدوات الإنتاج لمبدعي الحضارة الحقيقيين.
ومن هذا المنطلق أولينا هنا – في تاريخنا للحركة الفلاحية – اهتماماً خاصاً للمنتجين الحقيقيين في الريف. وكان الاهتمام منصباً على تدوين تاريخ أولئك الفلاحين –وبخاصة الفقراء منهم- كما سمعناها من أفواههم أثناء جولاتنا لجمع بعض مصادر، بل المصدر الأول، للتاريخ الفلاحي. وأقوال الفلاحين البسطاء المنتجين تُشَكِلُ مادة أولية للباحثين في تاريخ الجماهير وقاع المجتمع المتعدد الألوان والمشارب.
ولا شك أن إغناء هذه المادة من قبل الأجيال القادمة من الباحثين من أبناء المناطق الريفية سيساعد في فهم كيفية حياة هذه الفئات الدنيا وتحركاتها وإدراك معاناتها، وبالتالي تاريخها شبه المطموس أو المحرّف.. فنادراً ما اهتم المؤرخون للأرياف العربية بحياة الفلاحين وخاصة المنتجين والفقراء منهم. وقد أتيحت لنا الفرصة أثناء جولاتنا الميدانية في عامي 1984 و 1985 أن نلتقي بعدد كبير من الفلاحين المتوسطين والفقراء، الذين اعتمدنا على معلوماتهم لكتابة تاريخ المسألة الزراعية والحركات الفلاحية في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى نهاية خمسينيات ذلك القرن. وقد اخترنا عدداً ممن التقينا بهم من هؤلاء الفلاحين، الذين تكلموا بصدق وصراحة عن حياتهم المغمّسة لقمتها بعرق العمل والجهد الشريفين. ونقلنا ما سمعناه من أفواه هؤلاء دون تحوير أو إضافة، إلّا ما تعلق بنقل اللغة العامية إلى الفصحى أو العامية المفصّحة، أو الشرح والتعليق كي يفهم القارئ الظروف المحيطة بالأحداث. كما وضعنا بين قوسين كلام الفلاح بحرفيته إذا اقتضت ضرورة المعنى ذلك للحفاظ على التعابير العامية المتداولة بين الناس وهي آيلة إلى الزوال، وبعضها قد اختفى....
المتة.. ماهيتها وأماكن انتشارها.. فوائدها وأضرارها
الدمشقيون المسيحيون رواد الفنون والصناعات الدمشقية منذ ألفي سنة
معاصر العنب في "حدتون" وصناعة الدبس
الاقتصاد السوري.. أين كان قبل عام ٢٠١١ وأين أصبح الآن؟
بنغلاديش.. قصة نجاح آخر!
الأعيان والفلاحون في "مقتبس" محمد كرد علي لعام 1910
"أرباب الوجاهة" يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية "عثمنلية" معادية للتقدم
قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
دير الزور وريفها في حديث مع نجار بيتون
حياة عامل في دباغة الجلود ومعمل البلور في دمشق
محمد الجاجة عامل نجارة الميكانيك – حمص
عبد الكريم معلوف النقابي المُتَنَوّر سياسيا في جمص
العمل النقابي في مهنتَيْ النسيج اليدوي والنسيج الآلي - حلب
من عامل مطعم في حلب إلى "قيادي نقابي"
نموذج لعامل ارتقى إلى نقابي مسؤول في عهد البعث- إدلب