كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

وضع بلاد الشام بعد انهيار الدولة العثمانيّة 1918

د. عبد الله حنا- فينكس:
لقد انتهى إلى غير رجعة في خريف عام /1918/ كابوس الحكم العثماني الاقطاعي البغيض، واحتلت الجيوش الانكليزية بالتعاون مع قوات الأمير فيصل سورية الداخلية، بينما قامت القوات الفرنسية بالرغم من احتجاجات الأمير فيصل في احتلال المنطقة الساحلية من رأس الناقورة حتى الاسكندرونة، وبدا للعيان أن وضع اتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية السرية التي نشرت نصوصها في أواخر سنة 1917 الثورة الاشتراكية المظفّرة في روسيا، دخل حيز التطبيق، حيث قسمت بلاد الشام إلى ثلاث مناطق.
لقد أيدت الأكثرية الساحقة من جماهير الأمة العربية. ولا سيما في المراحل الأخيرة من الحرب النضال المعادي للتسلط الاستبدادي العثماني بأمل التحرر والحصول على الاستقلال. ولكن القضاء على الدولة العثمانية وانتصار الحلفاء لم يؤد إلا الى استبدال النير الاقطاعي التركي بالنيرين الاستعماريين البريطاني والفرنسي. ومع هذا فإن انهيار الدولة العثمانية وزوال الحكم الاقطاعي التركي كان حدثاً تاريخياً هاماً وخطوة اجتماعية إلى الأمام. حررت قوى وطنية جبارة من الفلاحين وجماهير المدن الفقيرة المضللة بشعارات الطبقة الحاكمة التركية . لقد نشّط انهيار الدولة العثمانية الحركة الجماهيرية وأكسب حركة الاستقلال العربي صفاء وقوة لم تعهدهما من قبل، كما قلب تدريجيا ميزان القوى داخل حركة التحرر العربي لصالح الجماهير الكادحة، أي أن حركة التحرر العربي أخذت نتيجة اشتراك الجماهير النشيط فيها، تتجه رويدا نحو اليسار، في حين أخذ يمين الحركة يساوم الاستعمار أو يعقد الصفقات معه وفي كثير من الأحيان يرتمي في أحضانه مستسلما هانئا بدفء التربع على كراسي الحكم المزيّفة المحروسة بحراب جنود الاحتلال.
ولكن حركة التحرر الوطني العربية في بلاد الشام والعراق لم تصل إلى هذه النتيجة بفضل انهيار الدولة العثمانية فحسب، بل أن هنالك عوامل عديدة أثرت في مجرى تطور حركة التحرر العربي، وكان لهذه العوامل متضافرة الأثر الفعال في النمو المطرد لحركة التحرر العربية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة /1918/.
من مميزات الوضع في بلاد الشام في أعقاب الحرب العالمية الأولى:
1 – عودة الغزو الاستعماري الافرنسي، الثقافي والاقتصادي بعد أن توقف طوال أيام الحرب مدعما هذه المرة بجيوش الاحتلال.
2 – نشاط الصهيونية العالمية وازدياد محاولاتها الرامية إلى السيطرة على فلسطين العربية، وتقديم خدماتها للاستعمار البريطاني بعد أن كانت حتى وقت قريب تقوم بخدمة الاستعمار الألماني المنهار.
3 - زوال نفوذ الاستعمار الألماني في الشرق وانهيار مشاريع خط حديد برلين – بغداد.
4 – ازدياد ترسخ مواقع الاستعمار البريطاني الاقتصادية والسياسية والثقافية، وسيطرة جيوش الاحتلال البريطاني على أجزاء شاسعة من الوطن العربي امتدت من مصر حتى العراق.
5 – بدء تضارب المصالح الاستعمارية الانكليزية والافرنسية بعد زوال خطر الاستعمار الألماني ودخول الدولتين الاستعماريتين في صراع حاد أحيانا من أجل تقسيم مناطق النفوذ ولجوؤهما إلى المصالحة عندما تهدد حركة التحرر في الشرق مصالحهما أحيانا أخرى.
6 – تزايد أحلام الدبلوماسية الأميركية في السيطرة على الشرق، ولكن الاحتكارات الأميركية لم تكن بعد الحرب العالمية الأولى من القوة إلى درجة تمكنها من ازاحة نفوذ الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في الشرق أو، على الأقل، تهدد مصالحهما.
ولذلك فإن الدبلوماسية الأميركية سعت إلى كسب ود البرجوازية العربية وعقدت الآمال عليها ووثقت أحسن الصلات بها. ودلّ ذلك على قوة بصيرة الدبلوماسية الأميركية التي اكتشفت أن مستقبل ما بعد الحرب هو للبرجوازية وليس للاقطاعية حليفة الاستعمار الانكليزي.
7 – محاولة الاحتكارات الدبلوماسية الايطالية، مثل الأميركية استغلال النضال الوطني لمصلحتها، والحصول على بعض المواقع في بلاد الشام، ولكن الاحتكارات الايطالية كانت بعد الحرب الأولى ضعيفة إلى درجة لا تمكنها من منافسة الاستعمارين الافرنسي والانكليزي.
8 – أثر ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 على سير التاريخ العالمي وحركة التحرر الوطني والقومي. وبدء انهيار النظام الامبريالي العالمي. وبالرغم من انتصار الاستعمارين الانكليزي والفرنسي في الحرب. ومع أن الاتحاد السوفياتي كان في الفترة الأولى التي أعقبت الحرب منهمكا في مشكلاته الداخلية وفي دحر الثورة المضادة ورد غزوات المعتدين الامبرياليين الهادفين للقضاء على أول دولة اشتراكية أقامها العمال والفلاحون، فإن تأثير الاتحاد السوفياتي في بلادنا ظهر في ذلك الوقت بشكل جلي عن طريق نشره للاتفاقية السرية الاستعمارية وعلى رأسها اتفاقية سايكس – بيكو . لكن الاتحاد السوفياتي لم يكن بإمكانه في ذلك الوقت تقديم المعونة المادية إلى حركة التحرر العربية أو ارسال السلاح إلى فصائلها المقاتلة.
هذه هي أهم الظروف الدولية التي أثرت في مجرى تطور الحركة العربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولكن ثمة ظروفا داخلية كان لها في الواقع التأثير الحاسم في بعث وانطلاق الحركة الوطنية والقومية وبلورة مطالبها وأهدافها المختلفة.
فقد عاشت الحركة الوطنية العربية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في ظروف جديدة كل الجدة وبدأت تعيش في مرحلة جديدة أيضا. فقد كان الهدف الأول والشاغل الرئيسي للحركة الوطنية قبل عام /1918/ النضال ضد الحكم العثماني والظفر بالحكم اللامركزي أو الحصول على الاستقلال التام بينما أصبح هدف الحركة الوطنية العربية بعد الحرب طرد المستعمرين الغزاة وتأسيس دولة وطنية مستقلة.

كما كانت الدعوة إلى توحيد بعض أجزاء الوطن العربي (الذي ازداد تجزؤه بعد الحرب) في مقدمة مطالب الحركة الوطنية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى.