كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

برمانة المشايخ.. تاريخ من نور وريحان ووجوه بأفعالها تصافح الأبد

فينكس- أُبي حسن- خاص

يقول الرجل الخمسيني "علي مرهج" من أهالي إحدى قرى محافظة طرطوس: عندما كنت صغيراً، كانت جدتي تستصحبنا لزيارة أضرحة الأولياء في بلدة الشيخ بدر، ومن هناك نكمل طريقنا، عبر الميكروباص، إلى قرية برمانة المشايخ حيث نزور أضرحة أوليائها لاعتقاد جدتي أن الزيارة لا تكتمل دون التبرك بها، ومن أضرحة أولئك الأولياء الشيخ أحمد بعدري، ثم تشير لنا جدتي إلى قبتين في الأفق هما للشيخ ابراهيم حسن وشقيقه وينبغي علينا أن نختم زيارتنا بهما بعد أن نذهب إليهما سيراً على الأقدام، وكانت هذه الزيارات بمثابة عرف تقوم به جدتي أوائل أو آواخر كل صيف، وطبعاً كانت تأخذنا معها كي ننال بركة وحسنة نحتسبها عند الله.

حقيقة لم يبالغ السيد علي مرهج، ولا جدته المؤمنة بفطرتها، من خلال اعتقادها أن الزيارات غير تامة مالم تقم بزيارة مقامات برمانة المشايخ، فلهذه البلدة، إضافة لبلدتي بيت الشيخ يونس في قضاء صافيتا وحمينأ محمود يونس في قضاء الدريكيش مكانة رمزية روحية سامية لدى غالبية سكان الساحل السوري، كون هاتيك البلدات أنجبت -تاريخياً- العديد من الرجال المشهود لهم بالصلاح والورع والتقوى بما فيها من سلامة الدين وسمو في العقيدة ونبل في الإنسانية، لدرجة باتت هذي البلدات والقرى محطات لاغنى عنها لطلاب الغذاء الروحي. فمن الأفذاذ الذين أنجبتهم بيت الشيخ يونس وجوارها: الشيخ محمد عبد الرحمن أفندي، والشيخ إبراهيم مرهج، والشيخ إبراهيم عبد اللطيف وابنه الشيخ عبد اللطيف إبراهيم.. الخ، فيما أنجبت حمين (وجوارها) الشيخ علي الملاجة والشيخ عبد الكريم عمران والشيخ عبد الكريم محمد.. الخ، أما برمانة فقد لمع فيها الشيخ حسن عمار وأولاده، والشيخ خليل الخطيب، والشيخ إبراهيم حسن.. الخ.

قرية برمانة المشايخ -وإحدى معانيها بر الأمان- تبعد عن طرطوس نحو الشرق، قرابة 46 كيلو متراً، قال فيها الشاعر الكبير الراحل سليمان العيسى، أغنية، غناها مؤخراً الفنان سليمان العيسىوليم عاقل، مطلعها:

ع برمانة لاقيلي كنك ضجران   عاربوتها الجميلة عشلك يومان

عا ربوتها الـ بالضهر ساعة بشهر     بتتذكّر طول العمر هاك الزمان

وذلك على خلفية زيارته إليها بمعية صديقه ورفيقه المحامي محمد على حسن بن برمانة، والذي سبق أن كان رئيساً لمحكمة النقض.

تاريخ القرية التي ترتفع عن سطح البحر761 م (وفي بعض المناطق السكنية الجديدة تصل 800 متر) وتتوسد سفح الجبل، وتنحدر أراضيها على واديي الشلقة شمالاً والعيار جنوباً، موغل في القدم، شأنها شأن غالبية القرى والبلدات السورية التي عرفت الحضارات القديمة خاصة الفينيقية، حيث فيها مواقع أثرية من قبيل دير الراهب الذي اكتشفت فيه مدافن قديمة جداً، بيد أن سكانها الحاليين، هم في غالبيتهم الساحقة إن لم يكونوا جميعهم، من أحفاد الشيخ الكبير عيسى البانياسي من أعلام المسلمين العلويين في القرن الخامس الهجري، فيما يعود تاريخها المتأخر لعام 1683م حين قصدها الشيخ نجم الدين أحمد البسطويري هرباً من بطش وظلم العثمانيين، وكان هو أوّل من سكنها وفق ماتذكر الأديبة محاسن أحمد حسن..

عرفت برمانة المشايخ حركة التعليم، في وقت مبكر نسبياً، على خلاف الكثير من قرى جبال الساحل السوري، وقد تكون أوّل مدرسة خاصة تأسست فيها، هي التي أسسها الشيخ صالح العلي والشيخ حسين حرفوش المقرمدة عام 1915، ولاحقاً ستعرف القرية أكثر من مدرسة خاصة منها تلك التي درّس فيها البعثي الأردني مجلي نصراوين آواخر خمسينات القرن الماضي (مطلع ستيناته) ولمدة ثلاث سنوات، وكان اسمها مدرسة هاني بن مسعود الشيباني التي أسسها المرحوم أحمد سلمان (أبو معن) فيما أشرف عليها من قبل حزب البعث المرحوم أحمد حرفوش (أبو وائل)، ولم يكن نصراوين هو الأردني الوحيد الذي زاول التعليم في برمانة المشايخ، إذ ثمة زميل آخر له وقد كان بعثياً أردنياً أيضاً علّم في برمانة. كما وجدت في برمانة مدرسة عمار بن ياسر التي تأسست أوائل خمسينات القرن الماضي وكان ترخيصها للمحامي محمد حسن العلي (من برمانة)، فيما أدارها المحامي والنهضوي المعروف محمود يونس (بريصين)، ولم يكن قد صار محامياً بعد..

تصافح برمانة المشايخ زائرها بالبانوراما الحجرية وهي عبارة عن لوحة محفورة في الصخر أقيمت تخليدا لذكرى الشيخ المجاهد خليل الخطيب أحد رفاق المجاهد الشيخ صالح العلي في ثورته ضد الاحتلال الفرنسي، حيث أنشئت البانوراما على جرف صخري يسمى قلع النحلات تبلغ مساحته 200 متر مربع، بينما يصل طول المنحوتة إلى 35 متراً وارتفاعها خمسة أمتار، يتوسطها وجه الشيخ الخطيب بمنحوتة أبعادها أكثر من خمسة أمتار وبارتفاع 3 أمتار ليكون أضخم تمثال لوجه منحوت، على الإطلاق، في سورية.

حققت برمانة المشايخ حضوراً لافتاً فيما سبق بجهود ووجود العديد من وجوه الفضل والخير فيها من قبيل الشيخ إبراهيم حسن صاحب الكرامات والملم بالطب العربي والتداوي بالأعشاب، وقد حدثتني عجوز من قرية ضهر مطر (اسمها وهيبة -أم عدنان- توفاها الله قبل نحو عشر سنوات، وكان عمرها يناهز التسعين عاماً) أن حبة كبيرة أصابتها في وجهها فشوهته (قد تكون مايعرف بالحبة الحلبية) وهي في فتوتها، ولعجز أهلها عن مداوتها لدى الأطباء (على ندرتهم هاتيك الزمن، وهو أوائل أربعينات القرن الماضي) قصدت الشيخ إبراهيم علي حسن في برمانة، وأقامت عند عائلته أكثر من عام تأكل مما يأكلون وتشرب مما يشربون، كان يداويها طوال ذلك العام بالأعشاب ويدعو لها بالشفاء إلى أن شفيت، وكانت "وهيبة" التي كان وجهها نضراً ولا أثر لأي مرض سابق فيه تتحدث عن الشيخ ابراهيم وأسرته بإجلال كبير معتبرة إياهم أهلها، ومن باب الوفاء كانت تزورهم كل عام آخذة معها ما تقدر عليه -لا لحاجتهم- بل لتعبيرها هي عن مدى محبتها لمن تعتبرهم أهلها بحق، وعندما كانت تتحدث عن أبناء الشيخ كانت تقول بلهجة مفعمة بالصدق أخي فلان. أنجب الشيخ إبراهيم عائلة تعتبر سابقاً والآن قدوة في الأدب والتعليم والأخلاق، ومن أحفاده الشيخحامد حسن رجل اعمال الفاضل المثنى حسن ونجله حامد حسن الذي طبقت أفعاله الخيرة آفاق محافظة طرطوس.

كما أنجبت (برمانة) المجاهد الشيخ خليل الخطيب (بطل البانوراما الحجرية) المولود عام 1876 الذي كان عضواً في جمعية "الاتحاد والترقي[1]" التي ضمت كوكبة من مثقفي وسياسي بلاد الشام بغية العمل على التخلص من الحكم العثماني المريض، وهذه المعلومة تذكرها أيضاً الأديبة محاسن أحمد حسن في كتابها "برمانة المشايخ أصالة ومعاصرة"، ومعروف أن الشيخ خليل شغل منصب القاضي في ثورة الشيخ صالح العلي، إذ كان له خبرة في القضاء، فقد سبق أن شكّل بمعية الشيخ حسين حرفوش المقرمدة وحسن علي وحسن عماد وإبراهيم علي محكمة شعبية لفض النزاعات التي قد تحدث بين الأهالي.!

كما أنجبت المجاهد الشيخ حسن عمار (تولد 1842م)، الذي مدحه الكثير من كبار عصره وفي مقدمتهم الشيخ علي سلمان المريقب، وهو والد الشيخين الجليلين أحمد حسن عمار الذي عاش قرابة المائة وعشر سنوات والشيخ عبد الحميد عمار الذي هاجر مبكراً -قبل أو بعد سفر برلك بقليل- الى الارجنتين وأسس أسرة كريمة هناك ومايزال نجله الشيخ محسن عمار هو شيخ الطائفة الإسلامية العلوية في بيونس آيرس، فيما شقيقه الشيخ أحمد حسن عمار برمانة المشايخالمرحوم الأديب الأستاذ حسن عمار فقد كان موظفاً في السفارة الأرجنتينية في الكويت، كما وضع كتاباً عن المغتربين السوريين في الأرجنتين وبدايات ذلك الاغتراب الذي يعود لعام 1898م.

يذكر الشيخ المهاجر (علي حبيب اسمندر) الشيخ أحمد حسن عمار في إحدى قصائده على خلفية زيارة قام بها إليه في صيف 1985 ذاكراً مدى تأثره به وبمكارم أخلاقه، وقد حدّثني الشيخ المهاجر شخصياً في صيف 2017 عن الأثر الكبير الذي تركه الشيخ أحمد حسن عمار في نفسه.

أما من وجوه برمانة المشايخ راهناً، فهم أبناء المثنى، الذين لم يعملوا فقط على صون إرث الأجداد بل قاموا بتطوير ذلك الإرث المشرّف وعملوا على الارتقاء به أكثر، ويتجلى ذلك من خلال أعمالهم المبرورة التي تتحدث عن نفسها، فمن إنارتهم لقريتهم بالطاقة البديلة الى إشادتهم لمصنع ألبسة يُشغّل زوجات الشهداء والجرحى والفقراء، ناهيك عما يقدمونه من مساعدات عينية للمحتاجين والفقراء ومساهماتهم النقدية لطلبة الجامعات على امتداد محافظة طرطوس وإيفادهم للطلبة بغية إكمال التحصيل العلمي خارج القطر وعلى نفقتهم الخاصة، وصولاً لمساهمتهم في التقليل من أزمة المواصلات إلى ما لايعدّ ولايحصى من أعمال الخير.

ماذكرناه، عن بعض الوجوه المشرقة والمشرّفة في برمانة -ومعناها في اللغة السريانية "بيت الإله السامي" أو "البيت العالي"- وهي وجوه خطت تاريخها بأحرف من نور فصافحت الأبد، هو غيض من فيض خير عرفته برمانة المشايخ عبر تاريخها، ولاشك هي وجوه تعمل بهدى قول الله عزّ وجلّ: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (التوبة- 105)، وتقتدي بالحديث النبوي الشريف: "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله".

[1] لعل المقصود هو جمعية "العربية الفتاة" التي تأسست بواكيرها عام 1909 واستمرت حتى عام 1920م، فالمعروف أنها كانت تدعو للتعريب وإلى استقلال العرب، فيما "الاتحاد والترقي" كانت تدعو للتتريك ولتكريس العنصر التركي ولايمكن للشيخ خليل الخطيب الانتساب إلى جمعية تدعو للتتريك، عدا أن الأخيرة (الاتحاد والترقي) انحلت عام 1917، وكما تذكر الباحثة محاسن حسن أن الشيخ خليل الخطيب انتسب إليها عام 1920م، أي بعد انحلالها بثلاث سنوات! لذا الأقرب للصواب، ولأسباب وطنية وتاريخية وثقافية، أن انتسابه كان لجمعية العربية الفتاة.