كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

نظرة في كتاب "الديارات النصرانية في الاسلام"

إلياس بولاد- فينكس

للبحاثة القدير والمدقق الاستاذ المرحوم حبيب زيات الدمشقي.
أحببت أن ألقي الضوء على كتاب مهم جدا. طبعته المكتبة الكاثوليكية ببيروت للآباء اليسوعيين في عام 1940 م، وأعادت تصويره المكتبة البولسية بلبنان في آوائل التسعينات من القرن العشرين..
القليل يعرف عن الأديار النصرانية في مشرقنا إن في العراق أو بلاد الشام، وإن سمع بدير للرهبان لا يعرف كيف كانت أقسامه. وقليلة كانت معلوماتنا عن هذه الأديار، عدا عدد قليل مشهور منها الى أن أتحفنا الأستاذ المرحوم الزيات بكتابه هذا، وأمدنا بمعلومات كانت خافية عنا لقلة من بحث بها. ومن جهة أخرى وثّق لنا عشرات منها بعضها اندثر لأسباب يكتأفها الغموض منها بمدينة دمشق أو بغوطتها أو بسوريا والموصل و العراق... وبعضها لا يزال يتحدى الزمن والأيام.. وبعضها طالته منذ عشر سنوات أيدي الارهابيين تدميرا ونهبا!؟
والناحية المهمة الأخرى التي بيّنها الأستاذ زيات الحياة في تلك الأديار. وعلاقة بعضها بالخلفاء والملوك وأعيان البلاد وزيارتهم وحتى إقامتهم بها مع عائلاتهم. وهذا جديد لم نسمعه من المؤرخين وخصوصا المسلمين.. وبفضل أبحاثه كشفه لنا.. ومن هنا أهمية الكتاب الذي أضأت على أغلب محتوياته، أملا أن ينال اعجابكم، ويغني معرفتكم بدور النصارى في الحضارة الاسلامية. وللأسف هذه الناحية معتم عليها!؟ ومن المفيد ان يطلع عليها المسلمون والمسيحيون معا.. ويعملوا على إبرازها، وخصوصا في أيامنا هذه.
قام البحاثة الأستاذ المرحوم حبيب زيات بدراسة جزيلة الفائدة، جمع فيها معظم، إن لم يكن كل ما قاله شعراء وأدباء الاسلام، في الديورة التي اشتهرت في عصرهم، وحتى القرن الرابع عشر الميلادي. فبعد أن أورد ما جاء في كتب الأقدمين من تفسير لفظات: (دير، ديراني، ديار، ديرية، ديرانية) ذاكرا شروح، "لسان العرب"، "أساس البلاغة"، "مسالك الأبصار"، وغيرها. رغب أن يصف تخطيط الأديار وتقدير أبنيتها وزينتها، ولكنه عثر بالاقتضاب الذي كان رائدا مؤلفي ذلك العهد في مثل هذه الأمور، فقال: "فلا نعرف عنها (الديورة) سوى انها كانت تشتمل فيما عدا الكنيسة والهياكل، على القلالي وبيوت المائدة والمخادع والحانات. ولا شك في أن رسومها وخططها كانت تختلف باختلاف السكان والأمصار".
البيع والقلالي .
----------------
وأما من حيث نفاسة البناء وأحكام صنعه، وبلوغ النهاية في الزينة فلم يعلم من كل ذلك شيء معين سوى أن أهل المنذر بالحيرة وغسان بالشام وبني حارث بن كعب بنجران كانوا يتبارون في تزيين البيع عندهم، حتى أنهم كانوا يجعلون في حيطانها الفسافس وفي سقوفها الذهب والصور، وأن النعمان بن المنذر ملك الحيرة لما بنى دير هند الصغرى.
"علق في هيكله 500 قنديل من ذهب وفضة". وكانت أدهانها في أعياده من زنبق وبان وما شاكلها من الأدهان. ويوقد فيه من العود الهندي والعنبر شيء يجل الوصف". ثم انتقل الاستاذ الزيات الى شرح معنى: "القلالي". وإلى شكل بنائها. وخص فيها بالذكر القلاية التي بدير مران (بتشديد الراء) بدمشق، ومكانها (على أحد قمم جبل قاسيون)، والتي رآها: أبو فرج السقا. ورأى بصحنها: "بيتا فضي الحيطان ورخامي الأركان على أرضه خيش مفروش بحصير مستعمل"
المناسك وديورة النساء.
--------------------------
وللنسوة المتبتلات والراهبات ديورة خاصة. ذكر الأستاذ الزيات 19 منها .بالأماكن التالية:
عكبرا، والموصل، وبغداد، والحيرة، والرقة، وجوار حلب، ودمشق، وطرابلس ومصر..
الخلفاء المسلمون؛ في ضيافة الأديار.
------------------------------------------
كان فرض على ديارات النصارى أن تفتح أبوابها لضيافة المسلمين!؟ فكان الخلفاء والملوك والامراء ووجوه الدولة. يؤثرون بعضها فينزلونها، فمن أقدمهم ذكرا، دير مرّان (بتشديدالراء) بدمشق الذي اتخذه يزيد بن معاوية وطنا له .ومتنزها، وكذلك دير صليبا بدمشق أيضا وكان مقابل باب الفراديس (لم يعد لهما أثر حالياً (لأسباب لاتزال مجهولة)!؟ فكثيراً ما كان الوليد بن يزيد يقيم به ومعه حرمه.. كما انه أقام أياما بدير (يونا) بتشديد الواو، أي حنا بجانب غوطة دمشق. (عشرات الديورة بغوطة دمشق الشرقية والغربية اندثرت ولم يعد لها أثر اللهم إلّا اسمها!؟ (ولا نعلم الأسباب!؟)..
وهناك ديورة أخرى كدير السوسي على شاطيء دجلة. ودير عبدون. وغيرها.. فإن الخلفاء والأمراء ورجال الدولة، كانوا يرتاحون الى النزول بها في أسفارهم وتنقلاتهم...
عناية الرهبان بالزراعة ببعض الديورة
--------------------------------------------
وأما الرهبان فإنهم كانوا بعد فراغهم من صلواتهم وعباداتهم يعتنون بمزروعاتهم وبساتينهم وكرومهم ورياضهم وخلايا نحلهم. وقد امتازت بعض الأديار بعنبها وخمرها وأثمارها وزيتونها وزيتها ورياحينها وزعفرانها وبقولها وعسلها. وقد أفرد المؤلف المرحوم الزيات فصلا مسهبا لخمر النصرانية، وفصلين للتحايا والزعفران، والتحية كانت أكثر ما تطلق على الأزهار والرياحين التي كانت رائجة آنئذ سوقها، لما كان يحيا بها الندماء وتزين بها مجالس الشراب.
ولما تأذى الرهبان من مخالطة بعض الضيوف، نظرا الى مجونهم وعربدتهم وافراطهم في احتساء الخمر التي كانوا يقصدون الأديار من أجلها!.. فقد عمد الرهبان الى إقامة دور تكون بمنأى عن مساكنهم، حيث ذكر الزيات سبعة من الديورة التي نص على وجود بيوت للضيافة فيها، مستشهدا بما كتبه المؤرخون أو أنشده الشعراء في كل منها..
وقد وجدنا في باب النواقيس والأجراس في الأديار والكنائس معلومات طريفة، فبعدما ذكر المؤلف الزيات ما قاله: "القلقشندي" من أن: "إذا أراد النصارى الصلاة ضربوا بالناقوس. وهو خشبة مستطيلة نحو ذراع يضرب عليها بخشبة لطيفة، فيجتمعون" (للصلاة)، وما فسره "لسان العرب" من أن الناقوس مضراب للنصارى الذي يضربونه للصلاة، ولضرب النواقيس أساليب وتفانين، لذلك يقول المؤلف: "وكان الغالب فيه الضرب المقطع المكرر، كصوت وقع حوافر الخيل في عدو الخبب، ولذلك سمى العروضييون بحر الخبب من أوزان العروض"، "دق الناقوس". عند سكون ثاني جزء فيه. أي بتسكين عين "فعلن".
وكان بعضهم يطربون بصوت النواقيس، فيشربون على ضربها! وأكثر ما كان الرهبان يقرعونه في الصباح والمساء عند أوقات الصلاة.
فأبو عبيدة بن الجراح اشترط على أهل الشام، ألّا يقرعوا نواقيسهم قبل آذان المسلمين ولا في أوقات آذانهم، وفي دولة المماليك بمصر نهت المراسيم السلطانية عن ضرب النواقيس مطلقا.
وذكر الأستاذ الزيات أن استبدال النواقيس بالأجراس في لبنان. وأورد ما قاله الدويهي في هذا الشأن، وهو أن في سنة 1112م قرعوا نواقيس النحاس عوض الخشب في لبنان. وأما في القسطنطينية، فإن استعمال الأجراس أدرجه فيها الصليبيون.
النذور
-------
إن معظم الديورة في ذلك العصر، سواء بالعراق أو الجزيرة أو مصر أو الشام .كان يؤتى إليها بالنذور، فيرتفق منها الرهبان. وقد ذكر من ما ذكر من هذا القبيل: دير سيدة صيدنايا الذي قال العمري بشأنه: "إنه كان له مغلات واسعة .وتأتيه نذور وافرة.
أديار الاستشفاء
--------------------
ثم تكلم الأستاذ الزيات بشيء من الإسهاب عن دير هرقل بالشام (وهذا الدير أيضا اندثر!؟ (ولا نعرف مكانه وأسباب اندثاره أم أنه تحوّل الى معلم آخر!؟)، وهذا الدير كان يستشفى فيه من الجنون. وهو الدير الذي يقال له أيضاً دير حزقيال. وسرد بعض الأخبار والنكت التي وردت بشأنه في كتب الأدب والديارات.... وهناك أديار أخرى كانوا يقصدون إليها للاستشفاء، كدير ميماس في أنحاء حمص، ودير يونس في الجانب الشرقي من الموصل، وغيرها.
وهنالك معلومات وافرة وقيمة من الوجهة التاريخية لا يتسع المقام لذكرها كلها. إن هذا المؤلف مع صغره كبير في مغزاه. جزيل الفائدة بمحتوياته. وقد تحمل الأستاذ البحاثة حبيب زيات في تأليفه مشقات كثيرة ونفقات طائلة، فلكي يتسنى له أن يكتب ما كتب، فقد بحث بحثاً دقيقاً في 79 كتاباً مطبوعاً من كتب الأقدمين، و49 مخطوطاً، واستشهد بأبيات وقصائد لـ96 شاعراً. وتلك المخطوطات القديمة محفوظ بعضها في المكتبة الظاهرية بدمشق، والبعض الآخر متوزع على دور الكتب في باريز ولندن وبرلين وليدن والفاتيكان ومصر. ولا يخفى ما يتطلب من المشقات والنفقات والسفر الى تلك المدن والإقامة فيها الوقت الكافي لدرس المخطوط أو المخطوطات التي في خزائنها على ان مؤلف:
"الديارات النصرانية في الإسلام"، لم يبال بالصعوبات التي اعترضت له، وتحمل كل التضحيات في سبيل ذلك حباً للعلم وخدمة للتاريخ.
فاستحق كل شكر وإعجاب...