كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ابن خلدون ونشوء الدولة

مروان حبش- فينكس

ابن خلدون (1332- 1406م)، عالم اجتماعي(1)، وفيلسوف، ومؤرخ اشتهر في دراساته الاجتماعية العلمية التي عرض من خلالها حقيقة المجتمع الإنساني وعلاقتها بتكوين الجماعة والنظام الاجتماعي. ودرس العلاقة المتبادلة ببن الفرد والمجتمع ونمو وحركة وتطور المجتمع وحدد قوانين التحول والديناميكية الاجتماعية التي تحكم مسيرته التاريخية، كما درس الثبات والسكون فيه خلال فترة زمنية معينة والعوامل التي تؤثر فيها. أي أنه كان يدرس الظواهر الاجتماعية في حالة استقرارها وفي مظاهر تطورها والقوانين التي تخضع لها في هذا التطور.
ومن خلال دراسته لفلسفة التاريخ استطاع استخلاص قانون يحكم حركة المجتمعات وهو قانون الأطوار الثلاثة، فالمجتمع البشري لا بد أن يمرَّ في طور النشأة والتكوين ثم يمرُّ في طور النضج والاكتمال وأخيراً يشهد طور الهرم والشيخوخة حيث يقوم على أنقاضه مجتمع آخر يسير في نفس المراحل المذكورة. وبرأيه أن الحركة الاجتماعية في دورة مستمرة وتؤدي وظيفتها بشكل آلي دون انقطاع أو توقف.
في مقدمته، أطلق ابن خلدون على علم الاجتماع اسم علم العمران البشري الذي يدرس ما استطاع الإنسان إنجازه في البيئة الحضرية من معالم المدنية والتراث الحضاري وباقي الفنون الحياتية التي طورت المجتمع ونمَّته في ضروب ومجالات مختلفة، وانطلق من نظام الفلسفة التاريخية الذي اعتمده بأن المجتمعات أنواعٌ مختلفة تبعاً لدرجة تقدمها الحضاري والمادي. وتوصل إلى نظريات حول قوانين العمران، ونظرية العصبية، ويناء الدولة.
حاول ابن خلدون أن يحلل الضرورة الاجتماعية ويكشف عن الدعائم التي تقوم عليها. فيقول: (إن الاجتماع الإنساني ضروري لأن الإنسان مدني بطبعه، وإن عدم كفاية الفرد لنفسه يدفعه إلى التعاون والاشتراك في حياة الجماعة ومن ثم ينشأ التضامن الذي يعتبر أقوى الدعائم التي يقوم عليها المجتمع). والتضامن عنده قد يكون اقتصادياً وثقافياً وعائلياً وسياسياً. وفي حالة التضامن السياسي، أي دخول الأفراد في علاقات تعاونية تستهدف إدارة أمور المجتمع والسيطرة عليه والعمل من أجل تحقيق أهدافه وطموحاته وإن الدولة تظهر من هذا التضامن.
تحتل الدولة عند ابن خلدون مكاناً هاماً ومتميزاً في فكره وكتاباته، ويقول ساطع الحصري (إن الدولة من المواضيع التي اعتنى بها ابن خلدون ببحثها اعتناءً كبيراً. ويؤكد المستشرق الانجليزي هاملتون جب على الأصالة الحق في مقدمة ابن خلدون، و(توجد في تحليله المسهب الموضوعي للعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تفعل فعلها في تكوين الوحدات السياسية وفي تطوير الدولة). ويرى الدكتور طه حسين في أطروحته حول "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" (بأن الدولة كانت محوراً للفلسفة الخلدونية، وأنه بتكريسه أجزاء مطولة من مقدمته لدراسة موضوع الدولة فإنه أدخل بذلك هذا التعبير في اللغة السياسية العربية بشكل واسع).
إن كلمة "دولة" تتكرر مرات كثيرة في المقدمة إلا أن ابن خلدون لا يعطي تعريفاً محدداً وواحداً لها، فتارة يستعملها كمرادف للملك، وتارة أخرى كمرادف للسلطان. ولا يغفل في معرض طرحه للدولة، الحديث عن عناصرها الأساسية: الشعب، الإقليم، السلطة. وإن كان لم يهتم في القسم الأكبر من مقدمته إلا بتلك العصبية المنشأة للدولة بشكل خاص الأمر الذي دفع الجغرافي الفرنسي "إيف لاكوست" في كتابه "العلامة ابن خلدون" إلى القول: (بأن ابن خلدون حينما يذكر الشعب أو السكان ينبغي أن نفهم من ذلك أنه يعني غالباً القبيلة القائدة). ولكن ابن خلدون الذي يؤكد على أن (السلطان لا بد له من الاستعانة بأبناء جنسه)، فإنه يعني كل الجماعة التي تعيش في ظل حكم هذا السلطان باختلاف انتماءاتها القبلية وعصبياتها.
يقول دارسو ابن خلدون بأنه "مؤرخ في غمار السياسة"، له أدواته الفكرية المعتمدة في تحليل ظواهر المجتمع ودراسة التاريخ، فمن تجاربه الخاصة في إطار القبيلة، وفي حياة مجتمعه المغربي، انطلق لدراسة الدولة، محتضناً كوكبة من الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مركزاً على تحليل أصل نشوء الدولة وقوانين تطورها وتدهورها. ونشأة الدولة عند ابن خلدون، كما حاول تفسيرها بعض المهتمين ووضعوا نظريات لذلك بينها النظرية التاريخية، ونظرية التطور الاجتماعي ونظرية المجتمع الحضري "أي أن الدولة تنشأ في التجمع السكاني لأفراد في مكان ثابت. ونظرية القوة والغلبة التي تؤكد على أن الدولة نشأت نتيجة للعنف والقوة، وأنها أداة تستخدم داخل المجتمع للردع، وخارج المجتمع لفرض هيبة الدولة وحماية حدودها، والدفاع عنها.
إن الدولة عند ابن خلدون هي (الملك التام) الذي لا يكون فوقه حكم آخر، وهي الامتداد المكاني والزماني لحكم عصبية ما، وتقوم العصبية على الدين أو الولاء أو القومية أو الفكر المشترك أو ما إلى ذلك من مشتركات تصلح لنشوء الدول. وعنده أن منشأ الدولة هو المجتمع، وهي لا توجد دون حكم سياسي، ولا يوجد حكم سياسي دون دولة، وبالتالي فإن الدولة والسياسة مترابطتان. تقوم الدولة الخلدونية على جدلية التناقض بين الحاجة واللا قدرة فحاجة الإنسان إلى الغذاء تتناقض مع عدم قدرته على توفيره بمفرده. والدولة، حسب اعتقاده من أقوى مظاهر التعاون الاجتماعي وأكثرها أهمية وخطورة في تحديد معالم المجتمع وصورته السياسية. وفي رأيه إن الدولة شيء طبيعي كالمجتمع وتبعاً لذلك فهي تخضع لقوانين عامة، مثلها في ذلك مثل الظواهر الفردية وظواهر الحياة في الكائنات الحيَّة. ولذلك يبذل قصارى جهده في تفسير مبادئها وتحليل وظائفها والكشف عن العوامل التي تؤثر في نشأتها واستقرارها وتطورها.
والدولة عند ابن خلدون الدولة هي"كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية، وهي أيضاً وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا بها". وعنده إن كل دولة تبقى مؤسسة دائمة التعرض للتبدل والتغيير، وتنتقل في أطوار خمسة، وهم: طور الظفر بالبغية، وطور الانفراد بالمجد، وطور الفراغ والدعة، وطور القنوع والمسالمة، وطور الاسراف والتبذير وهو طور سقوط الدول، ويرى أن الدولة لا تقوم إلا على أساسين، أولهما العصبية أي "الجند"، وثانيهما المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. كما حدد عمر الدولة بثلاثة أجيال أي ما يقارب مائة وعشرين سنة، وعنده "أنها لا تعدو في الغالب هذا العمر، إلا إنْ عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-وهذا ما لا يراه طه حسين، ويقول في أطروحته فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: إن ابن خلدون درس المجتمع من أجل أن يشرح التاريخ. ويجب لأن يوصف الاجتماع بأنه علم أن يكون مستقلاً، وواجب الاجتماعي أن يلاحظ المجتمع وأن يفهمه في ذاته مستقلاً عن علاقاته بالزمن).