كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من حوادث دمشق اليومية للحلاق البديري

وثّقها د. عبد الله حنا- فينكس

إن من يقرأ كتاب حوادث دمشق 1154-1175هـ، 1741-1762م للشيخ أحمد البديري الحلاق (15) يرى فيه صوراً حية للحياة في تلك الحقبة، وللصراع بين الفئات الاجتماعية المختلفة. وبما أن البديري كان من العامة فإنه اهتم بتسجيل حياتها من منظار مفاهيم ذلك العصر دون أن يدخل في التفاصيل، لأن الحوادث الأخرى شغلته أيضاً.
لقد دوّن البديري ما جرى في دمشق وحدها: من تولي الباشوات وكبار أصحاب المناصب وعزلهم ومصادرة أموالهم كالمتسلم والدفتردار والقاضي والمفتي وأغوات العسكر، وأنباء الحج في طلوعه وعودته وما جرى له في الطريق. وفتن الأجناد، ونهوض الأسعار واضطراب الأمن، وفساد الأخلاق وانتشار الأمراض وغزو الجراد ووفاة عالم أو متصوف أو نقيب حرفة وحدوث ظواهر طبيعية من ريح شديدة وكسوف وخسوف وزلازل.
ان ما يهم بحثنا من تاريخ البديري في منتصف القرن الثامن عشر هو الأمور التالية:
1 – ارتفاع الأسعار
2 – تحركات العامة
3 – استثمار الطبقة الحاكمة للفلاحين
1 – ارتفاع أثمان المواد الغذائية من خبز وكعك وعسل ولحم وسمن وجبن، ومواد الوقود من فحم وحطب شغلت حيزاً بارزاً من كتاب البديري. وكان المؤلف يسجل أثمان الحاجيات سنوياً معتبراً أن ارتفاع أثمانها أو انخفاضها مقياس عدالة الحكم أو فساده. فهو الغلاء إلى جشع الحاكمين وتكالبهم على تخزين المؤن و إهمال القاضي التفتيش على الأسواق و إنقاص الحكومة قيمة العملة.
وسننقل فيما يلي مقتطفات مما كتبه البديري في مجال الأسعار:
...غير أن الغلاء لم يفارق الشام، فقد دخلت هذه السنة (1750م) ورطل الخبز بخمسة وبستة مصاري، ورطل الأرز بعشرة مصاري، ورطل اللحم بثمانية وعشرين مصرية ورطل الدبس بتسع مصاري وأوقية السمن بستة مصاري والعملة مغشوشة، والفلوس غير منقوشة، والنساء باحت والرجال ساحت، والحدود طاحت.
وبعد مجيء الحاج أسعد باشا (العظم) من الحج الشريف سنة (1750م) وجد داره قد تمت عمارتها. فلما دخلها زاد فرحاً وابتهاجاً وسروراً، فذبح الذبايح وأعطى المنائح، وأقام بها بلذة عيش.. غير أن أهل الشام في أكدار من غلاء الأسعار، وبخل التجار وانفساد الأحرار وضعف الصغار وعدم رحمة الكبار والحكم لله الواحد القهار. فلقد صار رطل اللحم... و... والناس في أسوأ الأحوال.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة وألف (الموافقة لعام 1751م) نهار السبت فاستبشر الناس بقدومها. حيث ليلة الهلة هطل مطر غزير وفرحوا وزرعوا وفلحوا، وبدأت ترخص الأسعار غير أنه ما فيه من يفتش على الخلق بالرحمة...، وانظر غلاء الأسعار: فقد أقبلت هذه السنة بخيراتها وبركاتها، ورطل الخبز... فالأغنياء منعمون والفقراء صابرون.
... والغلاء في كل شيء (عام 1754م) حتى في التراب والقصرمل والأحجار والحديد والخشب، وغير ذلك من أدوات العمارة، بالجهد الكلي حتى يحصل الانسان على معلم أو نجار، وأجر الواحد بدينار ولا يوجد، والكلس واللبن لا يوجدان وهلم جرا. فقد ضاقت الأنفاس والأشياء زادت عن حد القياس، والباشا ومن حوله يجمعون المال في الأكياس (185).
... وفي هذه السنة (1759م) المطر غزير والطاعون المفرط والوباء الزائد الحد والفاكهة قليلة جداً، والغلاء مطنب كما أسلفنا... وما بقي للفقر حال. وفي اثنين وعشرين شعبان من هذه السنة جاء عثمان باشا من الدورة وأحواله مسرورة. معنى ذلك انه جمع مالاً كثيراً من دورته في مناطق حوران وشمال فلسطين وعجلون.
2 – تحركات العامة ضد الغلاء واحتقارهم للباشا وتصديهم للأعيان والعلماء ورجال الدين، واتهامهم بإعانة الحكام على الشعب.. أحداث دوّنها شاهد العيان البديري الحلاق:
وفي يوم السبت الثامن والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة (1743م) قامت العامة وهجمت على المحكمة وطردوا القاضي، ونهبوا الأفران. وسبب ذلك كثرة الغلاء والازدحام على الأفران وقلة التفتيش على صاحب القمح والطحان والخزان فتلافى حضرة الوالي سليمان باشا هذا الأمر، وأرسل يشدد على الطحانة والخبازة ويهددهم ويخوفهم فحالاً وجد الخبز، وتحسن وكسد، بعد ما كانت غالب الناس تبات بلا خبز، فابتهلت الناس بالدعاء لحضرته.
وفي يوم الخميس خامس جمادي الثانية من سنة / 1756 / دخل الوالي الجديد حسين باشا مكي إلى دمشق بموكب عظيم حافل بالأفندية وأعيان الشام وبالانكشارية كلها خيالة، والقبقول كلها مشاة في العدد الكاملة والأسلحة المزخرفة والزينة الشاملة، ووقف العامة والخلق تدعو له وتصيح وتستغيث من جور أعيان الشام المقصود بأعيان الشام رؤساء جند الانكشارية. وثاني يوم جاءت الأفندية والأعيان للسرايا لأجل السلام على الباشا، فوقفت الناس والعامة في طريقهم، فلما مروا ليدخلو السرايا قامت العامة بالصراخ والضجيج، وصاحوا عليهم وقالوا: ارجعوا لا بارك الله فيكم، أنتم منافقون وتعينوا الحكام على ظلم الفقراء والمساكين، واكثروا من سبهم وشتمهم، ورجموهم بالأحجار وصارت حالة مزعجة. ففتح الباشا باب العدل والتفتيش على الرعية. حتى صار رطل الخبز بثلاث مصاري. ثم اشتغل بالظلم كأسلافه، فرجعت الأسعار إلى حالها الأول.
3 – استثمار الباشا والسلطة المحلية في ولاية الشام للفلاحين، ننقل ما كتبه البديري الحلاق.
كان باشا دمشق يغتنم فترة التحضير للحج للقيام مع بعض جنده. بجولة تفتيشية في جهات نابلس وعجلون، المشهورة مع بيت لحم والخليل بالخروج على الدولة والامتناع عن دفع ما سمته الطبقة الحاكمة المستثمرة أموال الدولة. هذه الجولة أطلق عليها اسم الدورة وهدفها جمع مال الدولة من فلاحي المناطق الجنوبية من ولاية دمشق وتأديب المتمردين عن دفع الضرائب المجباة باسم الاعداد لقافلة الحج.
والبديري في مذكراته لا يذكر لنا إلّا تاريخ ذهاب الباشا إلى الدورة و ايابه دون الدخول في تفاصيل الرحلة. ولا شك أن الباشا وجنده كانوا يستأثرون بنصيب وافر من أموال الدولة مستثمرين بذلك الفلاحين دافعي الضرائب، وكانت لجند الولاية مصلحة في ابقاء هذا الاستثمار بأبشع صوره، ولكنهم تنازعوا فيما بينهم وانحازوا إلى هذا الفريق أو ذلك بهدف الحصول على أكبر قدر من الغنائم.
يروي البديري صورا مقتضبة من نهب الطبقة الحاكمة للفلاحين نذكر بعضاً منها:
"وفي ذلك اليوم (من عام 1741م) جاء خبر قتل متسلم دمشق، (وهو نائب الباشا في غيابه) قتله عرب الزبيد وقتلوا من جنده جماعة كثيرة، وذلك لما كانت هذه العرب عاصية على الدولة خرج المتسلم المذكور ومعه جماعة من العسكر، فساروا حتى وصلوا للعرب المذكورة، ففاجأهم المتسلم وجنوده على حين غفلة بالقتل وغيره، وأرادوا أخذ أموالهم ومواشيهم، فردوا عليهم رد غيور صبور فقتلوا المتسلم المذكور وجماعة من عسكره".
وبعد أن يروي البديري قصة جلب جثة المتسلم من اللجاة مضرب عرب الزبيد يشرح ظلم هذا المتسلم" وكان اسمه ابراهيم، وهو مملوك سليمان باشا بن العظم حاكم الشام، وكان مع عدل مولاه، له ظلم وعدوان وجرأة على الخاص والعام، وكان يأمر بالقبض على كل من رآه بعد العشاء، ويأمر بتقييده في الحال بالحديد، إلّا أن يأخذ منه مال كثير و إذا أذنب أحد ذنباً، ولم يقدر على قبضه يقبض من يقدر عليه من أهله وقرابته، ويلزمه بمال عظيم ولا زال بظلمه وعتوه إلى أن أخذه الله.
"وفي آخر ربيع (من عام 1746) أرسل حضرة أسعد باشا العظم عسكراً عظيماً إلى مدينة بعلبك لقتل واليها الأمير حسين. فلم يجدوا له أثراً، فدخلت الأعوان ونهبوا وسلبوا وفعلوا ما فعلوا".
وفي تلك الأيام أرسل حضرة أسعد باشا جملة من العساكر إلى العرب فجاؤوا برؤوس من العرب وجمال وأغنام وسلب وغير ذلك. وقد أرهب حضرة أسعد باشا المذكور الكبار والصغار.
"وفي يوم الأربعاء (من عام 1747) جاء خبر بأن عرب عنزة نهبت عرب الرشا، وأن الأكراد الذين كانوا مع عرب عنزة أخذوا جميع ما نهبوه وسلبوه من مال وجمال وغنم ونساء. وكانت الغنم كثيرة لا يحصى عددها إلّا الله، و إن الواقعة كانت مهوّلة و إنه قتل من الفريقين خلق كثير والمساعد للعرب حضرة أسعد باشا. فجاؤوا الأيتام إلى الشام، وقد كان أهل الشام في غلاء اللحم وأكل الذرة والشعير لهم سنين، فبيع رطل اللحم في هذه السنة بسبعة مصاري وثمانية إلى العشرة، مع علم الناس أنه سلب حرام فمنهم من ترك أكله وهم أقل من القليل. والباقي وهم عموم الناس لم يبالو فإنا لله وإنا إليه راجعون".
يذكر البديري مغادرة أسعد باشا وجند الشام دمشق "ولما وصل إلى البقاع خرب بعض قرى للدروز وحرق ونهب وقتل، ثم نجوا بطرشهم (أي الأغنام) والعيال، وتركوا الخيال والمال، وذلك بعد ما قتلوا جماعة من عسكر الباشا وجرحوا... ثم نزل في البقاع وأمر بحصد زرع الدروز، فحصدوا (زروع) البقاع والغلاء متزايد، والجراد في أرض الشام زايد".
"بلغني عن أسعد باشا وهو نازل إلى جبل الدروز (جبل الشوف) بلغه بأن ضيعة من ضيع البقاع إلى الدروز. فأمر عسكره بنهبها وسلبها، فلما وصلوا إليهم تلقتهم أهلها بالبشر والفرح والسكون، وهم عما يراد بهم غافلون، ثم انزلوهم وذبحوا لهم وضيفوهم، فنزلوا وأكلوا واكتفوا، ثم قاموا وجردوا عليهم السيوف، فصاحوا عليهم لا تفعلوا انتم أصدقاؤنا ونعم الضيوف. فلم يسمعوا بل قتلوا منهم جماعة وجرحوا، فطلبوا الهزيمة حالاً وفروا من وجوههم، فنهبوا متاعهم ومصاغهم وأموالهم ثم طلبوا النساء فانهزمن من بين أيديهم ودخلوا بعض البساتين هناك، وكانوا يزيدون على ثلاثمائة امرأة وبنات أبكار.
وهذا نقله لي، أي للبديري، من اطلع على حقيقة هذا الخبر. وحرقوا القرية بعد ما نهبوا جميع ما فيها، وترك أهلها بالويل والتنكيل وحسبنا الله ونعم الوكيل".
ثم يروي البديري قصة وساطة والي صيدا بين الدروز أي فلاحي جبل لبنان، وأسعد باشا العظم والي دمشق: إلى أن يقول:
"وقيل أن باشة صيدا أرسل يطلب من أهل الجبل إلى أسعد باشا جملة من المال، فحلفوا أن لا يعطوه ولا عقال، ولكن اذا أرسل أولادنا المسجونين في قلعة دمشق، أرسلنا له أربعين كيسا، الذي هي علينا معتادة، و إلا دعه يفعل ما أراد، فو الله إن حرك ساكناً لنهد من عليه البلاد، فنحن ما الذي فعلنا حتى يقابلنا بهذه الأمور، أما كفاه انه أهرق دماءنا وأباح مالنا ونساءنا، وقد أعدم لنا أكثر من مائتي كيساً من الحنطة والحبوب".
***
"ثم دخلت سنة احدى وستين بعد المائة والألف، وكان أولها محرم الثلاثاء (الموافق 2 كانون الثاني 1748) وقد خربت القرى من جور الدالاتية، ومن أعمالهم التي هي غير مرضية".
"وبعد عدة أيام (من عام 1757) قطع الباشا خرج (مرتب أو علوفة) بعض العساكر والبيارق فصاروا يغيرون على القرايا، وينهبون الأموال والأعراض والأولاد ولا تسأل كذلك عن عسكر الباشا فانهم نهبوا البساتين وكسروا الشجر وشلحوا البشر"...

و أرادت أهل دمشق أن تقاتلهم، لكن لم يجدوا أحد يأخذ بيدهم وأكابر الشام لم تتكلم بخير، والأمر لله".