كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: مراحل الحركة النقابية السورية..

مراحل الحركة النقابية السورية..
مرتبطة بتطور المجتمع في صعود فعالياته وهبوطها في القرن العشرين وما تلاه.

أولاً- مرحلة النشوء والتكون في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، حيث تجاذبها تياران:
- تيار النقابية (الحرفية) المساير للسلطة والمهادن لأرباب العمل (تيار صبحي الخطيب).
- تيار النقابية الثورية الساعي لتفعيل الحركة النقابية ودفعها في طريق النضال المطلبي غير المهادن والعمل الوطني المتزن. وهنا برز النقابي الشيوعي إبراهيم بكري كممثل لهذا التيار النقابي.
ثانياً- مرحلة الانطلاق وترسخ أقدام الحركة النقابية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، المتزامنة مع نيل الاستقلال الوطني واضطرار الحكم (البرجوازي – الإقطاعي) ذي النزعة الليبرالية لتقديم عدد من التنازلات للعمال وإفساح المجال نسبياً للحرية النقابية.
وفيما يلي بعض المحطات المفصلية، التي عاشتها الحركة النقابية في معمعان نضاليها المطلبي والسياسي:
- صدور قانون العمل السوري لعام 1946 وقيام إبراهيم بكري، بمساعدة الحزب الشيوعي، بتقويم هذا القانون والعمل لتحسينه وإرشاد العمال على طرق الاستفادة من مواده ذات النصوص المتعددة التفاسير. وقد أصدر بكري عام 1948 كراسة بعنوان: (حقوق العمال في قانون العمل السوري).
- تأسيس "مؤتمر العمال السوريين" عام 1950. وكان إبراهيم بكري مع خليل الحريري (أبو فهد) العمود الفقري لهذا التنظيم النقابي، الذي حاول تحرير الحركة النقابية من (التيار النقابي الحرفي) دون نجاح لأسباب كثيرة وفي مقدمتها طبيعة المجتمع السوري، الذي عاش منزلة بين منزلتين: (إقطاعية ورأسمالية).
- كان لقيام جبهة وطنية مناهضة للأحلاف العسكرية وساعية للسير في سورية (منتصف خمسينيات القرن العشرين) في طرق باب التنمية والاستقلال الاقتصادي (بمعونة الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية آنذاك)، دور بارز في تأهيل الحركة النقابية وتلاحمها.
وكانت الأجواء الديمقراطية في عهد المجلس النيابي 1954 – 1958 (زهرة برلمانات سورية) ملائمة لتطور مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وتراجع الولاءات العشائرية والطائفية والعائلية، ويلاحظ في هذه الفترة تصاعد أفكار التنوير العربي والعقلانية وترسخ مفاهيم الحرية والنضال الوطني جنباً إلى جنب مع اشتداد ساعد النقابات واشتداد وتيرة كفاح العمال والفلاحين لنيل مطالبهم.
- هذه العملية النهضوية، الوطنية الثورية، الديمقراطية، وضعت المجتمع السوري على أبواب مرحلة جديدة متقدمة.
تبدَّى أحد معالم هذه الظواهر نقابياً، بنجاح القائمة النقابية المتحدة عام 1958 لتحالف الحزب الشيوعي والبعث والمستقلين على قائمة النقابية الحرفية بزعامة صحبي الخطيب، الذي ترأس الحركة النقابية عشرين عاماً.
ثالثاً- مرحلة خلخلة الحركة النقابية وتحجيمها وجعلها ذيلاً للسلطة. إن رياح مباحث (الدولة السلطانية) أجهضت في عامي 1959 و1960 عملية التطور، وتلقت مؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها الأحزاب والنقابات ضربات قاتلة. وجاء قانون العمل الجديد الصادر عام 1959 في عهد الجمهورية العربية المتحدة ليقدم للعمال مكتسبات متعددة ويحرمهم في الوقت نفسه من الحرية النقابية.
رابعاً- المرحلة، التي تلت انفصال سورية عن مصر (1961 – 1963)، التي تميزت بنهوض العمال للدفاع عن المكتسبات الاجتماعية، التي حصلوا عليها أيام الجمهورية العربية المتحدة، في وقت مُنِعوا فيه أيام الجمهورية العربية المتحدة من حرية الرأي والتنظيم بعيداً عن أعين المباحث السلطانية، التي شددت النكير على أي نشاط.
وفي هذه المرحلة بدأت الحركة النقابية تستعيد أنفاسها في خضمّ معارك طبقية بين العمال والرأسماليين وبين الفلاحين وملاك الأرض.
خامساً- مرحلة ما بعد 8 آذار 1963 ووصول البعث إلى الحكم. وقد اتصفت سنواتها الأولى بالحراك النقابي المستقل، وتدريجيا أخذت المباحث السلطانية (أجهزة أمن الدولة) تُهيْمن على هذه الحركة محوّلة إياها إلى ذيل للسلطة، وظيفتها التصفيق للحكام وتبرير ممارساتهم ونهبهم للقطاع العام.
{ راجع مشاهداتنا عن احتفالات أول أيار الحلقة الاولى من هذه السلسلة. وفيه يتبيّن بالملموس كيف أخذت المخابرات السلطانية تُهيّمن على الحركة النقابية وتقودها من خلف نقابيين أُفسدوا، وهمّهم جيبتهم ضاربين عرض الحائط بمصالخ العمال }

وفي الربع الأخير من القرن العشرين لم يبق من الحركة النقابية إلا إسمها. وكثيرا ما وُصف المسؤولون النقابيون "المدعومون" بأنهم تجّار دون أن ينتسبوا إلى غرفة التجارة. هذا المستوى المنحدر للحركة النقابية وتحوّل هياكلها إلى عظام هشة وجسم بلا روح، كان ظاهرة من ظواهر الإنحدار العام الذي عزل المجتمع عن السياسة وجعل الأحزاب السياسية أثراً بعد عين.
هذه الظاهرة جرت في ظل حكم عسكري مباحثي، اتخذ من حزب البعث واجهة مدنية لتُزيّن حكمه المتصف بسيطرة البورجوازية البيروقراطية والطفيلية على السلطة.

وفي ظل تلك الأجواء، في الربع الأخير من القرن العشرين، كانت تُصاغ خطب النقابيين مجرّدة من الروح لا تستطيع حراكا أمام خراب القطاع العام واستباحته من قبل الفئات البيروقراطية المهيمنة وغيرها من الطفيليات. كل ذلك كان يجري أمام أعين النقابيين الشرفاء، الذين إما أغمضوا العين عمّا يجري من اعتداء على المال العام، أو انزووا في بيوتهم ولا حول لهم ولا قوّة.

من هنا تبدو أهمية فهم مرحلة الثلث الأخير من القرن العشرين وقراءتها قراءة متأنية، وأحياناً قراءة ما بين سطورها في أمور لم يستطع النقابيون وغيرهم من البوح بها في ظل الأوضاع الصعبة، التي عاشوها في مرحلة الهبوط العام للحركة الاجتماعية والشعبية، وتراجع دور اليسار وهيمنة العناصر الانتهازية والمتملِّقة والمتزلِّفة، التي سيطرت على المفاصل الأساسية في الحركة النقابية ووضعتها في خدمة البورجوازيتين البيروقراطية والطفيلية.
***
والملفت للنظر أن هذا التراجع جرى تحت شعار "النقابية السياسية"، التي تتحدث في السياسة كما يشاء "أولي الأمر", وتصمت عن مطالب العمال ونهب القطاع العام من الفئات البيروقراطية والطفيلية. ولا عجب في ذلك فقسم من القادة النقابيين, الذين عيّنَت بعضهم "الأجهزة" أصبحوا جزءا من البيروقراطية, التي اغتنت ولم يعد لهم صلة بالفئات العاملة وتغيّرت مفاههيمهم وعاداتهم وتبدلت أخلاقهم وسلوكياتهم واصبحوا عمليا جزءاً من الطبقة الثرية الحاكمة المستغِلّة. وكانت الطامة الكبرى أنهم تحدثوا باسم "الاشتراكية"، التي افرغوها من مضمونها وحوّلوها إلى واجهة لإخفاء خيانتهم للعمال والاشتراكية المنادية بتحرير استثمار الانسان للانسان.
***
عندما نشرت عام 1973 كتاب "الحركة العمالية في سورية ولبنان" صدّرت الكتاب بالإهداء المعبّر التالي:
  "إلى الذين لم تُفسَد نفوسهم ولم يتخلوا عن الطبقة المقهورة التي انحدروا منها أو تكلموا باسمها"
في ذلك الحين تحدّث معي نقابيان قائلان: "إنك لم تهدِ الكتاب لأحد، لأن جميع النقابيين أُفسدوا". وأرى أن ثمة مبالغة في كلام النقابيَين. ففي ذلك الحين من عام 1973 كانت جماهير نقابية لا تزال ترنّ في آذانها إيقاعات النضالات السابقة، وكانت لا تزال مخلصة لطبقتها التي انحدرت منها، ولمّا يطرق الفساد أبوابها.
***
النقابي المخضرم إبراهيم بكري، الذي سلخ القسم الأكبر من حياته في العمل النقابي، وعاش مراحل صعود الحركة النقابية وهبوطها، أصدر في السنوات الأولى من القرن العشرين كتابين:
- أوراق حزبية ونقابية 2004.
- آراء ومواقف سياسية وطبقية 2005.
وقد أولى إبراهيم بكري في كلا الكتابين اهتماماً أساسياً لنشر أوراقه النقابية وآرائه السياسية بعد عام 1970.
واللافت للانتباه أن بكري لم يتطرق إلى الحركة النقابية في أيام شموخها في خمسينيات القرن العشرين، وهو أحد أركان تلك الحركة الصاعدة، وعَلَم من أعلام الحركة النقابية، قبل أن تهبّ عليها رياح التسلط والاحتواء، وتهزّها هزاً مميتاً.
عاصر إبراهيم بكري معظم مراحل الحركة النقابية، فتأثر بها وأثّر فيها بفضل انتمائه إلى الحزب الشيوعي. وهو كغيره انحنى أمام عواصف الحكم البورجوازي البيروقراطي الطفيلي، الذي فرّغ الحركة النقابية من تراثها الثوري وحوّلها إلى أداة طيّعة في خدمته.
وهذا التقيم ينطبق أيضا على النقابيين البعثيين وغيرهم ممن لمع اسمهم في الربع الثالث من القرن العشرين.
***
الحلقة القادمة: الأجواء الاقتصادية – الاجتماعية
المؤثِرة في تخلخل الطبقة العاملة وتراجع تكوّنها