كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: وقائع سورية مغيَّبة.. الاحتفال بالأول من أيار عيد العمال العالمي

وقائع سورية مغيَّبة
كُتت 2003 لموقع الحوار المتمدن عندما تلقيت دعوة منه للمشاركة، بمناسبة الأول من أيار عيد العمال العالمي، في ملف عن "مشكلة البطالة في العالم العربي وسُبل حلها". في الأوضاع الراهنة.
وكانت مقدمة جوابي:
لا أرى أن مشكلة البطالة في العالم العربي وسُبل حلها هي المشكلة الرئيسية التي تواجه العالم العربي في ذكرى اول ايار لعام 2013. وعلى الرغم من أهمية مشكلة البطالة وتأثيراتها، إلا أن ما يواجهه العالم العربي اليوم يتخطى مشكلة البطالة إلى قضايا جوهرية لا بدّ من معالجتها بمناسبة الاحتفال بذكرى اول ايار. فالربيع العربي وما أثاره من مشكلات وفي مقدمتها صعود الاسلام السياسي إلى واجهة الأحداث، يتطلب الغوص في المشكلات الاقتصادية الاجتماعية (ومنها البطالة) وما يؤثر فيها من عوامل تراثية، وما يحيط بها من عوامل خارجية في عصر الرأسمالية المعولمة.
ولهذا، وانطلاقا من امكاناتي المتواضعة و أنا أعيش بصورة مؤقتة خارج سورية، منتظرا الفرج، رأيت من الواجب ملامسة بعض القضايا المتعلقة بالطبقة العاملة وحركتها النقابية في سورية، في الوقائع، التي سأنشرها متتالية وتقريبا يوميا أو كل يومين مع الاشارة الى رقم الحلقة. راجيا كل من يرغب أن يعمم هذه الحلقات السبع على أصدقائه الفيسبوكيين.

وفيما يلي الحلقة الأولى
1
الاحتفال بالأول من أيار عيد العمال العالمي في سورية
من 1908 إلى خاتمة القرن العشرين وما بعده
وبعبارة مؤلمة
من الانسان الواعي إلى القطعان البشرية
***
بدأ الاحتفال بأول أيار عيد العمال العالمي في الولايات المتحدة عام 1890 تجسيدا للنضال بين العمال المستَثمرين والرأسماليين المستثمِرين، وامتد الاحتفال سنويا إلى أوروبا ومنها إلى سائر انحاء العالم.
***
جرى الاحتفال بأول أيار في المشرق العربي، حسب علمنا، عام 1907. فقد احتفلت سرا في بيروت (الروشة)، في ذلك العام، مجموعة من المثقفين والطلاب الذين درسوا في اوروبا وعادوا يحملون افكارا اشتراكية أو ليبرالية مناهضة للاستغلال.
***
أول احتفال علني واسع النطاق بأول أيار جرى أيضا في بيروت عام 1925، تحت اشراف حزب الشعب اللبناني الواجهة العلنية للحزب الشيوعي المؤسس عام 1924. وبعد الاحتفال سار المئات من المحتفلين من عمال ومثقفين وطلاب في شوارع بيروت حاملين الأعلام الحمراء وهم يرددون مطالب عمالية تتعلق بزيادة الأجور وتحديد ساعات العمل وغيرهما.
هذا الاحتفال بأول أيار وما تلاه من احتفالات في السنوات اللاحقة في بيروت ودمشق كان ثمرة لظهور التجمعات العمالية، وصدى لتبلور فكر عدد من المثقفين المتأثرين بأفكار الثورة الفرنسية والطامحين إلى اشتراكية غامضة الملامح، وأخيرا نتيجة لنشاط الأممية الثالثة الشيوعية (الكومنترن).

***
فالاحتفال بأول أيار في المشرق العربي ليس وليد ظهور الطبقة العاملة، بل هو سابق لها ومتزامن في نشوئه ومرتبط ارتباطا وثيقا بالتطورات السياسية ومشاركة مثقفين حاملي راية الفكر الاشتراكي.
في منتصف القرن العشرين عمّ الاحتفال في الاول من أيار عيد العمال العالمي أكثرية مدن العالم العربي، وتراوحت قوة المشاركة في بين مد وجذر حسب الظروف المرتبطة أيضا بنهوض الحركات الوطنية العربية.

بعد عودتي من ألمانيا صيف 1965 أصبحت، كما في السابق، أشارك في أول أيار مراقبا الاحتفال بعين المؤرخ المؤيد للطبقة العاملة.
أذكر احتفال أول أيار 1969 وأنا أراقب على رصيف قرب جسر فكتوريا المظاهرة، التي تقدمها صفّ طويل من قادة النقابات مرتدين اللباس الخاكي رمز العمل ويتوسط الصف الأول رئيس النقابات الذائع الصيت آنذاك بقامته المديدة ووجهه المشرق وشاربيه الأشقرين خالد الجندي. للحظة خفق قلبي فرحا سابحا في خيال انتصار الطبقة العاملة.
{ حول خالد الجندي ونشاطه النقابي يجد القارئ لصفحتي مقابلة مع هذا الانسان المثقف، الذي أُغرق بالشائعات }.

***
أول أيارعام 1974 وقفت على زاوية رصيف في شارع الحجاز على الحدود الفاصلة بين المتفرجين وأجهزة الأمن المتولية حماية المنصة المقامة أمام واجهة مبنى البريد، التي كان يجلس عليها رئيس الجمهورية حافظ الاسد. وكالعادة وقفت وفي يدي دفتر وقلم لتسجيل الشعارات المكتوبة أو المهتوفة. أول ملاحظة سجلتها هي أن المخابرات وأزلامها ومن يسير في ركاب الحزب الحاكم أصبحت المهيمنة على مظاهرات الاحتفال بأول أيار، بخلاف الاحتفالات السابقة. وبين الحين والآخر كان يأتي من الخلف من يميني أو يساري شخص من "أخوات زنكه" مادّا رأسه لمعرفة ما أكتب. وكان تدويني بلغة الألغاز حتى لا يفهمها "أخوات زنكه" إذا صادروا الدفتر. وفي كل مرة ألاحظ أنّ أحدا منهم (وكنت اسميهم أكاديميا المخابرات السلطانية) أعبس متّخذا وضعية مسؤول مخابراتي كبير يراقب المظاهرة.
***
أثناء سير المطاهرات المارّة من أمام المنصة لفت انتباهي سماع شعار لم أعهده في الجموع الغفيرة التي مرت. أمعنت النظر فوجدت حشدا (عرفت فيما بعد أنه من الطلاب الشيوعيين في جامعة دمشق) من الشباب المتراصين على بعضهم وهم يهتفون بحماس:
  "وحدْ وحدْ يا يسار" ... "وحدْ وحدْ يا يسار"
وتوقفوا أمام المنصة، التي يجلس عليها رئيس الجمهورية. وازداد حماسهم ورقصتهم الشبابية بأصوات تشق عنان السماء وهم يرددون: "وحدْ وحدْ يا يسار". بعد فترة لا أعرف زمنها رأيت مجموعة كبيرة متراصة وراء الطلاب الجامعيين أخذت تدفش بهم بهدوء إلى الامام لابعادهم عن المنصة وكاميرات التصوير، وباتجاه الرصيف الشرقي لشارع الحجاز المتعامد مع شارع جانبي. وفي الوقت الذي استأنفت في جموع العمال (معذرة الطرش) تسير أمام المنصة معلنة تأيدها لقائد المسيرة. ألقيت نظرة لمعرفة مصير شباب وحد وحد يايسار، فشاهدت عدة سيارات مخابراتية توقفت بجانب الطلاب الذين لا يزالون يهتفون شعارهم الوحيد، وسرعان ما شرع "أخوات زنكه" في حمل الطلاب ورميهم في السيارات المعدة لشحنهم. بعضهم قاوم للحظات والآخرون ولّو الأدبار هاربين. وكان واضحا لي أنّ المشحونين سيبيتون ضيوفا عند "خالتهم".
تتبعت قضية هؤلاء الطلاب "ضيوف خالتهم"، الذين جرى فكُّ أسرهم تدريجيا ولمدة طويلة. ولم تُجْدِ الصيحات الشيوعية فيما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية من اطلاق سراحهم فورا. وبقيَ أخيرا طالب عرفتُ أنه من حارة الأكراد وغاب اسمه عن ذاكرتي، فقد حُكم على هذا المسكين بالسجن لمدة طويلة وضاع مستقبله... يا حرام
***
في إحدى احتفالات أول أيار أوائل الثمانينات صدرت الأوامر بأن يسير العمال في شوارع دمشق بشعاراتهم وهتافاتهم المدوزنة المنضبطة، مع شعار طاغ: "بالروح بالدم نفديك يا حافظ". لتنتهي المظاهرة في معرض دمشق القديم.
{ كان سابقا اسمه مرج الحشيش، ثمّ تحولّ إلى ملاعب رياضية ثم معرضا لعرض منتجات الدول }.
سرت مع هذه القطعان البشرية المدجّنة، بقلب منقبض هاربا بخيالي إلى المظاهرات العمالية الحقيقية، أيام زمان، المدعومة من طلاب ومثقفين ثوريين. وبين الحين والآخر أسائل نفسي بحياء: هل من أسيرُ معهم عمال أم بشر تحولوا إلى طرش. وسرعان ما أطرد هذه المناظر من تفكيري محافظا على رباطة جأشي.
تجمّع هؤلاء العمال المساكين في باحات المعرض، وبدأت الخطابات الجوفاء الفارغة من فوق منصة مجهزة. لم تتحمل أعصابي الاستمرار في الاستماع إلى... فاتجهت إلى الباب الخارجي للهرب من هذا الجحيم. وفُوجئت أن أبواب المعرض مغلقة بحراسة مخابراتية، فاستسلمت لقدري وانتحيت زاوية ميتة مغلقا أذنيّ ومنتظرا السماح للطرش بالخروج من "الصيرة".
{ والصيرة هي المكان المغلق لمبيت الماعز أو الغنم بعد الرجوع من الرعي } .

معذرة من هؤلاء العمال المساكين، ومن القارئ، ومن كل من ينبض في صدره قلب بشري من هذا الوصف الصادق النابع من قلب مثلوم.. وعلى الله الاتكال.
***
ملاحظة على الماشي:
التقيت بأحد العمال من المجبرين على حمل عصا تعلوها صورة السيد الرئيس. وعندما تعب هذا العامل الستيني من حمل العصا وصاحبها، رجا عددا من زملائه بأن يحملها عنه فرفض الجميع. ولم يتجاسر على رمي ما يرفع جانبا خشية أن يراه أحد اخوات زنكه وعندها المصيبة الكبرى...

الحلقة القادمة: الطبقة العاملة بين منزلتين: أي أنها ظهرت في مجتمع نصف اقطاعي نصف رأسمالي يسود مدنه نظام حرفي عميق الجور.