كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: القبيسيات تنظيمات نسائية بعطر حزبي

الحركة القبيسية ظاهرة لنشاط نسائي ديني سنّي ظهر مع تراجع منطلقات النهضة العربية ودخول الحركة الوطنية في أزمة كادت تخنقها.
وما يعرف بالقبيسيات هنّ جماعة دعوية نسائية أسستها منيرة القبيسي المولودة عام 1933 في دمشق، لأسرة تضم عشرة أطفال: ستة شباب يعملون في التجارة أو المهن ذات الكفاءات العلمية العالية، وأربع فتيات ربات بيوت.
درست منيرة في جامعة دمشق وحملت إجازة من كلية العلوم ومن ثمّ كلية الشريعة. وفي بداية الستينات من القرن العشرين التحقت بجامع أبي النور التابع لمفتي سورية الراحل الشيخ احمد كفتارو. وبعد أن فُصلت من التدريس في المدارس الرسمية بسبب نشاطها الديني استقلت بنفسها جامعة بين النشاطين التعليمي والدعوي . واقتصر نشاط منيرة في البدء على أوساط نساء الطبقة الغنية فلاقت نجاحا باهرا, وما لبثت دعوتها أن عمّت مختلف الفئات في المدينة والريف. وسرعان ما انتشرت في لبنان وبلدان الخليج ووصلت أصداؤها إلى بعض البلدان الأوروبية والولايات المتحدة.
- بدأت منيرة القبيسي تدعو النساء للالتزام بالحجاب الشرعي في وقت كان السفور منتشراً. واشتدّ نشاط القبيسيات في ثمانينيات القرن العشرين بعد تصفية تنظيم الإخوان المسلمين جامعين بين النشاطين العلني والسري ومتجنبين سيف الرقابة, التي لم توْلِ اهتماما جديا لنشاط نساء لا يتدخلن ظاهريا في السياسة ويلقين الدعم من عدد من المشايخ.
ونتيجة للانتشار الواسع للحركة القبيسية اضطرت السلطات, وبتوجيه من عدد من رجال الدين المتعاونين مع السلطة, السماح للقبيسيات بإعطاء دروس في مساجد معينة بدلا من إعطاء الدروس في المنازل  وكانت السلطة ترى حسب نصيحة رجال الدين الموالين لها أن التراخيص العلنية المراقبة أفضل من الحلقات السرية التي تعقد في المنازل ومن الصعب مراقبتها.
بعد نشاط القبيسيات مدة من الزمن بصورة نصف علنية وبعد رسوخ اقدامهنّ في الأوساط النسائية سمحت السلطات السورية للقبيسيات عام 2006 بالنشاط العلني وحصلْنَ على تراخيص رسمية لإنشاء مدارس ابتدائية تابعة لهنَّ مثل "النعيم" و "دار المجد" و "دار الفرح" وغيرها ممولة عن طريق الاستثمار الرأسمالي المنتعش مع تدفق البترودولار. ويتمّ في هذه المدارس, وهي تابعة شكليا لمنهج وزارة التربية , تخصيص دروس إضافية لتعليم الدين الإسلامي وإقامة نشاطات اجتماعية خارج المدرسة. وحسب رأي أسماء كفتارو "سيكون لهذه المدارس تاثير كبير على الجيل القادم خصوصا في دمشق". وللقبيسيات في دمشق وحدها 40 مدرسة تابعة للشيخة منيرة من اصل 80 مدرسة نسائية اسلامية تنتشر في جميع أحياء دمشق.
وتتميز القبيسيات البالغ عددهنّ قرابة 75 ألف إمرأة بالتنظيم مقارنة بنساء التيارات السلفية والصوفية الأخرى. وثمة تضارب في الآراء حول نشاطهنَّ. فمحمد شحرور يرى أن الهدف البعيد هو إقامة دولة اسلامية على غرار طالبان. وينفي محمد حبش ذلك مشيرا إلى أن حركة القبيسيات لا تحمل مشروعا سياسيا. وهناك من يقول بانهنَّ يحملنَ أفكار الطريقة النقشبندية الصوفية التي ترأسها في دمشق أحمد كفتارو. ومعروف أن منيرة القبيسية كانت في بداية عهدها تلميذة عند الشيخ كفتارو.
ويلاحظ ان نشاط القبيسيات أحيط بهالة من القداسة وكثير من اللغط والتأويلات بسبب نشاطهنَّ السري والعلني في مناخ يعجّ بالمتناقضات.
وقد اسهم اتساع رقعة نشاط القبيسيات في المنازل والمدارس إلى نسج حكايا وأساطير حول الداعيات القبيسيات وما أثرْنَه في الأوساط الإسلامية من تضارب في الآراء حول أهداف نشاطهنّ. وزاد في الطين بلة ما يحيط بشخصية زعيمة الحركة منيرة القبيسي من غموض وشح الانتاج الفكري المكتوب.
والملاحظ, كما ذكرنا, أن الداعيات الأوائل كنَّ من بنات ونساء الشريحة الغنية في دمشق. ويلاحظ كثرة عدد الخريجات الجامعيات من كليات العلوم والطب والهندسة.
والقبيسيات ناشطات في ترتيب الزيجات، وربما كان هذا من أسباب سرعة انتشار الحركة وزيادة نفوذها، اي عبر زواج الداعيات من رجال الأعمال والمتنفذين والمغتربين. وساهمت الزيجات من مغتربين شباب ورجال أعمال مغتربين في إقامة حلقات قبيسية في فرنسا والنمسا وأميركا.
وبسبب النجاح الكاسح الذي حققته الحركة القبيسية يدعي كما يقول محمد حبش: "كل طرف من الجماعات الدينية في البلاد يقول انها تابعة له أو قريبة منه". و"ربما أحد أسباب نجاح أسلوبها، هو كون معظم، ان لم يكن جميع، زوجات الشيوخ الكبار أو بناتهم هنَّ من الداعيات "القبيسيات".
وترتدي منيرة المعطف الكحلي الغامق والحجاب الأزرق الغامق. وتحت المعطف تنورة زرقاء مع قميص ابيض وجوربين سميكين وحذاء اسود من دون أي كعب. وتعرف مرتبة "القبيسية" من لون منديلها، فكلما اقترب اللون إلى الاسود اقتربت الداعية من الآنسة منيرة. لكن اللباس الموحد المعتمد، هو المعطف الكحلي مع غطاء رأس بلون كحلي ترتدي تحته القبيسية "قمطة" لشد الشعر تحت الغطاء. وبعض القبيسيات يرتدين منديلاً اسود لغطاء الوجه. وتؤكد الداعيات على عدم تشذيب الحاجب و "عدم التبرج" عبر وضع المساحيق على الوجه.

ويرى عدد من المهتمين بالحركة القبيسية بأنها الظل النسائي للإسلام السياسي. وينفي آخرون هذا الرأي قائلين إن الحركة لجأت إلى العمل السري بسبب ظروف سورية في الثمانينات, أي أنهنّ لسن تنظيماً بل خلايا تنمو في شكل حلزوني وتصاعدي. ولكن أين يصب هذا النشاط الحلزوني؟.. أليست الحركة القبيسية تنظيم حزبي بامتياز؟..
***
*
ربيع 2018 أمضيت فترة من الزمن في المراجعة في مكتبة الاسد بدمشق. ويعمل في هذه المكتبة قرابة 400 موظفة معظمهنّ من الصبايا. وكنت اغتنم فرصة طلب الكتب أو تسليمها للاتصال بهؤلاء الفتيات اللواتي كنّ يُجبن على اسئلتي فيما يتعلق بالحجاب ببراءة الاطفال دون تصنّع او احراج. ويبدو أن تقدمي في السن ومظهري و أسئلتي البحثية كانت عاملا في حصولي على معلومات منهنّ لا تزال مخزّنة في ارشيفي.
فوجئت من حديثهنّ أن منيرة القبيسي توفيت واستلم ادارة القبيسيات رجل أعطوني اسمه ورقم هاتفه وكنت اتمنى الاتصال به لولا ضيق الوقت.
***
مختصر الوصف الحي عن لباس القبيسيات نقلا عن موظفات مكتبة الاسد هو التالي:

 "لا بِشِفْ ولا بيوصف"...

أي اللباس ليس شفافا ولا يمكن للرجل تخيّل جسم المرأة من ورائه. والتعبير كما ذكرْنَ لي معروف في العامية الشامية أو الدمشقية.
****
**
في الحلقات المقبلة سنتناول: أسباب تخلفنا، حسب اجتهاد صاحب هذه الصفحة. ونرحب بالآراء المختلفة