كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: حول الحجاب والسفور مرة ثانية

حول الحجاب والسفور مرة ثانية
مختتَما بسؤال:
هل كان بالإمكان في عهد الرسول والسلف الصالح تأمين المنسوجات اللازمة للحجاب وألوانه في ذلك الزمن؟..

يعتقد كثيرون أن ارتداء الحجاب مرتبط ارتباطا وثيقا بالتراث الاسلامي وهذا الاعتقاد تنفيه التماثيل والصور، التي تُبيّن أنّ النساء ارتدين في كثير من الحضارات القديمة ما يُعرف اليوم بـ"الزي الاسلامي". ومعنى ذلك أنّ لكل عصر زيّه. وأكثر من ذلك أنّ راهبات الاديرة ارتدين هذا "الزيّ" قبل الاسلام وحتى الآن. ونحن بحاجة إلى اختصاصيين لتفسير هذه الظاهرة.
***
ويبدو أنّ لكل مرحلة زمنية عوامل، بحاجة إلى دراسة، تدفع النساء نحو الحجاب أو السفور أو ما بينهما، ولا يقتصر الأمر فقط على الروادع أو الحوافز الدينية.
يلاحظ أن كثيرا من الكنائس تكتب اعلانا يطلب من الصبايا الدخول إلى الكنيسة بثياب محتشمة. ولا أعلم مدى تقيّد بعض الصبايا بهذا الرجاء الكنسي خصوصا أيام الزواج أو ما يُعرف بالأكاليل حيث ترى احيانا العجب العُجاب.
وبالمقابل هناك لدى الفتيات المحجبات ميول للانطلاق وهنّ يقلنَ: "خلّونا نتنفس".

ونسوق الواقعة التالية: في صيف 1933 نظمت مدرسة دوحة الأدب للإناث بدمشق رحلة مدرسية إلى فرنسا لمدة شهر. شاركت في الرحلة ثلاثون فتاة مع معلمتين للاشراف عليهنّ. الجميع كنّ يلبسن الملاية عندما انتقلن بالقطار من دمشق إلى بيروت ومن ثمّ إلى الباخرة التي ستقلهنّ إلى مرسيليا. وبعد ان ابتعدت السفينة عن ميناء بيروت مسافة قصيرة خلعت جميع الفتيات حجابهنّ وكنّ حريصات على تصفيف شعورهنّ طوال الرحلة والسير في شوارع المدن الفرنسية وهنّ سافرات. وبعد أن عادت بهنّ الباخرة في رحلة الإياب واقتربت من ميناء بيروت اسرعْنّ لارتداء ملاءتهنّ "وكأن شيئا لم يكن". وعدْنَ إلى دمشق وهن يتحدثن بفخر همسا لرفيقاتهن بما جرى.
{ استقيتُ هذه المعلومة من ابنتَيْ تقي الدين مؤيد العظم اثناء التقائي بهما في منزلهما في دمشق بتاريخ 5 – 3 – 1987 بهدف جمع المعلومات من اجل اصدار كتابي عن عبد الرحمن الشهبندر . كون زوجة الشهبندر شقيقتهما وهي ايضا بنت تقي الدين مؤيد العظم }.
***
ذكريات طالبات أربعينيات القرن العشرين في المدن السورية تعكس مشاعر الفتيات الفيّاضة إزاء الشباب ورغبتهنّ في الإنطلاق والتحرر من الملاءة. وكثيرا ما وقعت عدة فتيات في حب استاذهنّ متخيلات من ورائه فتى أحلامهنّ. إذ لم تتوفر مدرسات كافيات حتى منتصف القرن العشرين للتدريس في مدارس الاناث، وكام لا بدّ من المدرسين يلقون دروسهم على فتيات يلبسنَ الملاية.
{ انظر كمثال مذكرات نزيهة الحمصي حرم أكرم الحوراني المنشورة بعد وفاتها بدمشق. واللافت للنظر أن أكرم وزوجته نزيهة لم يكونا يعترفان بتعبير "الحرم". وراعى ابنهما جهاد الحوراني أجواء التدين المتزمت وصعود الاسلام السياسي السائدة أثناء صدور الكتاب }.
***
شيوع السفور في منتصف القرن العشرين في أوساط الشرائح البورجوازية والمنفتحة على العالم قاد إلى الاعتقاد بأن عهد الحجاب قد ولّى زمانه. وأذكر أن استاذنا في مادة تاريخ العرب والإسلام للعام الدراسي 1956 – 1957 الدكتور عمر فروخ وهو مسلم سنة من بيروت ومختص في التاريخ الاسلامي أنشأ مقالا قرأته في إحدى المجلات بعنوان: "لا حجاب في الإسلام".

ولديّ مجموعة من الصور عن الانتخابات النيابية في دمشق عام 1957 يبدو السفور بين النساء في صناديق الاقتراع سيد الموقف. ورئيس الجمهورية السورية العربي السني الدمشقي له صور مع زوجته وهي كاشفة الوجه. وكان النهضوي عبد الرحمن الشهبندر متقدما على الجميع في نزع زوجته سارّة تقي الدين العظم الحجاب منذ عشرينات القرن العشرين.
{ عندما التقيت بفيصل بن عبد الرحمن الشهبندر في القاهرة لأخذ معلومات منه عند التحضير لكتابي عن والده أراني مجموعة من الصور للعائلة تعود إلى عام 1928 وزوجة الششهبدر وبناته كاشفات الرأس}.
***
هذا السفور الذي بلغ ذروته في منتصف القرن العشرين متزامنا كما ذكرنا مع النهوض الوطني العربي وبلوغ عصر التنوير إحدى ذراه أخذ في التراجع في الربع الأخير من القرن العشرين متزامنا أيضا مع تراجع النهوض الوطني وخفوت أنوار عصر النهضة, ومع صعود الإسلام السياسي والحنين إلى عصر السلطان عبد الحميد.
ولكن هذا النصر للحجاب الشرعي على السفور تشوبه علامات استفهام كثيرة. فالحجاب الشرعي المنتشر على نطاق واسع يختلف عن الحجب الأخرى في كونه يسمح بظهور وجه المرأة ويديها, في حين نشاهد في حجب أخرى ان المرأة المنقبة تلبس كفوفا لستر يديها وتضع النظارات السوداء على عينها فهي ترى ولا تُرى.
***
ولنا سؤال موجه إلى من يبتدعْنَ أزياء كثيرة للحجاب ويقمْنَ بتغطية أجسامهنّ بالثياب وألوانها المتنوعة.. نسأل هل كان بالإمكان في عهد الرسول تأمين المنسوجات اللازمة للحجاب وألوانه في ذلك الزمن؟..
فالمعروف أن معامل النسيج لم يكن لها وجود في ذلك الزمن, والورشات اليدوية للنسيج كانت في الحجاز محدودة وفي مستوى انتاجي متدنٍ ماعدا تطور يدوي بسيط للنسيج في نجران النصرانية.
وسؤال آخر: هل الحجاب الحالي المُثقَل بالانسجة الملونة، هل كان موجودا ايام السلف الصالح؟.. وهل كان السلف الصالح بإمكانه من الوجهة التقنية تأمين ملابس النساء المحجّبات من رأسهنّ حتى أخمص أقدامهنّ؟...
ويمكن أن نقول: إنّ الثورة الصناعية ابتداء من عصر البخار هي التي زوّدت بالمنسوجات أزياء النساء بما فيها حجبهنّ.
***
ننقل عن الانترنت صور للحجب بفضل تطور صناعة النسيج، تاركين للقارئ التحليق في العوالم التي يشاؤها عالم...

آسفين لعدم معرفتي في طريقة نقل الصور وهذه حال من قارب على التسعين