كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حول معركة انتهت وحرب لم تنتهِ

د. كمال خلف الطويل

مساء اليوم الثاني للمعركة سُئلت من أصدقاء عن توقعاتي بشأن نتيجتها فقلت: لن تُهزم ايران ولن تنتصر اسرائيل، وستخرج الاثنتان منهكتان، كلٌ حسب نقاط قوتها وضعفها.. ولعلها كانت فعلاً نتيجة المعركة التي دارت لاثني عشر يوماً.
فعَل ترامب لإسرائيل، وليمينها الحاكم بخصوص، أقصى ما يمكن لخادمٍ - برتبة رئيس أمريكي - فعله، وهو النفعيّ الصفقوي؛ لقد خطط وجهّز، مع قيادتها، للحرب؛ بلوجستياتها واستخبارها وسلاحها وذخيرتها وسيبرانها ودبلوماسيتها وإعلامها وتوقيتها - منذ أن تمّ انتخابه رئيساً, أوائل نوفمبر 2024 -، والهدف قطع رأس النظام الايراني برمّته في ضربة مميتة، وبوسيلتين: سلاح جو اسرائيلي مقتدر، بقوة 200 قاذفة مقاتلة مغيرة، من أصناف ف- 35 وف- 16 وف- 15، ومتوفّرٍ على ممر "سوراقي" آمن - أمّنه تدمير الدفاعات الجوية السورية قبل، وبالأخصّ بعد، ٨ ديسمبر 2024 -، ومحفوف بمرضِعة لكل رفّي قاذفات (الرفّ: 4 طائرات)، والتي بلغت فعالية أدوارها أن مكّنتها - القاذفات - من بلوغ مسافة ألف ميل: مشهد، مثالاً -, ومن تتابع الموجات المغيرة بوتيرة ملحوظة.
قامت القاذفات المغيرة، مع المرضِعات المرافقة، ب1500 طلعة [125 طلعة في اليوم] وفق قاعدة ٧ طلعات للطيار الواحد في اليوم، وبفاصل 7.5 دقيقة فقط لتأمين جاهزية الطائرة بين طلعتين، وبكفاءة تتابِع اطلاقها لصواريخها، فوق هدفٍ بعينه، بوتيرة خُمسِ دقيقة… (+) "جيش ظلال" بالألوف، مُشغّل من الموساد و"أمان"، بمعونة ناتوية، ومبثوثٍ في أرجاء الهضبة الايرانية، مع كثافة أعلى في طهران وفي غرب البلاد، ومؤلَّف من يهود اسرائيليين من أصل ايراني، وكردستانيين ايرانيين- "بيجاك"، و"مريميين"- مجاهدي خلق, ومزوّد بمسيّرات انقضاضية ومعيقات رقمية وقدرات سيبرانية ومواد تفجيرية، لا بل وبمعامل متنقّلة للمسيّرات، أُدخلت خلال الشهور الستة السابقة للمعركة.
كان للموساد، منذ التسعينات، مفارز في الداخل الإيراني ركّزت جهدها على ترصّد وإعاقة المشروع النووي (والذي أُيقظ من سباته في أعقاب الحرب العراقية-الإيرانية, وتقدّم حثيثاً خلال ما تلاها من عقد ونصف عقد. لكن الاحتلال الأمريكي للعراق دفع طهران الى وقفه مغبّة أن يصبح ذريعة هجومٍ ثنّى بها بعد بغداد)، لكن من اتّخذ قرار تحويل المفارز إلى فيلق عرمرم كان آرييل شارون حال توليه رئاسة الحكومة، في شباط 2001، بغية أن يشكّل بديلاً وناجعاً عن الحاجة لخيار عسكري تقليدي رآه عسيراً للغاية، وأتى بخدينه مائير دوغان رئيساً للموساد، في العام التالي، كي يقود المجهود، فانكبّ لسنوات تسع عليه حتى أنضجه، وتوالى العمل عليه من بعده.
تمكّن "الثنائي" من قتل أربعين من صفوة القادة العسكريين والأمنيين والعلماء في الساعات الأولى. وتمكّنت "أمان" في اليوم الأول, في ضوء اختراق المنظومة العسكرية-الأمنية لايران بقنابل سيبرانية شالّة, من التواصل الهاتفي مع الناجين من قادة عسكريين وأمنيين عارضةً عليهم الأمان، إن أخْلوا وظائفهم في غضون 12 ساعة, أو المطاردة - لهم ولعائلاتهم - إن مكثوا. كان لافتاً رفضُهم جميعاً العرض، ونزولهم تحت الأرض ليباشروا مهامّهم القتالية. والغريب أن من بين من تيقّظوا لِما أتى صوبهم، وفي وقته، كانوا قادة القوة الجو-فضائية، لكنهم بدلاً من الانتشار تجمّعوا في مقر قيادتهم فكان أن قضوا جميعآً في ضربة جوية مركّزة. لكن فشله في اصطياد كامل الشريحة العليا، العسكرية والأمنية، والأهم في اصطياد المرشد، أودى بخطّة قطع رأس النظام إلى ركنِ: يالها من فرصة أضعتُها وضاعت.
أتى ابتغاء قتل المرشد من اعتقاد استشراقي مفاده أن حذف عمود الخيمة عند الشيعة كفيل بانهدامها. استدلّ أهل الاستخبار الاسرائيلي من كيف أدّى اغتيال السيد حسن نصر الله الى ترنّح حزبه، مغفلين أن ايران دولة - حضارة ضاربة في التاريخ, وليست حزباً مسلحاً في بلد صغير مجتزأ من اقليم كبير. ظنّوا أنهم حتى في حال نجا المرشد، شريطة الإجهاز على كلّ من حوله، لحقّقوا ذات النتيجة، لا بل وأمِلوا أن يعزّوا أنفسهم بإفضاء ذلك، مع ختام الحملة الفائز، الى جعله "هيروهيتو" ايران: مَن وقّع وثيقة استسلامها. ولساعات طوال بدا النظام وقد ترنّح على وقع حملة الاغتيالات، لكنه ما لبث وأن استعاد قدراً من توازن مع مساء اليوم الأول. تبع ذلك، تلواً، تراجع نجاحات الاغتيال في الأيام التالية.
وكما كانت الهشاشة السيبرانية إحدى كعبي أخيل لدى ايران كان الثاني كساح منظومة الدفاع الجوي. لذا، تمكّن الطيران الاسرائيلي من تأمين "سيطرة" جوية شبه دائمة غرب البلاد، ومتنقّلة وجزئية في باقي أرجائها، في ضوء إخراج وحدات دفاع جوي كثيرة من الخدمة - سيما في الغرب -، وسواء بالتشويش الرقمي من القاذفات أم بذلك الصادر من خوارزميات "جيش الظلال". وبرغم ذلك، فلم يتمكّن سلاح الجو الاسرائيلي من بسط "السيادة" الجوية فوق أي مكان؛ لمشاغلة منظومة الدفاع الجوي له، برغم ضعف امكانياته بالقياس، إذ المشاغلة بذاتها معيقةٌ لنشاطه وإنْ غير مهدّدة بإسقاط طائراته، لا بل ومكّنت بعض معافاة لها من إسقاط مسيّرات هجومية معادية, ما لبثت وأن استعملت لأغراض الهندسة العكسية.
كان من بين الأهداف الحيوية المقصوفة مفاعلي ناتنز وآراك (لاعادة معالجة البلوتونيوم) ومنشأة بارشين، من بين ما مجموعه ٢٥٠ هدف استراتيجي. كان للقصف تأثير مدمّر على آراك وبرشين, وأقل أثراً على ناتنز بسبب عمقه. لكن القصف لم يشمل منشأة عملاقة سرية لانتاج أجهزة الطرد المركزي, تقع في باطن جبل, قرب ناتنز, على عمق 220 متراً, إضافةً لمنشأة تخصيب أخرى, قرب أصفهان, من ذات الصنف, فضلاً عن اثنتين أُخريَين شبيهتي المواصفات في مكانين غير معلومَين. كلّهم معاً شكّلوا ما اصطلح على تسميته: المشروع الموازي. لافتٌ في هذا الصدد لحظُ قدرة ايران على انتاج 1-2 اسطوانة تكثيف كل أسبوع, وكلّ أسطوانة حوت 170 جهاز طرد مركزي؛ أي هناك وسطياً 250 جهاز مصنّع أسبوعياً, أي 13,000 سنوياً.
مع مساء اليوم الثالث، 15 حزيران، راح يتكشّف لترامب أنّ الرهان على قطع رأس النظام، مفتاحاً ل"فتح" ايران، قد خاب. أفقد الحال ترامب أعصابه, فانفلت لسانه من عقاله زاعقاً بطلب استسلام غير مشروط واخلاء لطهران, وملوّحاً باغتيال المرشد الايراني!.. جاءت زوبعته على خلفية خطرين ماثلين ومتقاطعين:
1- تمكُّن سلاح الصواريخ الإيراني من اختراق منظومة الدفاع الجوي، ذات الطبقات السبع، الحامية لاسرائيل، مرّات ومرّات، ما ألحق دماراً واسعاً في الداخل الاسرائيلي، نوعاً وانتشاراً. فمن بين 550 صاروخ و1000 مسيرة أُطلقوا أصاب حوالي ثُمْن الصواريخ (قرابة 52) أهدافاً مؤثّرة تضمّنت 18 هدفاً حيوياً للغاية، من استخباريّ لعسكريّ لاقتصاديّ لعلميّ لمَرافقيّ. حدث ذلك برغم خسائر واسعة في منصات الإطلاق في غرب البلاد، وخسائر أقلّ في مخازن الصواريخ ومصانعها، عبرها. مهمٌ هنا لحظ تأثير القصف الباليستي على مكوّن "ثاد" الأمريكي, من بين مكوّنات سبع, كمثال عن أداء المنظومة: جرى استهلاك ربع عدد الصواريخ (20 من 80), بكلفة 1.2 بليون دولار, وبعلم أن انتاجها السنوي هو 50 صاروخ.
2 - تفلُّت قاعدة (ماجا) الجمهورية - بالتقاطع مع يسار الديموقراط - من إسار ترامب، ما قارب حدود العصيان والخروج من الجلباب. صار انتقاد اسرائيل زاداً إعلامياً لنجومها؛ بل - ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية - بات الحديث عنها كما عن وزرٍ وعبءٍ وخانوق. صعدت إلى السماء السابعة صرخة أن "أمريكا أولاً" لا تشمل "وإسرائيل أيضاً" البتّة، وأنّ من بدأ المأساة ينهيها، وأن أمن الولايات المتحدة القومي لا يستبطن حماية ومشاركة هجومات اسرائيل على أحد.
بات ترامب يشعر حينها بأن حدود ما في وسعه فعله لسدَنته في اللوبي الاسرائيلي قد غدت ملموسة؛ بقي في الجعبة شيء وحيد، نابعٌ من اصرار اسرائيل عليه وهي تُضرب بضراوة في عمقها، وعلى خلفية جزئية نجاحها في تدمير "ناتنز"، ناهيك بعجزها عن التعامل مع "فوردو"، فصارت في مسيس حاجةٍ لجرعة إنعاش، ليس أمثل من استهداف المشروع النووي الايراني على توفيرها. ثم أن في وسعه "بيع" ضربه - مفرداً - ل"وطنيي/أمريكانيي" (ماجا)، فهم في النهاية لا يملكون بديلاً عنه رمزاً، كما وأن ضربه لا بدّ وأن تكفُّل بإسكات "اسرائيكيي" (ماجا) - المحوَّطين بالمحافظين الجديد وغيرهم من أهل "حزب الحرب" -. ثمّ أعلن أنه ذاهبٌ لضربه "في غضون" أسبوعين ما لم تقبل طهران بصفر تخصيب وبتفكيك المشروع القائم. لكنه، ولدواعي الخداع، لم ينتظر حلول اليوم الثالث من إنذاره حتى أَخرج للعمل 6 قاذفات بي- 2 لتلقي الواحدة منها 12 قنبلة، مساوية في مجموعها ل165 طن، على مفاعل فوردو -، في اليوم التاسع للمعركة.
لم تكن ايران هذه المرة لتقع ثانيةً في فخٍّ من صنع يديها؛ فسارعت، حتى منذ ما قبل "مهلته"، بإفراغ "فوردو" من الـ 408 كغ من اليورانيوم المخصب، ونقلها إلى مرابض "المشروع الموازي"، والعاجّ بأجهزة الطرد المركزي، المصنوعة محلياً.
هنا يعود بنا الأمر إلى خريف 2024: فبعد ضربة اسرائيل الجوية لايران، في 26 أكتوبر منه، كرّر كمال خرازي، مستشار المرشد، للمرّة الثانية - كانت الأولى قبلها بشهور خمس - أن ايران قد تقوم بتغيير عقيدتها النووية من تحريم انتاج السلاح إلى شرعنته. كان قرار الاكتفاء ببلوغ "العتبة" النووية - المتّخذ في نيسان 2021 -، نابعاً من وجوب التوفيق، في مجمّع الأمن القومي، ما بين المنادين بالمضيّ الى التسلّح النووي للتوّ, وأولئك المصرّين على التريّث خشية التورط في صدام عسكري مباشر مع الولايات المتحدة إنْ لَحظت نقطة التحوّل. (أفتح هنا قوساً لأنوّه بأن اجتناب صدام كهذا جزءٌ رئيس من العقيدة الاستراتيجية الايرانية لا يختلف عليه أحدٌ في مجمّع الأمن القومي.. الخلاف هنا كان على امكانية النفاذ الآمن من عدمها). كان الظنّ بكفاية "العتبة" للردع خطِلاً بامتياز، فليس هناك نصف حمْل؛ ثم أن ايران ليست البرازيل أو اليابان مثلاً؛ وطالما عدوّها اسرائيل ورعاتها فأولئك تكفيهم العتبة مصدر تهديد.
لكن حدث 7 أكتوبر 2023 الفارق - محليّاً وإقليمياً وكونياً -، جعل "المجمّع" يمضي, وإنْ بحذر وتمهّل, على طريق تجاوز "العتبة"؛ فقد أدرك أن مجرّد بلوغها لا يقي من الاستهداف بل هو يستدعيه، سيما وقد ادلهمّ خَطب الحدث وما قد يكتنفه من استهداف. تلقّى ذلك الاستنتاج جرعة تحفيز مع قصف القنصلية الايرانية في دمشق ثمّ اغتيال الرئيس الإيراني في ربيع 2024 (تصريح خرازي الأول جاء على تلك الخلفية). ثمّ ما إنْ رأت طهران ما حدث لحليفها اللبناني, في أيلول/أكتوبر منه, من نكسة, وما تعرّضت له ذاتها في 26 أكتوبر من هجوم جوي, حتى جرى وضع الانتقال ذاك على سكة أسرع؛ مكّنها فيلق كبير من العلماء والباحثين النوويين زاوجوا بين قدرتي التخصيب والتجهيز للتسليح. اشكالية ذلك التسريع لبوث اجتنابه نقطة التسلّح؛ أي هو تجهيز القدرة عليه ونقطة، ما عنى أن الردع ما زال معدوماً، بل وصارت معه شهيّة المستهدِف جامحة.
لم يكن ذلك التسريع بغائب عن رصد اسرائيل والولايات المتحدة، لذا انكبّ الجمع ["تساهل" - وبالأخص سلاح الجو و"أمان" - والموساد، من الجانب الاسرائيلي، والقيادة المركزية ووكالة المخابرات المركزية، من الجانب الأمريكي] على اعداد خطة عمليات شاملة زاوجت بين الشريكين، كلٌ وفق دوره. بلغ التحضير نقطة القرار أوائل ربيع - آذار/نيسان - العام الحالي (والذي كتبتُ - قبله بشهور سبع - أن عنده يكون حال المنطقة قد انقلب عاليها سافلها). وما كانت ملهاة ويتكوف سوى برقع خداع عَسُر - وما فتئ - تصديق كيف وقعت طهران في شِركه، فجر الجمعة 13 حزيران. وللموعد سببٌ إضافي, سوى خداع التفاوض, هو تقاعد قائد القيادة المركزية, الجنرال مايكل كوريللا, نهاية حزيران, لِما مثّله شخصاً, وكذا جهازه - واسرائيل ضمن نطاقه -، من حدب عارم عليها, ما جعل من تلك القيادة نتوءاً حادّ التضاريس على جسم العسكرية الأمريكية.
مع بداية الأسبوع الثاني للمعركة، علت نسبة نجاح ارتطام الصواريخ البالستية الايرانية, مرفوقة بانخفاض عدد إطلاقاتها؛ ما أوصل الأولى الى نسبة 40% اختراق لطبقات الدفاع الجوي الاسرائيلي و"الحليف" السبع, لتُثخن بذلك إيلاماً بالداخل الاسرائيلي، الأمر الذي لم يُملِ ضرب "فوردو" فحسب؛ لا بل والذهاب بعده إلى وقف النار، وإلّا ذهبت سكرة هجوم وحلّت محلّها قارعة.
والحال أن ترامب لم يكن في صدد الغوص في مغطس قتال ممتدّ, ففي باله أرق (ماجا) من زاوية, واحتمال اغلاق البحرية الايرانية الجزئي لمضيق هرمز, من زاوية أخرى. صحيحٌ أن الأسطول الخامس الأمريكي - ولديه طيرانه الخاصّ - كفيل بكسر الإغلاق, لكن لذلك ثمنٌ في المعدات والأرواح لا قِبل له بدفعه وهو الذي رئيس السلام والحالم ب"نوبله", وذو القاعدة النافرة من الحروب, فضلاً عن تأثير أي اغلاق - حتى لو ليوم - على اقتصاد بلاده بالذات. أضف أن خيار "هرمز" لم يكُ قد نضجْ, وذلك لاعتبارات صينية وخليجية بل وحتى ايرانية. احتاج وقف النار انتظار ردّ إيراني متوقّع على هدف أمريكي. جاء اختيار طهران قاعدة العيديد في قطر كي تكون هدف ضربة، محدودةٍ بحساب، لعاملين: مركزية القاعدة في المجهود الميداني الأمريكي، ومرونة قطر في استيعاب الضربة. وما إن وقعت ضربة العيديد حتى هرع ترامب لوقف النار؛ فقد تزاوج التحرّق الاسرائيلي اليه، درءاً لاستفحال أضرار الداخل النوعية والكمّية، مع جنوح ايران إلى وقفه، سيما ودفاعها الجوي قد شارف على الاهتراء، وهكذا كان.
لحق ذلك تعليق ايران تعاملها مع وكالة الطاقة الذرية, واشتراط انهائه بضمانات مشدّدة, أهمّها اقالة مديرها، رجل "لانغلي"، الأرجنتيني رافائيل جروسي؛ والذي دعا مندوبي الدول الأعضاء في الوكالة للاجتماع, في 12 حزيران, أي عشيّة الهجوم, ليخبر حضور لك الاجتماع العاصف بأنه قد فقد القدرة على تتبّع انتاج وحجم مخزون أجهزة الطرد المركزي, فجرَّ من مستمعيه قرار اعتبار ايران عاصية؛ ما كان غبّ الطلب المنتظر من رعاته, ومن الاسرائيليين. لم يكتف جروسي بفعلته تلك بل قدّم لرعاته وربيبهم قائمة بأسماء العلماء النوويين الايرانيين الذين قابلهم, لوثيق صلتهم بالمشروع.
كان لافتاً تناول ترامب الغداء مع الجنرال عاصم منير، رئيس الأركان الباكستاني، يوم 19 حزيران. بادٍ هنا استغراق الأول في تحذير الثاني من مغبّة إسناد ايران، من جهة، وتخديره بخصوص أيّة نيّة لاسرائيل لمطاولة باكستان ما إن تفرغ من ايران - وهي خشيةٌ لابثةٌ في عقل المؤسسة العسكرية-الأمنية الباكستانية - من جهة أخرى. عندي أن ISI بالذات مدركةٌ لتهالك صدقية ضمانات ترامب؛ وعليه، فالراجح أن هناك دوراً لهم في العون الصيني لايران؛ جُلِّل بترشيحهم ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام!.
ثم جاء دور الغواية الترامبية علّها تُخرج من رأس طهران فكرة الاستمساك بمشروعها النووي؛ أنْ ها لك 30 بليون دولار, خليجي المصدر, تُقدّم, وهذه عقوبات أمريكية قصوى تُرفع, وهناك اندراجٌ في منظومة اقليمية تُشاد؛ وما على ايران سوى أن ترفل بنعيم النِعم. فلمّا لاقى عرض ترامب "جحوداً" ايرانيا ازورّ عنه وعنها؛ وسحَب العرض!.
ما هي خيارات ايران؟
الأول: العودة الى سياسة "العتبة+": القدرة, بالتخصيب الفائق, على إنتاج السلاح, وتقصير أمد جهوزية تركيب رؤوسه على صواريخ ناقلة؛ أي دون بلوغ حدّ التذخير... الثاني: المضيّ دفعة واحدة الى الانتاج فالتذخير. كلا الخيارين اقتضى غياب وكالة جروسي عن المشهد, لا بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي ذاتها, كما فعلت كوريا الشمالية في 2002, فذلك تزيّد غير محمود لأحدٍ لا يمتلك السلاح بعد, وانما بالاكتفاء بتعليق التعاون مع الوكالة.
ولا بدّ أن نقاشاً مفاضلاً بين الخيارين قد شمل أسئلة من عيار: هل لو امتلكنا السلاح لتعرّضنا لهجوم "قطع رأس" كذلك الذي باغتنا؟ أكان ممكناً لمثله أن يقع على بيونغ بانغ, صاحبة ال50 قنبلة؟.. في المقابل: ألم تقع القنابل على موسكو وعلى عموم الداخل الروسي؟ ولماذا نذهب أبعد؛ ألم نلق نحن القنابل على تل أبيب وعلى عموم اسرائيل؟
ما سيحسم الجدل المستعر حدوثُ متغيّر واحد من عدمه: تحوّل الشراكة الايرانية مع كلّ من الصين وروسيا الى حلف مرصوص... طيب, ما حوافز الاثنتين لتبنّي ذلك الخيار؟... كان جليّاً خلال المعركة انكفاء كل من الصين وروسيا عن القيام بدور فعّال في إسناد ايران، مكتفيَتين بالدعم الدبلوماسي وبإبداء النصح في قبول وقف النار؛ وكلّه برغم استيائهما العامر من تعرّض شريك - وليس حليف - لهما لهجوم أمريكي مباشر. فكما هو جزء من العقيدة الاستراتيجية الإيرانية اجتناب صدام عسكري مباشر مع الولايات المتحدة، فهو ذات الحال عند كلّ من روسيا والصين. من هنا الامتناع عن تزويد ايران بسلاح نوعي أو كاسر للتوازن مسّ بمنعة اسرائيل؛ إذ هي عندهما نافذةٌ انبغى أن تبقى مفتوحة على واشنطن، لكونها الأقرب إلى فؤادها وعقلها. ثمّ أن قفزة تسليحية لايران كفيلةٌ بإزعاج الخليج، مكمَن مصالح ضخمة للاثنتين، فضلاً عن أن روسيا قايضت اسرائيل، حال انطلاق الحرب الأوكرانية، بامتناع الأخيرة عن تزويد أوكرانيا بسلاح نوعي [القبة الحديدية مثلاً] لقاء عدم تزويد روسيا لايران بقاذفات سوخوي- 35.
لكن تلك الحسابات باتت خاضعة لإعادة نظر جذرية بعد المعركة؛ هناك أولاً, من بدأ بايران آتٍ صوبنا بوتيرة أسرع, وثانياً, ففي "فتحها" اقتحامٌ لأسوار أوراسيا, وثالثاً, ففي تدعيم دفاعاتها صون لنا من خارج الأسوار. برزت الآن الى السطح خشيتهما من اسقاط النظام بالقوة المسلحة، لِما شكّله من سابقة تخصّهما، ومن خشية الصين على أمان مضيق هرمز وطريق/حزام الحرير. وبعلم أنهما عارضتا، وما انفكّتا، تسلّح ايران نووياً؛ إلّا أن تعرّضها لهجوم مباشر جعلهتما ترفعان منسوب الدعم، من جهة، وتغضّان الطرف عن المسألة النووية من خلال تفهّمهما تعليق ايران لتعاونها مع وكالة الطاقة الذرية، من جهة أخرى. وعليه، فقد كانت لافتةً دعوتهما وزراء دفاع "منظمة شنغهاي" - وبضمنهم وزيري الدفاع الإيراني والباكستاني، فضلاً عن وزيريهما - للاجتماع في اليوم التالي لوقف النار. باتت أولويتهما - فضلاً عن ايران ذاتها - سدّ ثغرتي السيبراني والدفاع الجوي الإيرانيتين على عجل - ما أسهم جزئياً في نجاح الأمن الإيراني خلال، وسيما إثر، المعركة في اصطياد مئات من عملاء "الظلال" -، مرفقاً برغبتهما في امتناع ايران عن مغادرة "العتبة"، واكتفائها بتعليق التعاون مع وكالة جروسي.
طيب, هل يصل الأمر بالأطراف الثلاثة - ورابعهما الكوري من خلف - أن تدشّن حلفاً, عسكرياً في حيّز منه, لقاء اكتفاء ايران ب"العتبة", أكانت مع + أم بدونها؟.. لذلك أن يطمئن الخليج من نووية كاملة الأوصاف لايران, ولن يفتّ من عضد الصين ولا روسيا إنْ لجأت واشنطن لايقاع مزيد من العقوبات عليهما, وليس في وسع اسرائيل متّسعٌ لإيذاءٍ مضاف, سيما وتَكرّمها على أوكرانيا بقبّة حديدية بات خارج الحساب. فإذا أضفنا تخلّي طهران عن حساسيتها من شروط موسكو بخصوص بيعها بطاريات اس- 400: أن قرار الاستخدام مشترك, لبان أن ظروف ابتناء حلف قد غدت مختلفة عمّا كانته في 12 حزيران. ثمّ أن حلفاً كهذا كفيل بعون ايران على رفع منسوب وقود صواريخها الصلب عن السائل, وفي تسريع انتاج منصّاتها, كما في تكسير حواجز العقوبات الأمريكية القصوى عليها.
وعليه, فذلك عندي هو الظرف الوحيد الكابح لخيار الذهاب الى السلاح, وإلّا فالطريق اليه مسافة شهور.
ما خيارات اسرائيل؟
بدءاً, فقد ثبت لها قبل الجميع أنها غير قادرة على شنّ حرب من دون مشاركة الولايات المتحدة لها دفاعاً وهجوماً وانتهاءً. والشاهد أن ذلك حالها في كلّ حروبها من بعد 1967 - وحتى منها حرب غزة, الممتدة لعشرين شهراً ونيّف وما تزال - لكن المعركة الأخيرة هي الأسطع في تبيان وتبيين حقيقة مفجعة لاسرائيل ومن هم بجانبها: هي أعجز من أن تكون قوة اقليمية بمعنى الكلمة, ناهيك بكونية؛ كما تبجّح بعض أركانها مؤخّراً. ماذا يدع لها ذلك؟ إمّا أن تلجأ لسلاحها النووي, وعندي أن ذلك خارج الأوراق, أو أن تجرّ - وبالأحرى تنجرّ - الولايات المتحدة الى خوض الحرب على عدوها/أعدائها بقضّها وقضيضها؛ وعندي أن ذلك لم يعد في الأوراق أيضاً.
إذن, ليس في وسع اسرائيل سوى الاتّكال على "جيش الظلال".. طيب, ما بين تيقّظ "الباسيج" - بقوة 2-3 مليون منتسب - والأمن في عموم, وبين ترميم فتدريع "السيبراني" - للحلف إنْ قام فضل متزايد في ذلك -, فكفاءة ذلك "الجيش" تغدو محطّ شكّ. لكنه الخيار الوحيد أمامها, أو كاد, حتى اشعار آخر.
30 حزيران 2025
جماعة الإخوان المسلمين والوثائق الثلاث
حول اغتيال سامي الحناوي في بيروت
الأمة العربية بين الوعي والمقاومة: صراع التاريخ والخيارات المستقبلية
عندما أضاع حافظ الأسد فرصة السلام مع اسرائيل
المجازر العثمانية في سورية الطبيعية والأناضول
الترامبية كجنون مؤسَّس.. من نقد فوكو للعقل إلى انهيار السياسة
حول اتفاقية أضنة وتسليم عبد الله أوجلان
الإسلاميون والإثنيات والمساكنة العجيبة
قراءة في خطابي الرئيس دونالد ترامب: (1) أمام الكنيست الإسرائيلي، و(2) في قمة شرم الشيخ أمام رؤساء دول حول "خطة السلام/الاستقرار" المتعلقة بالقطاع
كيف أفسد حافظ الأسد المؤسسة العسكرية- ح2
ما تشهده سورية حاليًّا كنّا قد توقّعناه حرفيًّا عام 2012
كيف أفسد حافظ الأسد المؤسسة العسـكرية؟- ح1
حرب تشرين ومذكرات الفريق الشاذلي
الإسلام السياسي.. التحولات الجيوسياسية والتوظيف الغربي
ظهور العلوية السياسية: الأخطاء الاستراتيجية القاتلة للعلويين (2)