كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الإسلاميون والإثنيات والمساكنة العجيبة

صقر أبو فخر

أعلن الحاكم الأميركي المدني للعراق، بول بريمر، في مايو/ أيار 2003، غداة سقوط نظام الرئيس صدّام حسين، قراراً قضى بحلّ الجيش العراقي وجميع مؤسّسات الأمن الوطني، بما فيها أجهزة الاستخبارات. وكان من عقابيل هذا القرار اللئيم أن العمود الفقري للدولة العراقية تحطّم وتخلخلت مؤسّساتها وتهتكت بنيتها. وأدّت التفاعلات الأمنية والسياسية اللاحقة إلى تقاتل طائفي مروِّع، ورحنا نشهد الذبائح بين كل غادٍ ورائح. وانتهت تلك الأحوال إلى تقسيم العراق بين ثلاثة أقاليم فيدرالية عاجزة، وربّما نرى في ما بعد إقليماً رابعاً في سهل نينوى للمسيحيين والأقلّيات الباقية (سبحان الحيّ الباقي). وحين بلغت ركائب أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) دمشق متغلّباً، كان أول ما فعله إعلان حلّ الجيش العربي السوري، وحلّ جميع الأحزاب السياسية السورية العريقة والعتيقة، فصارت سورية بلا حيل أو حول أو عزيمة، مثل دجاجة عرجاء لها جناحان لكنّها لا تطير. وتدفقّت جموع مقاتلة، وهي غير مسيّسة، وغير عقلانية، ومتسربلة بالفكر الغيبي، ومفعمة بغرائزها. ولم يطل الزمان غير ثلاثة أشهر حتى كان السوريون العلويون يتعرّضون للفتك الهمجي، والسوريون المسيحيون للقتل المتفرّق قبل تفجير إحدى كنائسهم في محلّة الدويلعة، والسوريون الدروز لمذابح متنقلّة في جرمانا وصحنايا، وأخيراً المجزرة الدنيئة في مدينة السويداء وقراها المحروقة.

كان صوت الفيدرالية مكتوماً في سورية في الحقبة المنصرمة، أمّا اليوم فقد شرعت فِكَر الفدرلة ومشاريعها المشبوهة تغمر الجماعات السورية العابثة بالمستقبل السياسي لبلدها. وتأتي تلك المشاريع في سياق صعود ديناميات التفكك على أسس طائفية أو إثنية: إقليم للكرد، وإقليم للدروز، وإقليم للعلويين، وإقليمان للسُّنة. يمتدّ الأول من درعا إلى شمال دمشق، والثاني من جنوب حمص إلى حلب وفيه الرقّة ودير الزور، وربّما، في أحوال جيوسياسية مواتية، ينشأ إقليم أو سنجق للمسيحيين في منطقة الجزيرة. حتى لبنان "الفلعوص" يريده بعضهم فيدرالياً على أساس طائفي. وعلى هذا المنوال، وما دام العراق دولةً فيدراليةً، والإمارات دولةً فيدراليةً ناجحةً، فلماذا لا تصبح سورية فيدراليةً، وليبيا فيدراليةً (برقة وفزان وطرابلس)، والسودان فيدراليةً (الخرطوم ودارفور وكردفان)، والجزائر فيدراليةً (عرب وأمازيغ ومُزابيون)، والمغرب فيدرالي (عرب وأمازيغ وصحراويون)، وحتى فلسطين يمكن أن تصبح فيدراليةً (غزّة وما يبقى من الضفة الغربية). وإذا كانت أفكار الفيدرالية تلقى ترويجاً شائناً في كثير من وسائل الإعلام، ولدى أكاديميين قليلي القيمة العلمية، إلا أنني أرى أنه إذا قطعنا قلم الرصاص نصفين فسيصبح لدينا قلمان قصيران مفيدان. وإذا قطعنا قالباً من الجبنة نصفين أيضاً، سيصبح لدينا قطعتا جبنة. لكن إذا قطعنا عصفوراً قطعتين، فلن يكون لدينا غير قطعتين من اللحم العفن وريش عليهما. إن ألف نصف فيلسوف لا يساوي فيلسوفاً واحداً إطلاقاً. والغلبة العددية لأيّ جماعة، طائفةً أكانت أم إثنيةً، لا تمنحها حقوقاً قومية أو الحقَّ في تقرير المصير على الإطلاق، لأن العدد مسألة متغيّرة، والزمان دولاب سريع الانقلاب. أمّا التمسّك بحقوق قومية أو غيرها استناداً إلى مسائل متغيّرة فهو خطير جدّاً، ويؤدّي، في أحوال مضطربة، إلى كوارث ونزاعات دموية كلما تغير الميزان العددي. لنُحِل هذه الفِكَر ومروّجيها وشيوخها إلى مستودع الأشياء البالية، ولنترك تلك الهُويَّات تدفن موتاها ثم تُدفن إلى جانب الموتى.
 إذا كانت النزعة القومية العربية قد حاولت صوغ مشروع مستقبلي يتضمّن إدماج العناصر التكوينية للأمّة على المدى الطويل، وتأسيس دولة – أمة من طراز حديث، وعلى الرغم من الفشل الذريع في هذا الميدان، إلا أن النزعات القومية الجديدة والطائفية المتجدّدة تنبعث حالياً بصورة تدميرية لدى الأقلّيات التي ما برحت لابثةً عند ماضيها المضطرب. ولا ريب في أن عودة الولاءات الطائفية والإثنية والقومية إنما تتسارع في هذه الأوقات جرّاء الحركات الشعبوية التي حرّرت (من دون أن تدرك نتائج ذلك) التناقضات الكامنة في كل مجتمع من قبضة السلطات الاستبدادية. والنزعة القومية العربية تشاكلت، وأحياناً تجانست، مع النزوع السُّني لسكّان المدن، مع أن مؤسّسي الفكرة القومية كانوا في معظمهم من غير السُّنة (بطرس البستاني، أنطون سعادة، علي ناصر الدين، ميشال عفلق، قسطنطين زريق)، فمناهج التدريس في سورية، على سبيل المثال، سيّما التاريخ، وقوانين الأحوال الشخصية، ولائحة الأعياد الدينية الرسمية، وبرامج الإذاعة والتلفزيون، كانت على العموم سُنّية، أو قومية عربية ذات ملامح سُنّية، ولم يُشتمّ منها، في أيّ حقبة، رائحة طائفية ساطعة أو فائحة. وبهذا المعنى فإن صدّام حسين مثلاً (ومعه حتى حافظ الأسد) لم يكن طائفياً بالمعنى المقيت لهذه الكلمة، وإن استعمل كل واحد منها الطائفية وسيلةً لتثبيت سلطته وحمايتها. كان صدّام (ومعه حافظ الأسد) مستبدّاً، ولم يحكم كل واحد منهما بطائفة محدّدة، بل بجهاز الدولة من جيش ومخابرات وحزب قائد. وكان أعضاء حزب البعث في العراق في أغلبيتهم من الشيعة لا من السُّنة، وكذلك الجيش. ولم تتفاقم المسألة الطائفية في العراق إلا في معمعان الحرب العراقية – الإيرانية. لنتذكّر أن النظام العراقي البعثي قتل، قبل إعدام محمد باقر الصدر في سنة 1980، الشيخ عبد العزيز البدري السامرائي في 1969، وهو سُنّي. وبعد الانتفاضة الشيعية في البصرة في جنوب العراق في 1991 فور انسحاب الجيش العراقي من الكويت، اندلعت انتفاضة الرمادي السُّنية غداة تشييع جثمان الفريق محمد مظلوم الدليمي ورفاقه، الذين أعدمهم صدّام في 1995.

هذه المساكنة غير الشرعية بين الاستبداد، الموشّى بمقادير من العَلمانية، والأسلمة ما كانت لتظهر إلا في الشام وبين أهل الشام، الخبراء في ابتداع الحيل والمخارج على غرار قبر الصحابي حجر بن عدي الذي نسفه الإرهابيون في سورية في سنة 2013، وحطّموا شاهدة القبر التي قيل إنه كان منقوشاً عليها في إحدى الحقب بحسب بعض الرواة ما يلي: "هنا مرقد الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي رضي الله عنه الذي قتله الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما لأنه رفض أن يلعن الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه". فحاكم الشام عليه أن يحتال حتى يصيد غزالاً ولو على حمار أعرج، ويجهد كي يبقى مثل الزيت: دائماً إلى الأعلى. وهو، إلى ذلك، لا يرغي ولا يزبد، ولا يشخر أو ينخر، وليس لديه فم يُسبّح ويد تذبح.
بلاد الشام مجال جيواستراتيجي واحد على الرغم من تقسيمها بين أربع دول على أيدي الاستعماريَن البريطاني والفرنسي. وما برح هذا المجال مترابطاً جدّاً، فما يحدُث في أيّ بقعة منه يؤثّر مباشرةً في البقاع الأخرى، وينتقل من هنا إلى هناك رغماً عن الكيانات والحدود. ولا أحد يجادل في أن ما حدث في غزّة في 7 أكتوبر (2023) كان له التأثير الفوري في ما وقع في لبنان في اليوم التالي، أي في 8 أكتوبر 2023 فصاعداً. وما حدث في السويداء في يوليو/ تموز 2025 كاد أن يمتدّ إلى جبل لبنان حاملاً معه المخاطر الطائفية اللعينة. وألقت مجازر الساحل السوري التي ارتُكبت في حقّ العلويين ظلالها على عكّار وطرابلس في شمالي لبنان. ومهما يكن الأمر، ما وقع للعراق في سنة 2003 (سقوط نظام صدّام حسين) انعكس بسرعة على بلاد الشام، وأدى لاحقاً إلى انفجار الوضع السوري، وإلى ما نراه الآن ونسمعه.

لا يستطيع عاقلٌ أن يدّعي أن ما يحدث في فلسطين أمر لا يهمّه ولا يخصّه ولا يعنيه. هذا خبال وغباء وهراء، ولا تنفع جميع تعاويذ الحياد في تجميل تلك البشاعة، وهي أقبح من حتى في مواضع شتى، فإذا اشتعلت النيران عند الجيران، لا يمكن أن يبقى الجار ساكناً ويردّد: "الأمر لا يخصّني والبيت ليس بيتي"، فالنار ستمتدّ حتماً إلى بيته. وشاهد ذلك أن الحرب في سورية قذفت ملايين السوريين إلى لبنان والأردن والعراق، مثلما قذفت الحرب الأهلية اللبنانية قبل ذاك مئات آلاف اللبنانيين إلى سورية. والنكبة الفلسطينية في عام 1948 جعلت 700 ألف فلسطيني (ستة ملايين اليوم) يلجأون إلى سورية ولبنان والأردن، علاوة على مصر والعراق. لقد دار الزمان دورته، وها نحن دول بلا جيوش، وجيوش بلا عتاد، وأرض متروكة بلا جيش يحميها أو دولة ترعاها، وشعوب مهاجرة وهائمة وبلا هُويَّة مثل قبائل البدو وعشائر الصحاري في زمن بني هلال وتغريبتهم المسلّية. وهذا المآل هو أفضل حال لدول المحيط غير العربي؛ فالعراق القوى لا يلائم إيران، وسورية المنيعة لا تريح تركيا، ومصر الضعيفة مكسب خالص لإثيوبيا الناهضة اليوم بهمة أبي أحمد البروتستانتي الخمسيني. وهذه الدول العربية الثلاث يلائم ضعفُها إسرائيل أيما ملاءمة، ويعزز سطوتها وسيطرتها وأمنها القومي.
بعد مائة وست سنوات على إعلان المؤتمر السوري العام اختيار فيصل الأول ملكاً دستورياً على سورية، وبعد مائة وخمس سنوات على سقوط الحكومة العربية الفيصلية غداة موقعة ميسلون الخالدة، ها نحن جميعاً سقطنا في هاوية المكان والتاريخ معاً، وصارت أحلامنا القديمة في الحرية والعدالة والوحدة مدعاةً للضحك. وكيف لا يسخر الواحد من نفسه بعدما صارت هيئاتنا مثل أسنان المظلوم، أو مثل أسنان المنشار المثلوم؟ إننا من صعوبة البكاء نضحك.
العربي الجديد