كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حرب تشرين ومذكرات الفريق الشاذلي

عاطف معتمد

في 11 مايو 2025 توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكر بلاده العميق لقوات من كوريا الشمالية لأنها قاتلت بشجاعة وبطولة "كتفاً بكتف" مع الجنود الروس لتحرير أراض روسية من العدوان الأوكراني".
كان هذا التصريح لافتا عند مستويين:
- هذا حدث نادر في تاريخ روسيا يعترف فيه الكرملين بالشكر لدولة أجنبية قدمت مساعدات بشرية للجيش الروسي، وهي سابقة دالة على الأزمة الديموغرافية في الجيش الروسي الحديث.
- هذه أول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تتعرض أراض روسية لاحتلال من قوى أجنبية (قوات أوكرانية مدعومة من الناتو) ما اضطرت موسكو معه إلى الاستعانة بقوات دولة أجنبية لتحرير أرضها.
وقد أعادني هذا الخبر إلى الصفحات 118 - 123 من مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي عن استعانة مصر بدعم عسكري من كوريا الشمالية في حرب أكتوبر.
وأصل القصة أن مصر استعانت بعدد من الطيارين من كوريا الشمالية بعد قرار السادات الاستغناء عن الخبراء السوفيت (الحادثة المعروفة تاريخيا باسم طرد الخبراء السوفيت).
وقد ترك قرار السادات القوات الجوية في مأزق، فطلب الفريق سعد الشاذلي بموافقة السادات من كوريا الشمالية طيارين خبراء على قيادة الطائرة الروسية "ميج -21". لتعويض مغادرة 100 طيار روسي خرجوا من مصر، وبقيت الطائرات من دون طيارين.
وقد وافقت كوريا باعتبار أن جبهة سيناء ميدان خصب للتدريب العسكري، وأن عدو مصر يتعامل مع تقنيات أمريكية كالتي تتعامل معها عدوتها الجنوبية.
وقد سافر الشاذلي بموافقة السادات إلى كوريا الشمالية فتم استقباله هناك استقبالا كريما بالغ التقدير والاحتفاء، وأتم التعاون العسكري مع الرئيس الكوري Kim IL Song.
وصل الطيارون الكوريون إلى جبهة سيناء في يونيو 1973 وقد تألفوا من 30 طيارا منهم 8 موجهين جويين و5 مترجمين و3 عناصر للقيادة والسيطرةـ علاوة على طبيب وطباخ. وكانوا يعملون في قاعدة جوية تضم 3000 جندي وضابط مصري.
وقد ساهم الطيارون الكوريون في حرب أكتوبر 73 واشتبكوا - وفقا لرواية الشاذلي- اشتباكا فعليا مع طيارين إسرائيليين في سماء المعركة.
وتأخذنا هذه المعلومات الحصرية إلى الأهمية الكبرى لمذكرات الفريق الشاذلي.
فكتابه هذا يعد واحدا من الكتب المهمة في تاريخ مصر العسكري الحديث والمعاصر. ويستمد تفرده من المرحلة المفصلية لتاريخ مصر في تلك الفترة.
لا يتعرض الكتاب لحرب أكتوبر فحسب بل للظروف العسكرية التي بدأت بهزيمة 1967 ووصلت إلى أكتوبر 1973 وأحداث الثغرة وما بعدها.
ويضم الكتاب عرضا لأطياف واسعة للشخصيات التي صنعت التاريخ في تلك الفترة، لا سيما عن القادة العسكريين والرئيس السادات وعدد من المحيطين به
والكتاب مدهش في منهجه، إذ يزاوج بين الالتزام البحثي المنظم المعزز بالمعلومة والإحصائية والوثيقة والروح الإنسانية التي كتب بها المؤلف قصته.
فنحن لسنا هنا أمام قائد عسكري يكتب الأحداث من زاوية المنتصر الذي يفخر بما قدم، ولا السياسي الذي يخلد ذكراه، ولا الصحفي النافذ الذي يذكر وقائع وأشخاص لم يعرفها غيره وليس بوسعنا التأكد منها، بل صاحب الكتاب لديه روح مؤلفة من مزيج من: الاعتداد بالنفس، الألم، العتاب، اللوم، وبعض من الاتهام والشكوكية.
وحين قدمت عرضا لهذا الكتاب العام الماضي ختمت بقولي إن الحلقات التي ظهر فيها الفريق الشاذلي في برنامج "شاهد على العصر" في قناة الجزيرة لم تصل إلى عقلي وقلبي.
ولعل ذلك مرده أنني تلميذ الورق والكلمة المكتوبة، فالشاذلي الذي استولى على خيالي هو شاذلي الكتاب، والشاذلي المنصف واسع العرض وصاحب البانوراما الكاملة للقصة هو شاذلي الكتاب.
وخلافا لكل ما يقال عن هجوم الشاذلي على السادات فإن المذكرات المطبوعة التي اطلعت عليها (طبعة دار رؤية) تتسم بتوازن شديد، ومنزهة عن أي تجريح، وتقدر الخصوم وتحترمهم وإن اختلفت مع تقدير مؤهلاتهم العسكرية.
بل إن قراءة متأنية للكتاب ستكشف لنا العلل وراء كل تلك القرارات الصعبة والمتضاربة التي اتخذت أثناء معركة أكتوبر.
ذلك لأن هذه الحرب هي ابنة السياق التاريخي والجغرافي لنصف قرن سابق عليها، ومن دون فهم هزيمة 1967 لا يمكن فهم انتصار 1973.